السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صنع الله إبراهيم: أنا خائف!

صنع الله إبراهيم: أنا خائف!
20 مايو 2015 21:49
يؤكد دوماً أن كل رواية يكتبها هي «كذبة»، لكنها تصدق معنا دوماً بتفاصيلها التي تقرأنا وترسمنا وتعيد تجسيدنا بأسماء وملامح يمكن أن تلقاها في الشارع، على التليفزيون، في الحارة، داخل البيت وأمام المرآة. فلشخوصه وجوه تشبهنا في أدق التفاصيل حتى في مصائرها، وكأنها القدر الذي لن نفلت منه أبداً. هو الكذب الفني الجميل، بل الكذب في صدقه العالي، ذاك الذي يمارسه الروائي المصري العذب صنع الله إبراهيم.. جاعلاً، عبر فكره الإنسانيّ الكونيّ، من خصوصية الزمان والمكان مساحة رحبة تطال الكون كله فتمسي الحياة بين غلافين لا أكثر. ونظل عالقين بين السطور، تائهين دون دليل، لتأتي النهايات واقعية تعكس سوريالية صرنا نحترفها. صنع الله إبراهيم، الروائي والأديب الذي نحت في أعماقنا فكانت قضايانا قضاياه، وأحلامنا وأوجاعنا هي أحلامه وأوجاعه. كتبَنا روايات طويلة، وسردَنا حكايات أبكتنا حروفها التي جاءت (على الجرح). فحوّل الصمت صوتاً، وصارت الكذبة حقيقة، حلوة مرّة.. ومريرة مرات أخرى. في لقائنا معه، خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب الخامس والعشرين، حاورناه كمبدع عربي يعيش اللحظة وسبق وأن عاش لحظاتنا السابقة. سألنا كيف يرانا، فحكى عنه وعنا كما لم يحكِ من قبل... حيوية ثقافية * تعيش الثقافة العربية مرحلة حساسة تعكس ما تعيشه مجتمعاتنا من ظروف.. كيف ترى واقع التعاطي الراهن مع الثقافة بأشكالها وأنماطها المتعددة في العالم العربي؟ ** بنظرة عامة نجد أن ثمة حيوية شديدة تسيطر على مشهد النشاط الثقافي في المنطقة العربية كلها. وهذا أمر طبيعي جداً ويأتي كنتيجة لما حدث من تغييرات وتطورات طالت حتى النسيج الفني والإبداعي في بلداننا. لكن لابد من الإشارة إلى أن حالة من الفزع تستوطن عند الشباب فيما يخص المستقبل، فقد سقطنا، للأسف، في هاوية النزاعات الطائفية والوحشية التي يبدو أن المستفيد الوحيد منها حالياً، هو الأنظمة الرجعية المسيطرة إلى الآن على بعض البلدان. وهذا يؤثر على الراهن الثقافي العربي بكل وجوهه وانعكاساته سواء داخل المنطقة أو خارجها. * هل يحتاج الكاتب أو المبدع بشكل عام، إلى مسافة زمنية تفصله عن الحدث ليستطيع ترجمته إلى رواية أو قصة أو.. إبداع ما؟ ** لا توجد قاعدة محددة تلزم المبدع في عمله، فأحياناً يحتاج إلى فترة من الزمن ليلمّ بالأمور وأحياناً لا يحتاج أبداً. إذ من الممكن أن نواجه حدثاً يفرض نفسه بقوة على الكاتب بما يستحضره من خلفيات مضت ونتاجات حديثة أو راهنة، ويخلص بالنهاية إلى موضوع جاهز يترتب عليه عمل إبداعي متكامل الحيثيات والأدوات. وبالمقابل، ثمة حدث يحتاج إلى عدة سنوات لإدراك تفاصيله من قبل الكاتب، ليستطيع معرفة ما هي الأدوات والأساليب اللازمة ويتمكن من استخدامها. ولا ننسى الميول الخاصة بالكاتب وشعوره تجاه الحدث ومكانه فيه. واقع سوريالي * في محاكاته للواقع المعيش اليوم، هل ينجح المبدع في تصوير الحقائق ونقلها من خلال الفن والإبداع؟ ** لعلي أجيب على هذا السؤال من واقع ما قرأته مؤخراً. فقد استطاع كاتب مصري يعيش في الخارج، أن يقدم في رواية فانتازية جميلة مستخدماً مبادئ الواقعية السحرية عبر تخيلاته لمواقف تبعث على الضحك والسخرية لكنها تعكس المجريات والأحداث في الحياة الحقيقية. ورغم أني شخصياً، لا أعترض على أي وسيلة يقدمها أي كاتب، وثمة قناعة راسخة لديّ بأن هناك مساحة هائلة من الوسائل المختلفة وأنه لا يوجد أسلوب أفضل من أسلوب أو لغة أفضل من أخرى، فكلها خيارات شخصية وإبداعية. لكني قلت له، إن في واقعنا اليومي ما هو أقوى من كل تجسيدات الواقعية السحرية. فنحن نعيش في عالم سوريالي بحت. هذا مجرد خاطر لا أكثر. لكنه يشير إلى أن الكاتب قد يعجز عن إقناع الناس بما يعرضه عليهم من أحداث ومشاهد متخيلة. ما يفعله اليوم «داعش» - مثلاً - أو ما يحدث داخل معتقلات الأنظمة الديكتاتورية، قد لا يستطيع الإبداع تجسيده كما يحدث في واقع الأمر. انكسار * لطالما أكدت أن فكرة «الزعيم الأوحد» قد انكسرت في الذهنية العربية وفي جميع المجالات.. إلى أي مدى تعتقد أن هذا انعكس في التعاطي مع الأحداث؟ ** الفكرة في هكذا طرح تكمن في أن التفكير العلمي والموضوعي والمنطقي بدأ يتحكم بالسلوك الإنساني لدى كثيرين إن لم يكن لدى كل أبناء العالم العربي. وهذه هي الناحية الإيجابية التي قصدتها من كلامي هذا. من الممكن جداً أن تغيب النظرة الموضوعية بشكل مؤقت في واقعنا المعيش. إلا أن الأساس موجود بالفعل وقد بدأت أركانه تتوطد في العقول وتنتج طرق تفكير وتحليل تعتمد على المنطق. فما نريده وما يحدث على أرض الواقع، يتمثل في إدراك فكرة المساواة بين البشر، واستيعاب أن القدرات المختلفة للناس هي التي تحدد أماكنهم في الحياة الاجتماعية والعملية، لا الكيانات السياسية أو المرجعيات الأخرى مهما كانت حيثياتها وارتباطاتها. ومن الضروري رفض العنف والدماء ورفض الاستغلال الذي يمارس من قبل السلطات الرجعية المتحالفة مع الشركات العالمية التي تشاركها في عملية سحق شعوبنا والاستنزاف المتواصل لطاقاتنا وإمكانياتنا. إذ إننا وللأسف نعيش حياتنا مستنزفين عقلياً وحسياً و»ثرواتياً». وهي إمكانيات تستنزف يومياً على يد الحكومات وبعض ما يسمى بـ «رجال الأعمال» وهم رجال النصب والعمالة للأجنبي. المثقف والسلطة * لا ينجح كثير من المثقفين والمبدعين في تحقيق الاستقلالية عن السلطة الحاكمة، سواء في بلدانهم أو في بلدان أخرى.. ألا يوجد ما يبرر لهم في بعض الأحيان؟ ** نعم أحياناً يجب علينا أن نبرر لهم.. وبدايةً، يجب القول إن الوضع المثالي أو الأمثل للمبدع يتجسد في الاستقلال التام عن السلطة وعن منافعها وإغواءاتها وأساليبها التي لا تعد ولا تحصى في الترويض وكسب المبدعين والمفكرين. وأؤكد على مفردة «المبدعين» بدلاً من المثقفين، حيث إن الجميع اليوم بات مثقفاً بطريقته الخاصة. يجب على المبدعين أن يسعوا إلى تحقيق أقصى درجة ممكنة من الاستقلالية التي تتضمن تدرجات متفاوتة تبعاً للظروف. ففي ظل حكم صدام حسين أو بشار الأسد أو القذافي، فإن المحافظة على الاستقلالية تكاد تكون مستحيلة إلا إذا كان المبدع خارج البلد، وهنا ثمة غابة أخرى تلاحقك بأشكال أخرى يجب عليك أن تراعيها وإلا سحبوا منك الإقامة أو الجنسية وما هو غير ذلك. هذا قدر نحن مضطرون إلى مواجهته بما يستطيع الشخص ضمن حدود القدرة، ثمة ناس تستطيع أن تفلت نتيجة لظروفها كأن تكون موجودة في مكان لا يخضع لتلك الاعتبارات والقواعد. وبالمقابل هناك من لا يستطيع أن يخوض في التجاوزات وتراه مضطراً دائماً إلى تقديم التنازلات. أسباب * ماذا عن تجربتك الشخصية في الإطار ذاته؟ ** لحسن الحظ، كانت ظروف مصر كدولة في الثلاثين سنة الأخيرة مواتية لي ولعملي ولفكري. فضلاً عن أنني كنت قد أثبت نفسي كمبدع ولي مكانتي بشكل ما، الأمر الذي خلق حرجاً من التعامل معي بطرق سيئة كما في السابق. وأعتقد أن ظروفي الشخصية (لم يكن عندي أطفال، وابنتي متزوجة ولديها عملها وهي مسؤولة عن حياتها) ساعدتني كثيراً على تحقيق الاستقلالية. ولا أخفيك القول.. لطالما فكرت بيني وبين نفسي: ماذا لو كان عندي طفل وكنت مضطرا لتوفير الحليب له؟ لابد وأنني كنت سأقوم بأي شيء لأجله، وسأقدم حتماً أية تنازلات مطلوبة. هناك أيضاً طبيعة تكويني التي ساعدتني على المضيّ في طريقي الذي رسمته لنفسي، فأنا متقشف بطبيعتي. لا أتعامل مع الأشياء الجديدة ومع صراعات التكنولوجيا. وعلى سبيل المثال كان عندي ثلاجة ماركة مصرية اشتريتها بالتقسيط عندما تزوجت واستمرت معي طيلة 40 عاماً. ثلاجة متواضعة لكن «الموتور» لم يتوقف يوماً واحداً. وعندما حصل وقمت بتغييرها نظراً لحاجتنا إلى واحدة أكبر، بكيت من قلبي لحظة وداعها. أنا في حياتي الشخصية (مستغني) عن الكثير من الرفاهيات. حتى اليوم لا أملك «موبايل» من يريد أن يكلمني ثمة هاتف في المنزل. عندي كمبيوتر وكل فترة يحتاج تعديلات وبرامج معينة ليعمل بشكل جيد. وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي أرضى أن أنفق عليها أموالي. ما أريد قوله هو: إن فكرة الاستغناء تساعدك على العيش. اليوم ثمة ثقافة استهلاكية مفروضة على الناس من الشركات التي تتحفنا كل يوم بمنتج جديد ومتطور يلغي ما سبقه، وقد تكون الفروقات بين منتج أمس ومنتج الغد بمنتهى السخافة، لكن الكثيرين - للأسف - باتوا أسرى هذه الثقافة، يلاحقون المستجدات ويواكبونها. ولا شك في أن مقاومة هذه الآلية، ورفضك لأن تكون جزءاً منها، يحقق لك جانباً من الاستقلالية والفوز بحريتك الإبداعية والإنسانية. قتل الإرادة * لكن.. سبق واعتقلت أكثر من مرة بسبب آرائك السياسية والفكرية.. ما هو الأسوأ في فترة اعتقالك؟ وهل يمكن للإرادة الإنسانية أن تظل على قيد الحياة تحت التعذيب؟ ** التعذيب النفسي هو أسوأ ما يحدث للإنسان داخل المعتقل، كمحاولة التأثير على أسرتك والضغط على زوجتك وأولادك للضغط عليك، هذا إذا ما جاؤوا بهم إلى السجن وحاولوا تعذيبهم أمامك. بالإضافة إلى حرمانك من الصحف، من القلم والورقة، من التليفزيون، وغيرها من الأمور والوسائل التي تعلمتها أنظمتنا الحاكمة من النازيين. أما التعذيب الجسدي، فكانوا يتفننون به. والبداية كانت يومياً من الصباح، حيث يطلبون منا خلع ملابسنا والوقوف ووجوهنا إلى الحائط ثم يأتي العسكري ويضربنا سريعاً كتحية صباحية. وما أن نصعد الجبل ونبدأ بتكسير الحجارة بطريقة لا إنسانية، حتى نواجه عملية إرهاق وإذلال مختلفة: ارفع التراب من هنا، ضعه هناك، أعده إلى مكانه، وبالتالي تدخل في متاهة متعبة حتى الأقصى. وتصل إلى مرحلة يتوقف فيها العقل عن الاستيعاب. تنهك تماماً. وقد ذكرت في روايتي «حكايات الواحات» تلك اللحظة التي لا يمكن أن أنساها حين استشهد تحت التعذيب من يمكن أن ندعوه وقتها بـ «رئيس الحزب» واسمه شهدي عطية. حيث تمّ استدعائي في الصباح أنا وثلاثة آخرين. طلبوا منن أن نخلع ثيابنا، فخلعناها. وطلبوا مني أنا ومعتقل آخر كان صيدلانياً في الجيش، أن نذهب ونقول للنيابة التي جاءت للتحقيق أن شهدي مات داخل السيارة إثر أزمة قلبية قبل أن يدخل السجن. في هذه اللحظة كنت مسلوب الإرادة، شلل كامل في القوى العقلية عدا عن الرعب. وحدث شيء وقتها أن جمال عبد الناصر كان في يوغسلافيا وأثارت الصحافة أن فلانا مات تحت التعذيب، فأرسل تليغرافاً طلب فيه إيقاف التعذيب فوراً. فجاءت النيابة الحقيقية وقلنا كل ما حصل حقيقة. لكن أنا متأكد لو أن هذا التدخل لم يحدث، كنت سأذهب وأقول ما طلبوه مني بالفعل حتى لو كان مغايراً للحقيقة. ومنه أنا أستوعب موقف الناس الذين وضعوا في ظروف بشعة وقاسية، وما أسهل التنظير عن بعد بينما أنت تضع رجلاً على رجل وتشرب قهوتك. توظيف * العودة إلى التاريخ صار مرجعية لمعظم الروائيين والمؤلفين في العالم العربي أثناء كتابتهم لأعمالهم. كيف ترى هذه الظاهرة من منظورك؟ ** العودة إلى التاريخ أو إلقاء نظرة على التاريخ أمر مهم جداً بصرف النظر عن الكتابة أو التأليف. وأحياناً يكون تناوله أو التطرق إليه، ضرورياً جداً في عملية الإنتاج الإبداعي. ما أعنيه أنني ككاتب لابد أن أكون مطلعاً على التطور التاريخي المحلي والعربي والعالمي ومدركاً لآلياته وحيثياته ومعطياته ونتائجه. لأستطيع فهم الروابط والعلاقات القائمة في الزمان الماضي وفي العصر الراهن. ومنه أستطيع أن أقدم حبكة متوازنة ومكتملة العناصر والأفكار. وفي الكتابة، يغدو استخدام التاريخ كما لو أنك تستخدم أو توظّف أي شيء آخر، فهو مجال للتناول، تماماً مثلما قمت في بعض أعمالي بتناول عالم الحشرات والحيوانات وتوظيفه في الكتابة. عالم أبَوي * أيضاً تظهر المرأة في كثير من الأعمال الإبداعية العربية، كشخص ضعيف مضطهد من قبل الرجل.. لماذا هذا الإصرار؟ ** إلى الآن ما زال العالم يحكمه الرجل. هذه ظاهرة عالمية وليست موجودة في مجتمعاتنا دون غيرها.. المرأة تعاني في فرنسا وألمانيا وأميركا ولو بدرجات ونسب مختلفة ومتباينة فيما بينها. كأن تأخذ أجراً أقل وتعمل ساعات أكثر، وهي في بعض الدول مُقْصاةٌ من المراكز التنفيذية ومن المناصب الأولى الهامة. نحن نعيش في مجتمعات ذكورية لكنها تتحرك ببطء في اتجاه المساواة، وهي إحدى المشاكل التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار في الكتابة وفي الحياة اليومية. الأدب والشاشة * من الأدب إلى الشاشة الصغيرة، تمّ تحويل روايتك «ذات» إلى مسلسل تليفزيوني عرض على عدد من الشاشات الفضائية. كيف تقيّم هذه التجربة وهل أنت راضٍ عنها؟ ** انطلقت في هذا الشأن من أن التليفزيون هو مجال مختلف وله معطيات وقواعد وقوانين مختلفة تماماً عن التأليف. أنا في غرفتي أكتب ما أريد وأكون خاضعا للقوانين الخاصة بالنشر والناشر وعدد الصفحات وكل ما له علاقة بعملية الكتابة والطباعة. أما بالنسبة للتليفزيون والسينما فيوجد اختلاف كبير وواضح ويخضع لعدد من العناصر منها: المنتج الذي سيموّل المادة التليفزيونية أو السينمائية، الممثلون الذين سيأخذون الأجر إزاء عملهم، المصور، المخرج، الفنيون، القناة التي لها أسبابها ومنهجها. وبالتالي عملية الإنتاج لا تخضع لي، هم أحرار وأنا لم أتدخل على الإطلاق طيلة فترة العمل. وفي حدود هذا الكلام، نعم، كنت راضياً عن النتيجة التي ظهرت بشكلها المكتمل على الشاشة، لأني أصلاً كنت على ثقة بكاتبة السيناريو «مريم نعوم» وأعرفها منذ صغرها، وأعرف المخرجة «كاملة أبو ذكري» التي هي من أفضل المخرجين الموجودين. وأقول إنني لاحظت وجود العديد من التفاصيل المختلفة وهذا ضروري ومطلوب. إنما تم الحفاظ على نفس الرؤية. الأمر الذي كان يهمني فقط. * ما الذي يسبب لصنع الله إبراهيم القلق اليوم؟ ** المصير. الخوف من المستقبل. كنت دائماً أقول بأنني متفائل رغم كل ما جرى وما شهدناه من صراعات وسواد. لكن في الأيام الأخيرة، صرت أخاف. لقد بدأنا نقتل بعضنا البعض. إن لم يكن هذا سيقف فوراً فالمستقبل سيكون بشعاً. ومن الممكن أن نخرج خارج التاريخ ونتحول لمجرد كيانات مهزومة ليس لها وجود. السجن جامعتي السجن هو جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة. وفيه أيضاً قررت أن أكون كاتباً. أما أبي فهو المدرسة. كتاب: يوميات الواحات ألغاز اندفعت في تهور: «الألغاز كثيرة إن شئت. خذ مثلاً موقف الدكتور من مشكلة الحرب والسلم. ففي بعض الأحاديث الصحفية القليلة التي أُجريت معه، وصف الحرب بأنها السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق المغتصبة، بينما أكد في أحاديث أخرى، أن السلام هو السبيل الوحيد لذلك». قاطعني متسائلاً: «وما التناقض بين الأمرين؟» قلت: «التناقض هو أنه في الحالة الأولى - عندما يتحدث عن الحرب - تجده يعمل بنشاط في مشروعات تحتاج، أول ما تحتاج، إلى السلام. وفي الحالة الثانية - عندما يتحدث عن السلام - تجده منهمكاً في تأليف جيش من المرتزقة يقدمه لمن يدفع الثمن». رواية «اللجنة» مُثُلْ أغمضت عيني، واستعرضت تاريخي. تراءت لي المثل التي آمنت بها في صباي، ثم أسقطتُ منها تدريجياً ما اتضحت سذاجته وعدم واقعيته، محتفظاً بأكثرها أهمية وقيمة، وما يتفق منها مع طبيعتي وإمكاناتي، مستميتاً في عدم التنازل عنها، ممزقاً بين الضغوط، مجاهداً في إعادة تقويمها كل حين، وتطويرها مع التغيرات المتلاحقة في عالم اليوم، متجنباً المزالق والمنحنيات قدر الإمكان، متعرضاً - في سبيل ذلك - لكثير من الأضرار وما لا يحصى من الأخطار. وتمثلت ما آلت إليه حياتي قبل أن أتقدم إلى اللجنة، وما لحق بي من مهانة. ولم أنس، من ناحية أخرى، أن البحث الذي كلفتني به، قد أعطى لحياتي شيئاً من المعنى، بعد طول خواء. رواية «اللجنة» شيء من الشغب الجميل ولد صنع الله إبراهيم، أحد أهم الأدباء والروائيين العرب، في القاهرة عام (1937). عرف بجرأته في الكتابة والممارسة، فقد خاض منذ أيام الشباب بفكره اليساري نضالاً مستمراً، وعاش يطالب بالحرية والمساواة للجميع. فكان المعتقل مصيره لخمس سنوات ونصف السنة. وجاءت رواياته تمزج بين ما عايشه واختبره بنفسه، وبين الوقائع والظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والفكرية داخل مجتمعه وخارجه، متسلحاً بإيمانه بأن الكتابة والإبداع فعل مضاد للاكتئاب ومانح للأمل. تمّ منع رائعته الأولى «تلك الرائحة» لسنوات، تلك الرواية التي جاءت منذرةً بقلم لا يعرف الخوف؛ إذ تعرّضت لفترة وجوده داخل المعتقل، وأشارت بأصابع الاتهام إلى الأنظمة الديكتاتورية. وقد اشتهرت أعماله بنقد السلطات ورجال الحكم وبقدرتها على رصد التحولات الكبرى في الذات الإنسانية، وبالتصاقها الشديد بالحقائق اليومية، ومنها: نجمة أغسطس (1974)، اللجنة (1981)، بيروت بيروت (1984)، ذات (1992)، شرف (1997) ، وردة (2000) و أمريكانلي (2003). كذلك خاض في عوالم الحشرات والحيوانات، معتبراً إياها مجالاً للتناول والتقصي، ولها خصوصيتها التي تفتح الأفق واسعاً أمام الإبداع. أثار رفضه تسلم جائزة الرواية العربية عام 2003، ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية والإعلامية، موجهاً نقده المباشر للنظام القائم في بلاده آنذاك، ومعلناً أنه لا يؤمن بكثير من الجوائز ولا بمصداقية من يمنحها. وأن الجائزة لا تصنع أديباً أو مبدعاً مهما كانت مهمة ولها مكانتها. لكنه، لم يستطع منع كل الجوائز عنه، وعلى الرغم من موقفه هذا، نال جائزة سلطان العويس من دولة الإمارات العربية المتحدة، وجائزة غالب هلسا التي تمنحها رابطة الكتاب الأردنيين عام 1992 وجائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©