الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جوازة و جنازة

جوازة و جنازة
30 نوفمبر 2008 01:16
المدن كالبشر أو كالزهور، لها روح ورائحة، ومذاق تتميز به عن سواها! مدن من العالم تعشقها من أول لقاء، تستقبلك بدفء حقيقي عميق، وكأنها تعرفك جيداً وتعرف قدر حبك القديم لها، تفتح لك أحضانها، تعانقك عناق المحبين الأوفياء، تشرِّع لك أبوابها لتدخلها وأنت مطمئن، لتذوب في تفاصيلها اليومية بسهولة ويسر، وعندما تهم بتوديعها تغرقك بعطرها وهداياها الجميلة، تملأ رأسك بذكرياتها معك، تطبع قبلتها على جبينك لتعطيها وعداً بالرجوع مرة أخرى، مدن تأسرك لتجعلك شغوفاً بأدق منمنماتها وبطراز خصوصيتها وبعبق تاريخها، مدن تفرض عليك احترامها، مدن تخجلك بلطفها وبدفء ترحابها وصدق توددها إليك، فلا تملك أمام ذلك إلا أن تعدها بزيارة قادمة وفي أقرب فرصة· لندن، عاصمة الضباب، القِبلة الأولى للسائحين العرب والخليجيين ومنذ عقود، لندن التي تكاد غالبية مرتاديها (من جماعتنا) لا يعرفون عنها ومنها سوى ما اعتادت عليه خطواتهم المنتظمة لتلك الأماكن التي يرتادونها وبشكل شبه يومي، والتي غالباً ما تكون في قلب العاصمة لندن، فللسفر غايات، والقاصد تستطيع معرفة غاياته ونواياه ومن أول خطوة! لذلك سيبقى الوجه الحقيقي للمدينة مجهولاً له في الغالب، طالما بقي يدور في فلك حديقة الهايد بارك وهارودز وهارفينيكلز، والتركيز على رحلات ''الصيد والبصبصة'' هنا وهناك، وارتياد بعض المطاعم لا غير· لندن لا أستطيع أن أجزم بحبي لها، ولا أستطيع أن أقول إني أذوب عشقاً فيها، بسبب ما علق بذاكرتي من ذكريات شديدة في التناقض، يكفي أن تشهد عرساً أسطورياً كعرس الأميرة ديانا والأمير تشالز في صغرك، ثم تقف في ذات المكان وبعد مرور سنوات طويلة لتشهد مرور موكب جنازة ذات الأميرة، التي سلبت عقول البريطانيين وملكت قلوبهم ببساطتها وبكسرها للتقاليد الملكية الصارمة والتمرد عليها، لتختار أن تكون قريبة من الجميع، وكانت سبباً كافياً لاستثارة غيظ واستنكار قصر بكجنهام على الدوام، في مشهدين بانوراميين يفصل ما بينهما ربما عقدان وأكثر من السنين، لم تستطع تلك المدينة الكبيرة أن تخطب وديّ، لم أستطع تقبل الكم الهائل من الهنود والجاليات الأخرى التي تكتظ بهم شوارع لندن لتهمهم بضجر: ''هدوله ورانا ورانا''؟! غير ذلك أن الإنجليز أنفسهم تغيروا كثيراً على ما يبدو ''ما هم الأولين''، يكفي أن تطأ قدمك أرضهم حتى ترتفع أسعار البضائع والشقق والفنادق، لتجد كل شيء مضروبا في تسعة! كيف وهم الذين يُضرب بهم المثل في ضبط المواعيد وصرامة القوانين واحترامها، فيكفيك أن تسمع كلمة ''جرينتش'' لتطمئن أن صاحبك يُقدَّر ويحترم مواعيده لأنه وعدك وعدا إنجليزيا، ولو أنه أقسم لك ربما لن تصدقه! في شارع ''نيو بوند ستريت'' وكما هو معروف بأنه يضم أغلب ''بوتيكات'' الماركات العالمية، كنا ذات مرة في أحد تلك المحلات، ففاجأتنا امرأة عجوز وقور تعتمر قبعة وترتدي فستاناً في غاية الأناقة وتحمل حقيبة ومظلة، فتوقعت أن تسألني عن هويتنا وإلى أي كوكب ننتمي، فتفاجأنا بطلبها الصريح والمباشر بعد أداء التحية، وتشنيف مسامعنا بديباجة سريعة من الغزل والمديح غير المقنع، وبلكنة بريطانية أصيلة: ''آي نيد موني مدام، آي نيد يور هلب''! فأعطيناها المقسوم ومضت في طريقها، خرجنا بعدها سيراً على الأقدام حتى صادفنا مقهى يقع على ناصية الشارع، لنجد ذات العجوز تجلس في أحد زوايا المقهى بصحبة عجوز أخرى، وفي آخر انسجام، وكأنها لم تلتقينا قبل بضع دقائق معدودة، كانتا مستمتعتين بشرب القهوة وأكل ''الشيز كيك''! فوراً كان ردة فعل والدتي على الموقف هو: ''شوفي حتى الإنجليز صاروا يكذبون''! ثم أردفت قائلة عند عودتنا، وكأنها تبرر كذب السيدة العجوز: ''إي من كثر ما شافوا عرب تعلموا الكذب'' !!! همسة : المدن كالبشر ليس بالضرورة أن تحبها ولكن من الواجب أن تحترمها·! فاطمة اللامي f_a0006@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©