الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحبك·· باريس ·· يتجاوز الطابع السياحي

أحبك·· باريس ·· يتجاوز الطابع السياحي
31 يناير 2008 01:18
في عمل أقرب للخريطة السينمائية الدالة على روح الأمكنة، يقدم فيلم ''أحبك باريس'' ما يشبه الموزاييك البصري والسردي الذي يجمع خلفيات وشواهد وجماليات المدينة مع تلك القصص الإنسانية المشمولة بالحب كما بالفراق، وبالبهجة كما بالأسى، وبالنشوة كما بالحزن، فباريس في هذا الفيلم المختلف في تصنيفه وانشغالاته، لا تشبه مدينة النور والأضواء التي نراها عادة على البطاقات والكتيبات السياحية، بل هي في هذا الفيلم بالذات تأخذ طابعاً انطولوجيا يبتعد عن الوصف والترويج المعماري، ويقترب أكثر من وصف الحياة الداخلية والسرية للشخوص القاطنين والزائرين والمهاجرين إلى هذا المكان السحري بامتياز، إنه فيلم وبالمعنى الشامل لفهم الوجود الإنساني يقتنص الحالات البشرية في إحدى أكثر المدن العالمية شهرة بانفتاحها على الفن والثقافة والتجريب واقتحام الحياة من منافذها الواسعة والرحبة· إن مدناً على شاكلة باريس ونيويورك وأمستردام وروما وطنجة على سبيل المثال هي مدن ملهمة للأفكار السينمائية على الدوام، لأن طابعها الكوزموبوليتي يشتمل على مرويات ضارية وفاتنة تتعانق مع إغواءات الجذب الروحي للمكان، وتحتفل في ذات الوقت بذكريات جامحة اختزنها الفنانون والمخرجون والشعراء والرحالة الذين غرفوا من الثراء البصري والعاطفي الهائل الذي تمنحه هذه المدن بكرم وفيض وأريحية· يستعرض ''أحبك باريس'' لهواة ''النوع'' 18 فيلماً قصيراً، بهوية فنية وموضوعية مكثفة لكل فيلم ، وبتوقيع عشرين مخرجا عالميا، يتجولون خلال ساعتين من السرد البصري على خلفية المدينة الضاجة بالحكايات والمشاغل الدفينة والمنسية في عتمة المنازل والشقق والمحترفات الفنية، وحتى في الملاهي الليلية ونزل البغاء والمقابر والأحياء المهمشة على أطراف الضواحي· من الأسماء الإخراجية الشهيرة التي ساهمت في هذا الفيلم الأخوة كوين، وتوم تويكر، وجس فان سنت، وأوليفر شميتز، وألكسندر باين، والفونسو كوارون، وبرونو بودالايديس· وذهب نصيب التمثيل في الفيلم إلى أسماء مغمورة وأخرى شهيرة في عالم الفن السابع، ورغم مساحة الدور الضيقة التي يفرضها زمن كل فيلم وهو خمس دقائق، إلا أن الفنانين المخضرمين أمثال بن غازارا، وجيرارد ديبارديو، ووليم دافو وستيف بوشيمي وجولييت بينوش وبوب هوسكينز ونيك نولت، استطاعوا أن يمنحوا الأفلام ما تستحقه من وهج أدائي وبريق جواني يربط بين العفوية والارتجال والخبرة· اتكأت معظم القصص على اللغة الفرنسية ما عدا ثلاث منها جاءت بالإنجليزية، وبتوابل إضافية من لغات أخرى مثل الأسبانية والنيجيرية والعربية، وذلك على هوى الجنسيات والأعراق التي تستقطبها باريس، بغض النظر عن تكيف هذه الهويات مع شرط المكان، أو نفورها منه ومن ضغوطه المادية والاجتماعية، وحظوظه المتقلبة بين الصعود والانتكاس· يقدم فيلم ''أحبك باريس'' اقتراحات فنية متعددة المنابع والمشارب والأذواق، وهي اقتراحات تستند على الخبرة الذاتية لمخرجي الأفلام، وعلى احتكاك شخصي وذاكرة حية استغلت النص المكتوب والشكل التعبيري، كي تترجم هوية وزخم المناخ الاجتماعي والمعماري المنعكس والمعبر عن الخصوصية المستقلة لكل ضاحية في باريس· عذابات خفية يقدم الفيلم أيضا درساً جمالياً وأسلوبياً لعشاق ومخرجي الأفلام الروائية والتجريبية القصيرة، لأنه استطاع أن يصل وبأقل كلفة زمنية إلى أفكار ومضامين القصص، مستغلا التكثيف البصري والإيحائي الذي يميز الأفلام القصيرة، من حيث قدرتها على استجلاب المحتوى العام بضربات فنية غاية في الدقة والاهتمام بالتفاصيل وزوايا التصوير والإيجاز في الحوارات وإيصال الفضاءات النفسية للسيناريو بطرق مختصرة ومحكمة· في إحدى القصص المؤثرة في الفيلم نرى عامل النظافة النيجيري وهو يحيك قصة حب افتراضية مع فتاة سمراء يراها بالصدفة في موقف للسيارات، ويظل يغني لها بلحن أفريقي دافئ، وعندما يتم طعنه من قبل عصابة عابرة في الشارع، يفاجأ بالفتاة ذاتها التي رآها في موقف السيارات وهي تحاول إسعافه مع فريقها الطبي، ويقول لها في حوار شفاف وشعري: هل تريدين أن أدلك أصابع قدميك؟ وترد عليه: ولكن قدمي لا تؤلماني؟ ويجيبها: لقد رأيتك وأنت تركضين طوال الليل في أحلامي! ثم يدعوها لفنجان قهوة، والفتاة مندهشة وغير مستوعبة لأحاسيس هذا الرجل الغريب والقريب من الموت وهو يغني لها بكلمات أفريقية دافئة، وعندما تصل القهوة يغادر الرجل الحياة على وقع ارتجافة وحزن الفتاة الذاهلة· في قصة أخرى مزدحمة بالتأويل والمزج بين الواقع والحلم، نرى الأم ـ تؤدي دورها جولييت بينوشه ـ وهي تخاطب طفلها الميت، وتقول له إن رعاة البقر الذين تحبهم مازالوا موجودين· وفي إحدى الليالي ـ وفي مشهد حلمي وساحر ـ تسمع الأم صوت طفلها وهو يلهو مع أصدقائه في الساحة القريبة من المنزل، وعندما تذهب لمعانقته ترى راعى بقر حقيقي يخرج من بين الممرات وصوت الحوافر يضفي إيقاعاً حانياً على المكان ـ يقوم بدور الراعي الممثل الشهير وليم دافو ـ تترك الأم طفلها مع راعي البقر، وتدعهما يرحلان معا في أزقة باريس المعتمة، وهنا فقط تشفى الأم من أحزانها، لأن حلم طفلها الراحل أصبح أقوى من الحقيقة ذاتها· في فيلم آخر نرى طيف الكاتب أوسكار وايلد وهو يخرج من مقبرة العظماء ويعطي عاشقين على وشك الانفصال وصفة جاهزة لمعاني الحب والتضحية والبوح بالكلام المناسب في الوقت المناسب· وتعرج إحدى القصص على حالة التمزق التي يعانيها زوج يقرر هجر زوجته، والارتباط نهائيا بعشيقته، وقبل أن يصارحها بقراره في إحدى المطاعم الباريسية الشهيرة، يفاجأ بها وهي تخبره بأنها مصابة بسرطان الدم، وهي على وشك مغادرة الحياة، فيلغي كل ما يتعلق بمشروعه العاطفي الجديد ويقرر الاعتناء بزوجته ويكتشف أن حالة الحب تكون أكثر عمقا ونقاء عند الإحساس بفقدان المحبوب· سيرة المكان ويقدم الإخوة كوين قصة غرائبية وسوريالية حول سائح أميركي يكتشف في إحدى محطات الأنفاق الأرضية، بأن باريس ليست فردوسا أرضيا بالمطلق، فالعشاق الذين يراقبهم في المحطة يتحولون إلى أشخاص بشعين ومجرمين، والطفل الفرنسي لا يشبه الأطفال البريئين لا في أشكالهم ولا في تصرفاتهم، وفي نهاية الفيلم يعتدي أحد العشاق على السائح الأميركي ـ يقوم بدوره الممثل المعروف بغرابة أدوره: ستيف بوشيمي ـ وتتناثر البطاقات البريدية لصورة الموناليزا على جسده وملامح وجهه المزدحمة بالصدمة والانكسار· وهناك الكثير من القصص الملفتة والمحاولات التجريبية والجريئة على مستوى الطرح والترجمة البصرية والتي لا يسمح المجال للمرور على كافة تفاصيلها وأشكالها، فالأفلام الثمانية عشر التي تضمنها شريط ''أحبك باريس'' مرت بأساليب شتى مثل الواقعية الصرفة، والواقعية السحرية، والعبث، والتجريد، والرعب والرومانسية، والملهاة والمأساة، وقصص عابرة وأخرى مقيمة، وحيوات قصيرة وأخرى ضالعة في تفسير الوجود بكل تقلباته ومساراته الشائكة· تجري وقائع القصص في الفيلم وسط معالم ومناطق شهيرة في باريس مثل برج إيفل، وساحة الكونكورد، والمونمارتر، ومونبرناس، وشارع بيغال، والشانزليزيه، وكوارتر ديلا ميدلين، وأنفاق وممرات ومحطات غائرة في أرض الحنين والصور العتيقة والرائقة، ولكن الفيلم في النهاية لا يقصد استغلال فضاء العين للعبور على مناطق باريس كمكان أعزل وحيادي، ولكنه يستغل سيرة المكان والعاطفة القصوى التي تهبها الصورة للترويج للمهمشين والمغيبين، ورواية حكاياتهم المعذبة وسط أكثر عواصم العالم التصاقا بالضوء والنور والبهجة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©