الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الطفلة التي تسكنني

الطفلة التي تسكنني
23 أغسطس 2017 20:49

نتحدث عن السفر، نحلم به، نسافر كثيراً. وإنْ سألنا أحدهم لماذا نسافر؟ لا نملك جواباً غير تعداد مميزات وجهتنا. حتى عبارة «للسفر سبع فوائد» نكررها دون يقين من قُدرتنا على تعداد هذه الفوائد السبع! ولماذا الرقم سبعة تحديداً؟ أهو امتداد لما يحمله الرقم سبعة من قدسية تتكرر في كثير من الحضارات؟ لا يهم هذا الآن، ولنعد إلى سؤالنا الأول: في عصرنا هذا، لماذا يسافر الأفراد؟
السفر ارتبط بتحقيق أمور ثلاثة: التواصل مع الآخرين، اكتشاف الحضارات والثقافات الأخرى «أي ما صنعه الإنسان على هذه الأرض»، واكتشاف الطبيعة «أي ما صنعه الخالق». مع التقنيات الحديثة هل ما زلنا نحتاج السفر لنحقق هذا؟ وكالة ناسا الفضائية تبث لنا صوراً لا تكشف مجاهل سطح الأرض فقط بل وأغوارها الداخلية. صور تُرينا شكل الأرض على السطح وفي أعماقها السحيقة، بل وكيف كانت في عصور مضت. كل هذا ونحن لم نتحرك عن أريكتنا المفضلة في صالة بيتنا. بل، وبجلستك تلك ذاتها تستطيع عبر هاتفك الذكي التواصل مع آخرين في معظم أصقاع الأرض. تواصل عبر الصوت أو الصورة أو الكتابة، وذلك باختلاف وسيلة التواصل الاجتماعي التي تُستخدم. أما السبب الثالث للسفر، اكتشاف الثقافات. ألا يعرف أغلبيتنا عن احتفالات السامبا البرازيلية ورقص الزولو الأفريقي واللباس الإندونيسي والطعام الياباني حتى وهو لم يزر أياً من هذه الدول؟
التقنية وطرق التواصل الحديثة، ألغت السفر شرطاً لاكتشاف العالم من حولنا، أو على الأقل لم تجعله شرطاً وحيداً لذلك. ومع هذا ما زال للسفر جاذبيته، بل وزاد عدد المسافرين حول العالم. الأمر الآخر، ارتبط السفر بالاكتشاف والمغامرة واقتحام المجهول، فعن أي اكتشاف ومغامرة نتحدث هنا، ونحن نعرف اسم وصورة المكان الذي سنذهب إليه، بل حتى ما سيقدم لنا من إفطار صباحي، نعرف مكوناته ونحن لا نزال في مكاننا، لم نغادر بعد؟
شخصياً، لا أسافر كثيراً، وحين أفعل أسافر بروح راغبة بتشرب تجربة السفر بشكلها النقي. ومع هذا لم أجد إجابة كافية أو أجوبة كافية عن السؤال إلا في سفرتي الأخيرة، إجابة ذاتية لهذا السؤال. الغريب أنها كانت سفرة قصيرة لم تتجاوز 48 ساعة، وإلى مكان قريب أعتدت زيارته. ربما هي الأمور كذلك، نبحث بعيداً لنكتشف أن مبحثنا أقرب إلينا مما توقعنا!
المجهول والأغوار التي نحاول استقصاءها بالسفر ليست إلا ذواتنا. حين نصبح أمام تجربة جديدة: سواء مكان، طعام، فرد، سلوك أو معيار قيمي جديد. كل هذا يشكل تحدياً داخلياً لنا من خلاله نكتشف جانباً من ذاتنا لم نعهده. ليصبح السؤال الداخلي: «هل سنتصرف بالطريقة المعتادة والمكررة»، تحت قشرة هذا السؤال يختبئ تساؤل أشد عمقاً؛ هل ما نعرفه عن ذواتنا هي حقيقتنا النهائية التي لا نستطيع تجاوزها، أم لعلنا سنكتشف طرقاً جديدة للتصرف والتفكير والشعور لم نعتدها، وبهذا نكون قد قبضنا على جزء مجهول من ذاتنا. فكل سفر هو سفر للداخل وكل ما نطارده في تنقلاتنا هي قطع «البزل» التي عبر جمعها نستطيع الكشف عن صوره البزل الكبيرة: الأنا الداخلية.
السفر لاكتشاف الذات فضيلة اختبرتها حين وجدتني أُلامس جواباً لسؤال ظل يطاردني لأكثر من 15 سنة دون إجابة مرضية. قرأت في الفلسفة والأنثروبولوجيا والسيكيولوجيا حوله، ولم أجد الجواب الشافي. وفي سفرة قصيرة للبحرين، وجدت الجواب، وببساطة يُطرح علي عبر حديث مع غريب، وضعته أقداره أمامي على طاولة مقهى!
كنت في المقهى وحدي، وعلى الطاولة المقابلة يجلس أوروبي وحيد. تقدم لي وقال: «لا أنتظر أحد هنا، مجرد متسكع، ولعلك كذلك. فهل بالإمكان مشاركتك الطاولة لحديث عابر». كونه أوروبياً، حسم أمر الموافقة سريعاً، فلن يكون مُعبأ بثقافة العيب، خاصة وهو يُنبئ عن رجل خمسيني. تحدثنا عن ذواتنا، بعض من تجاربنا، نجاحاتنا وإحباطاتنا، كان رجل ذكي وعميق الروح. اكتشفت إنه مصور فوتوغرافي شهير في بلده. تنقل كثيراً في هذا العالم. سألني عن الدول التي زرتها، بدأت بتعدادها، وحين ذكرت سويسرا، وجدته يضحك ساخراً وبصوت عالٍ، ليقول: «أنت وسويسرا؟ كيف حدث هذا؟» أضحكتني سخريته بقدر ما أربكتني وربما أغضبتني قليلاً. قلت له: «قد لا أجد نفسي في الحياة الباذخة، ولكن أستطيع مادياً السفر هناك. علماً أن والدي هو من اختارها ودفع تكاليفها». قال لي: «أنا لا أسخر منك. ولكن أنت وسويسرا لا تتوافقان. أنت تمتلكين روح مشردة أصيلة برغم الشهادة والوضع العائلي. سويسرا ليست لأصحاب هذه الروح».
أرضت غروري عبارته، ولعلني، لهذا السبب وجدتها منطقية! لم أكن قد حكيت له عن بعض مغامراتي في السفر إرضاءً لحالة التشرد الداخلي. لم أحكي له عن استئجاري لشاحنة لم أحتجها، فقط لأقودها في طرق سفر وحيدة، لأشعر وكأنني أحد المسترزقين عبر قطع طرق السفر، كبدوي استبدل ناقته بشاحنة ضخمة. لم أحدثه عن الأمسيات التي قضيتها أقود سيارتي وحيدة في طرق سفر اخترت أن لا أعرف إلى أين تنتهي، وعن الليالي التي قضيتها نائمة داخل السيارة في محطات سفر الشاحنات وشباك السيارة مفتوحاً، رغم أنني أمتلك أجرة الفندق، فقط لأشعر أن لا شي يقيدني أو يُخيفني أو يُحدد لي طريقي.
كنت أتحدث بشغف، لا أذكر حول ماذا، ولكن عن أمر أحب القيام به على نحو ما. علق حينها: «أنت تحبين فعل ذلك، لأنك طفلة!!» قلت له: «هناك فارق عمري بيننا ولكن هذا لا يجعلني طفلة. أنا امرأة تعيش أزمة منتصف العمر». نظر إلى عيني مباشرة، وقال: «لا أتحدث عن العمر، ولا يهمني. لديك روح طفلة لم تكبر. لقد اعتنيتي بها بشكل جيد حتى لا تكبر. أتعلمين، أنت الآن تقدمين هذه الطفلة بشكل أنثوي فاتن. هذا هو سحرك فحافظي عليه». ليستطرد بعد ذلك «لكل امرأة جاذبيتها وحضورها المختلف والخاص. والأكثر جاذبية من النساء ليست الأجمل، بل من تستطيع الاحتفاظ بالجزء الأصيل والحقيقي فيها».
امتلأت روحياً من كلماته، لم يكن إطراؤه وحده سبب فرحي، بل في قبضه على جزء حقيقتي من ذاتي كنت أبحث عنه منذ زمن. اعترف منذ مراهقتي يستهويني كبار العمر من الرجال. لم أتخيلني مرتبطة بزواج أو بحب رجل لا يكبرني على الأقل بعشر سنوات. كنت أستغرب هذا. حاولت تغييره، كما حاولت فهمه، ولم أستطع. قرأت عن عقدة الكترا وعن مشاعر البنت المرتبكة مع أبيها، ولفترة ظننت أن في هذا الجواب. بداخلي ظل تشكك ما حول هذا التفسير. أنا لا أبحث عن صورة أبي بين الرجال. لكن يجذبني الرجل الأكبر عمراً. لماذا يجب أن يكون هناك تفسير واحد وحيد لحالة كهذه؟
هذا المصور الغريب أجاب على سؤالي الذي لم أطرحه عليه. الطفلة بداخلي جزء أصيل مني لا أريد التخلص منها، وفي الوقت ذاته في مجتمع يحصر ويُحدد سلوكيات أفراده بناء على العمر والجندر والوضع الاجتماعي، يصبح التعبير عن هذه الطفلة غير مأمون العواقب. لعل أبسط هذه العواقب الاتهام بعدم النضج أو محاولة عيش مراهقة متأخرة أو التصابي للتخفف من أزمة منتصف العمر. الطفلة بداخلي أحترمها وأحبها، لدرجة رغبتي بحمايتها بعدم عرضها أمام من سيعتقد أنها تُمثل سلوكاً مرضياً لتجاوز توترات داخلية. الطفلة بداخلي كما أراها وأستشعرها، هي أقرب لحالة فرح تلقائي وعبث متجرد لا يسعى لشيء، إلا لذة اللحظة. خوف الإدانة وسوء الفهم، والأهم تأثير سوء الفهم هذا على تشويه تلك الطفلة جعلني لا أقمعها، ولكن أبعدها، أخفيها في مكان قُصي لا يراه إلا من يستطيع فهمها. حين ألتقي بمن هم أكبر مني عمراً، أشعر بأمان يسمح لروح الطفلة أن تخرج بحرية. فالغريب لدى ملاحظته لروح الطفلة المختبئة، سيرجعه للفارق العمري بيننا، وليس دلالة ادعاء وتصنع، خوفاً من الكبر! كبار السن وحدهم من أشعر بالأمان لإخراج الطفلة بداخلي دون إدانة! إذن المسألة لا علاقة لها بالكترا، وإنْ كنت لا أستطيع الجزم تماماً من خلو الأمر، لكنني على الأقل أستطيع الجزم بوجود تفاسير أخرى. صدقاً، كم أقلقني السؤال، وكم خشيت من أن ميلي لكبار السن تحكمه ارتباكات عاطفية لن أستطيع تجاوزها.
عبر حديث مع غريب وجدت بعض جواب! غريب يجول بين البلاد بحثاً عن مشهد أو فكرة أو شخص يمنحه معنى جديداً، وفي أثناء هذا، دون أن يدري، يمسك مرآة تجعل الغرباء يرون جزءاً من ذواتهم لم يدركوه من قبل. حين أراد المغادرة وكمصور محترف، طلب التقاط صورة لي. حين رأيت الصورة التي التقطها، قلت له: «صدقاً، لا تعجبني الصورة. المرأة في الصورة لا تمثلني. هذه امرأة قوية ولا مبالية، وأنا في الحقيقة امرأة متواضعة وخجولة. لا أرى الخجل في هذه الصورة. لعل الصورة التقطت ملامحي ولكنها لم تلتقط روحي. إنها ليست أنا». ضحك وقال: «إنها ليست أنت كما ترين ذاتك. لكنها أنت كما أراك أنا!». ليكمل حديثه: «الصورة، هي ليست ذاتنا، بل هي ذاتنا في عين الآخر، لذا تتعدد الصور ولا تتطابق». يا لعمق هذا الرجل. نعم، قد لا أجدني في الصورة، وقد لا أحب المرأة التي تمثلها، ولكن هي بعض مني كما يراها أحدهم، إذن فهي أنا. فلعلني لم أسافر إلا لأحصل على هذه الصورة. صورة ذاتية لي تريني جانباً مني لم أتعرف إليه قبلاً. وهذا أحد أهم أسباب السفر كما اختبرته في أقصر وأقرب رحلة سفر خضتها.

«أنتِ كما أراك أنا»
عبر حديث مع غريب وجدت بعض جواب! غريب يتجول بين البلاد بحثاً عن مشهد أو فكرة أو شخص يمنحه معنى جديداً، وفي أثناء هذا، دون أن يدري، يمسك مرآة تجعل الغرباء يرون جزءاً من ذواتهم لم يدركوه من قبل. حين أراد المغادرة وكمصور محترف، طلب التقاط صورة لي. حين رأيت الصورة التي التقطها، قلت له: «صدقاً، لا تعجبني الصورة. المرأة في الصورة لا تمثلني. هذه امرأة قوية ولا مبالية، وأنا في الحقيقة امرأة متواضعة وخجولة. لا أرى الخجل في هذه الصورة. لعل الصورة التقطت ملامحي، ولكنها لم تلتقط روحي. إنها ليست أنا». ضحك وقال: «إنها ليست أنت كما ترين ذاتك. لكنها أنت كما أراك أنا!».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©