الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العلمانية.. وما بعد «العــالمَانية»

العلمانية.. وما بعد «العــالمَانية»
24 أغسطس 2017 20:20
لا نريد الخوض هنا في تيارات العَلمانية على تنوعها من خلال بحث تاريخي في نشأتها وتطورها واختلافها وتباينها، فليس هذا مما يتسع له هذا المقال، وحسبنا أن نلتمس هنا روحها العامة عبر تطور موقفها من الدين، ومدى تأثيرها في تطور الأمم والدول. «العَلمانية» (بفتح العين) secularism مصطلح مشتق (في أصوله اليونانية واللاتينية) من كلمة العَالم لا العِلم، وربما كان من الأصح صياغتها لغوياً بكلمة «العالمَانية»، وربما يكون من الأنسب نطقها بكلمة «العَلمانية» على سبيل التخفيف. وإذا كانت كلمة العَلمانية أو«العالمانية» مشتقة إذن من العَالم وليس من العِلم، فليس معنى ذلك أن العلمانية هي توجه مغاير للعلم، وإنما هي توجه نحو شؤون العالم أو الدنيا التي تهتم بها سائر المعارف الإنسانية، وعلى رأسها العلم سواء كان في صورة العلوم الطبيعية أو الإنسانية، فضلاً عن دروب المعرفة الأخرى. فالعَلمانية إذن تعني كل ما يتعلق بشؤون العالم أو الدنيا في مقابل ما يتعلق بشؤون الدين. والشخص العلماني إذن هو في الأصل الشخص الذي يهتم بشؤون الدنيا أو الحياة، في مقابل الشخص المنتمي إلى «الإكليروس»، وهو الشخص الكنسي المكرَّس لشؤون الدين، وليس معنى هذا أن الشخص العَلماني هو شخص غير متدين، وإنما هو شخص من رعايا الكنيسة- أي ينتمي إلى عموم الشعب- من غير «الإكليروس». وعلى الرغم من تعدد معاني العلمانية ودلالاتها، فإننا لا نجد أبلغ من التعريف الذي يقدمه الدكتور مراد وهبة، باعتبارها: «التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق»، ومعنى هذا أن كل ما يتعلق بشؤون الدنيا أو العالم من علوم وفنون وتنظيمات سياسية واجتماعية هي أمور نسبية تتغير وتتطور باستمرار، وليس لنظرية علمية أو فلسفية أو تيار فني أو سياسي أو اجتماعي أن يدعي أي منها بلوغ الحقيقة المطلقة، ببساطة لأنه لا توجد حقيقة مطلقة في عالمنا الإنساني، فالحقيقة تكون دائماً نسبية، أي «حقيقة بالنسبة إلينا» على حد تعبير جادامر، لأنها حقيقة إنسانية مرتبطة بتاريخ عالمنا. توجه فكري ومعرفي من المهم التأكيد هنا على أن «العَلمانية» ليست مذهباً فلسفيّاً أو نظرية سياسية، وإنما توجه فكريّ أو معرفيّ إزاء العالم تبنته الحضارة الأوربية الحديثة كطريق للتقدم والخلاص من مرحلة التخلف الذي عرفته أوروبا في فترات مظلمة من العصور الوسطى، فكما هو معلوم أن الكنيسة في ذلك العصر كانت تسيطر على شؤون الحياة كافة، وكان رجالها يدَّعون امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا ينبغي أن تخالفها أية نظرية علمية أو فلسفية، وإلا تعرض أصحابها للملاحقة والعقاب بالسجن والتعذيب، بل بالإعدام حرقاً مثلما كان مصير العالم الفيلسوف جيوردانو برونو الذي أسميته في مقال سابق في هذا الملحق الثقافي بـ«شهيد العلم». كما أن الفن قد انحصر دوره في ذلك العصر في التعبير عن الموضوعات الدينية من خلال الأيقونات أو التماثيل المعبرة عن الرموز الدينية، ومن خلال الرسومات والتصاوير التي تزين جدران وأسقف الكنائس. ومن الإنصاف القول إن فن التصوير المسيحي كان فناً بحق، له أساتذته العظام الذين يبدعون إبداعاً فنيّاً لا يُضَاهى من أمثال: رفائيل وكوريجيو، ولكن الفن قد ظل- بوجه عام- أسير التعبير عن موضوعات الدين المسيحي، وهو ما حال بينه وبين طبيعته التي تتمثل في تلك الروح الطليقة التي تعبر عن الوجود كله في شتى مظاهره، بما في ذلك التعبير عن الديني نفسه.  ومن هذا يظهر لنا أن كل الأمم التي قطعت شوطاً بعيداً في مجال التقدم هي نفسها الأمم التي قطعت شوطاً بعيداً على طريق العلمانية. هذا حال أوروبا- على سبيل المثال- منذ عصر الأنوار الذي وضعها على طريق التقدم، كما نلاحظ أن العَلمانية- وإن لم تكن مذهباً فلسفيّاً أو سياسيّاً، كما أسلفنا- كانت مؤسسة على موقف معرفي، ونحن يمكن أن نلتمس بدايات هذا الموقف المعرفي عند چون لوك الذي رأى أن الحقائق نسبية، ومن ثم فليس في وسع أي مذهب أو معتقد أو رأي أن يدَّعي بلوغ الحقيقة، وهذا يعني أن الدين أو المعتقد لا ينبغي أن يتحول إلى سلطة مؤسسية تتحكم في شؤون الحياة، لأن شؤون الحياة أو الدنيا (أعني شؤون العالَم)، ينبغي أن تخضع فقط لسلطة الدولة التي ينظمها القانون المدني. والحقيقة أن الأديان في أصولها الأولى، لم تنشأ أبداً باعتبارها سلطة، لأن الدين كان يتجلى في حياة الناس باعتباره جزءاً من عالمهم ممتزجاً بالفن والأخلاق وممارسات الحياة اليومية، أي جزءاً من عالم الخبرة المعيشة. لم يكن الدين يتسلط على الحياة الدنيوية، بل كان جزءاً منها. وهذا يصدق أيضاً على الأديان السماوية عند نشأتها الأولى، بما في ذلك الدين الإسلامي، فلم يكن الإسلام عند نشأته الأولى يمثل سلطة حاكمة، بل سلطة روحية أخلاقية وحسب، وهو أمر لم يستمر طويلاً. وحتى حينما تحول الدين إلى سلطة في العالم الإسلامي، كانت سلطته تتمثل في تبرير سلطة الحاكم والدفاع عنها، أعني تبرير حكم السلاطين على مر العصور، ولكن هذه السلطة لم تتحكم في شؤون العلم والفن والإبداع في شتى صوره، بل إن المساجد أو الجوامع الكبرى في العالم الإسلامي كانت جوامع بحق.. جوامع يجري فيها تعليم المعارف الإنسانية والعلوم من فلك وحساب وغير ذلك.. جوامع حقيقية تخرَّج منها الفلاسفة والمتصوفة وعلماء اللغة والعلوم الرياضية والطبيعية.  في عالمنا الإسلامي أو المتأسلم الراهن (إن شئنا الدقة) ما زلنا نتجادل حول مشروعية العَلمانية التي يراها الكثيرون- خاصةً الأصوليين- كفراً وإلحاداً! وكأننا بذلك نحيا خارج تطور مسار التاريخ الإنساني، فتاريخ الحضارات مر بمراحل نكوص، وقد عانت الحضارة الأوروبية من هذا النكوص قروناً عديدة في العصور الوسطى، بينما هناك مواطن عديدة في عالمنا العربي الإسلامي الراهن تسيطر عليها حالة من الهوس الديني الذي يتبدى في الهيمنة على كل مناحي الحياة الإنسانية من علم وفن وفكر: فالعلوم الجديرة حقّاً باسم العلم هي العلوم الشرعية، أما غير ذلك من العلوم فيتم رد مكتشفاتها في عالمنا المتخلف إلى أساس ديني. والفن يُنظَر إليه من جهة الحلال والحرام باعتباره نوعاً من الخلاعة التي يجب ضبطها وتقويمها باستبعاد بعضها باعتبارها عُرْياً كفن الباليه، وبتحديد مسار وموضوعات بعض آخر منها، خاصةً فنون السينما والأدب من شعر ورواية وأغنية وغير ذلك. والفكر يتم مصادرته على المستوى الرسمي أحياناً، كما يتم تتبعه وملاحقته على المستوى غير الرسمي من خلال الجماعات الدينية السلفية والإخوانية والمتأخونة التي تفشت في كثير من بقاع عالمنا المتأسلم، بل بلغ الأمر مبلغه بتكفير كثير من أهل العلم والفن والرأي على نحو يصل إلى حد إهدار الدم، وهو ما تم تنفيذه بالفعل في حوادث شنيعة على نحو يشبه بطريقة غير مباشرة محاكم التفتيش في العصور الوسطى الأوروبية، فهي محاكم تفتيش في صورة مقَنَّعة، لأنها متغلغلة على مستوى المؤسسات الدينية وعلى مستوى الوعي الشعبوي. ما بعد العلمانية والسؤال إذن: كيف يمكن في ظل هذا الوضع أن نتوقع نهضة حقيقية في عالمنا العربي؟! إذ لا يمكن تجاوز هذا الوضع إلا من خلال تغيير جذري في الوعي السائد بحيث يتحرر من هيمنة «الدين المصنوع» على كل شؤون حياتنا، وتلك حالة من حالات تطور الوعي لا بد أن نمر بها مثلما مر بها غيرنا منذ قرون عديدة.. تلك حالة العَلمانية كطريق في مسار تحرر الوعي والفهم في موقفه إزاء العالم.  غير أن هذا الحماس في الدفاع عن العلمانية باعتبارها طريقاً للتقدم، يمكن أن يواجه باستخفاف باعتبار أن العَلمانية قد أصبحت في نظر البعض شيئاً من الماضي، وأن هناك مفهوماً شائعاً الآن في العالم الغربي هو مفهوم «ما بعد العلمانية»، لكن من الضروري أن ننظر باحتراس لكل تلك المفاهيم التي ترد فيها كلمة «ما بعد»، من قبيل: «ما بعد البنيوية»، و«ما بعد الحداثة»..إلخ، وهي مفاهيم تشبه مفاهيم أخرى تتعلق بالنهايات وتقترن بها، مثل: «موت الفن»، و«نهاية الميتافيزيقا»، وما إلى ذلك. فالواقع أن مثل هذه المفاهيم كثيراً ما يُسَاء فهمها باعتبارها تشير إلى نهاية حقبة ما في أساليب رؤيتنا للعالم، وهذا أبعد ما يكون عن الصواب، لأن المفهوم القديم يكون حاضراً في قلب الجديد، وكذلك تكون المفاهيم المرتبطة بالتاريخ وتحيا فيه وتتطور بتطوره، فمفهوم «موت الفن» الذي أطلقه هيجل أول مرة، لم يكن يعني «نهاية الفن» أو أن الفن لم يعد له وجود، وإنما كان يعني أن الفن لم يعد قادراً على أن يقوم بالدور الذي يضطلع به في عالم القدماء. وعلى نحو مشابه، يمكن القول بأن مفهوم «ما بعد العَلمانية» لا يعني «نهاية العَلمانية»، وهذا هو أيضاً ما يشير إليه المفكر والباحث السياسي المدقق محمود حيدر في تصدير العدد الجديد من مجلة «استغراب»، حينما يذهب إلى القول بأنه: «ليست «ما بعد العلمانية» نفياً للعلمانية، وإنما استئنافاً لها بوسائط وشرائط وأنساق مختلفة، فلا يصح أن ينسلخ التاريخ عما قبله وعمّا يليه انسلاخاً قطعياً. فهذا محال، لأن ما هو قبل يكون امتداداً لما هو بعد وتأسيسًا له، فلن تكتسب حقبةُ ما بعد العلمانية واقعيتَها التاريخية ما لم تُقِرَّ بنَسَبِها الشرعي لميلادها الأول، فلو لم تكن العلمانية حاضرة في التاريخ الحي لحداثة الغرب، ما كان بالإمكان الكلام عن ما بعدها. الحاصل أن هناك ضرباً من جدلية استتارٍ وكمون وانقشاع، تظهر فيها «عد العلمانية» كمحصولٍ لتلك الجدلية المركبة». وعلى هذا يمكن القول أن مفهوم «ما بعد العلمانية» يعني تجاوز بعض أطروحات العلمانية المتطرفة التي تضع العلمانية باعتبارها توجهاً معادياً للدين يريد أن يضع نفسه بديلاً عن الدين من خلال استبعاده وإقصائه، كما لو كانت توجهاً مدفوعاً بروح انتقامية أو كرد فعل على مرحلة عداء الدين للعلم والفن والفلسفة ذاتها في فترات ظلامية معينة من العصر الوسيط كانت تمثل مرحلة «ما قبل الحداثة». هذه الأطروحات المتطرفة للعلمانية هي ما يمكن تسميته «بالرجعيات العلمانية» أو «بالأصوليات العلمانية»، وهي لا تمثل روح العلمانية ودوافعها الحقيقية كمشروع للحداثة الأوروبية، وعلى هذا الأساس يمكن أن ننظر في موقف عالم الاجتماع الأميركي الذي أطلق مفهوم «إزالة العلمنة» بعد أن كان متحمساً بقوة للعلمانية، ولم يخش سوى من أن تؤدي إزالة العلمنة إلى عودة الأصولية الدينية وحالة ما قبل الحداثة، فالواقع أن هذا الموقف يمثل في نظرنا تطرفاً آخر مضاداً في دعاوى «ما بعد العلمانية»، على نحو يماثل ذلك التطرف في بعض دعاوى العلمانية ذاتها. فالحقيقة أن هذا المواقف على اختلاف مواقعها، تخطئ فهم روح العلمانية ذاتها باعتبارها موقفاً من العالم ليس مناهضاً للدين أو معادياً له، بل موقفاً يسعى إلى تحييد الدين فيما يتعلق بشؤون العالم التي تخضع للمعرفة والتجربة الإنسانية في مجالات العلم والفكر والفن، وهذا هو التصور الذي تسعى إليه «ما بعد العلمانية» باعتبارها وعياً معاصراً «تتعايش فيه الرؤى الكونية للدين مع الرؤى العلمانية للكون»، كما يقول محمود حيدر.  هذه الرؤية التي نراها جلية الآن فيما يتعلق بروح العلمانية هي الرؤية التي عبرنا عنها في دراساتنا العديدة عن روح الدين ومعنى دوره في هذا العالم، وعن الصلة بين الفن والدين أو بين الجميل والمقدس في كتابنا «تأويل الفن والدين» وفي غيره، فليرجع إلى ذلك من يشاء. الشاهِد هنا أن مفهوم «ما بعد العَلمانية» ينبغي أن يبقى في باطنه على روح العلمانية ذاتها، لا باعتبارها موقفاً معادياً للدين يريد استئصاله واستبعاده من حياتنا، وإنما باعتبارها موقفاً محايداً إزاء الدين، ينظر إلى العالم في إطار سياق معرفي أكثر اتساعاً، ويؤمن بأن موقفنا المعرفي من عالمنا المعاصر يجب أن يستوعب في باطنه مفاهيم التعددية وقبول كل المعتقدات الدينية التي يمكن أن تتجاور معاً دون أن تجور على موقفنا المعرفي من العالم الذي يتغير باستمرار، ويطرح تساؤلات متجددة على الدوام. وعلى هذا يمكن القول- على سبيل المثال- بأن الصراع بين الدين والفن لم يحدث إلا في فترات النكوص في تاريخ الحضارات: حدث هذا في الفترة المتأخرة من عصر القدماء التي تميزت بخصومتها لفن التصوير التمثيلي على نحو يستدعي الأسى، حتى إن فناني ذلك العصر كانوا يتحسرون على أن زمنهم قد ولَّى. ولقد حدث موقف شبيه بهذا- فيما يرى جادامر- عندما فرضت الإمبراطورية الرومانية على عالم الفترة المتأخرة من عصر القدماء تقييداً وإخماداً نهائياً لحرية الخطابة والتعبير، وقد حدث هذا أيضاً مع حركة تحطيم الأيقونات Iconoclasm التي نشأت داخل الكنيسة في القرنين السادس والسابع بعد الميلاد، ولكن هذا العداء بلغ مؤخراً أبشع صوره في عالمنا الإسلامي من خلال تحطيم حركة طالبان لتماثيل بوذا، وتحطيم حركة داعش (أو ما يُسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام) للتماثيل والآثار الفنية للحضارات القديمة الآشورية والبابلية، وتدمير آثار مدينة تدمر هو آخر ما عايشناه في أيامنا هذه. وفي مقابل ذلك يمكن القول إن عداء الفن للدين لم يحدث في حركة الحداثة الأوروبية إلا كرد فعل على عداء «الدين المصنوع» للفن من خلال تأويل أصولي رجعي نكوصي للدين في فترات معينة من نكوص الحضارة. غير أن عداء الفن للدين قد اتخذ في حركة الحداثة الأوروبية صورة استبعاد هادئ للدين أو انفصال عنه في حالة يمكن تسميتها بـ«علمنة الفن»، وقد تمثلت تلك الحالة في سيادة نزعات في الفن من قبيل: «النزعة الشكلانية»، ودعاوى «الفن من أجل الفن»، وغير ذلك من النزعات التي أدت إلى انعزال الفن واغترابه عن الحياة الإنسانية. وربما يكون المثال السابق -المعبر عن شيء من قصة الصراع بين الدين والفن- مثالاً جيداً على قصة العلمانية ذاتها التي أصبح لزاماً عليها أن تتجاوز ذاتها في موقفها من الدين الذي لم يعد موقفاً يستدعي الصراع، بل يسعى إلى أن يستوعب في باطنه شتى المواقف إزاء العالم، وإن تباينت أو حتى تناقضت!  وحيث إننا كشعوب عربية لم نعش حالة الحداثة والعلمانية إلا في فترات قصيرة مضيئة من تاريخنا الحديث تشبه ومضات سرعان ما تلاشت، وبالتالي لم نعش مطلقاً حالة ما بعد الحداثة وما يُسمى كذلك بحالة ما بعد العلمانية، فإننا لا سبيل أمامنا سوى استقراء تلك الحالات وأشباهها التي عاشها ويعايشها العالم المتقدم حضاريّاً، كي ننتقي من دروسه ما يُعيننا على فهم وضعنا التاريخي الراهن، ونسعى إلى اللحاق بما فاتنا من خلال عملية حرق المسافات التي تفصلنا عن تاريخ العالم، تلك المسافات الشاسعة التي تفصلنا عن مسار تطور التاريخ، وكأننا كائنات تحيا خارج التاريخ الإنساني. العلمانية المتطرفة مفهوم «ما بعد العلمانية» يعني تجاوز بعض أطروحات العلمانية المتطرفة التي تضع العلمانية باعتبارها توجهًا معاديًّا للدين يريد أن يضع نفسه بديلًا عن الدين من خلال استبعاده وإقصائه، كما لو كانت توجهًا مدفوعًا بروح انتقامية أو كرد فعل على مرحلة عداء الدين للعلم والفن والفلسفة ذاتها في فترات ظلامية معينة من العصر الوسيط كانت تمثل مرحلة «ما قبل الحداثة». هذه الأطروحات المتطرفة للعلمانية هي ما يمكن تسميته «بالرجعيات العلمانية» أو «بالأصوليات العلمانية»، وهي لا تمثل روح العلمانية ودوافعها الحقيقية كمشروع للحداثة الأوروبية. علينا حرق المسافات حيث إننا كشعوب عربية لم نعش حالة الحداثة والعلمانية إلا في فترات قصيرة مضيئة من تاريخنا الحديث تشبه ومضات سرعان ما تلاشت، وبالتالي لم نعش مطلقًا حالة ما بعد الحداثة وما يُسمى كذلك بحالة ما بعد العلمانية، فإننا لا سبيل أمامنا سوى استقراء تلك الحالات وأشباهها التي عاشها ويعايشها العالم المتقدم حضاريًّا، كي ننتقي من دروسه ما يُعيننا على فهم وضعنا التاريخي الراهن، ونسعى إلى اللحاق بما فاتنا من خلال عملية حرق المسافات التي تقصلنا عن تاريخ العالم، تلك المسافات الشاسعة التي تفصلنا عن مسار تطور التاريخ، وكأننا كائنات تحيا خارج التاريخ الإنساني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©