الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيف أغرى «داعش» شابات أوروبيات؟

كيف أغرى «داعش» شابات أوروبيات؟
28 يونيو 2018 01:00
أقل ما يمكن أن يقال في «تنظيم داعش» هو أنه ليس رقيقاً مع المرأة. فبين عدم مساواتها بالرجل على مستوى الحقوق وحبسها في منزل مغلق إلى حين زواجها، وبالتالي منعها من الخروج وحدها من سجنها، وفرض ارتداء البرقع عليها، ورفض فكرة إتمام تعليمها، وواجب تأديبها ضرباً «عند اللزوم»... جميع هذه العناصر التي من المفترض أن تجرح وعي أي امرأة حديثة لا تحضر فقط في عقيدة «داعش»، بل وضعها المنتمون إلى هذا التنظيم موضع التنفيذ بصرامة وعنفٍ مرعبَين. كيف يمكننا إذاً تفسير الإغراء الذي مارسه على عدد كبير من النساء الأوروبيات، وحثّ مئات منهن على التوجّه إلى سوريا والعراق في السنوات الأخيرة للالتحاق به، وأحياناً للمشاركة في أعمال إرهابية في أوروبا ومناطق مختلفة من العالم؟ قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، لا بد أولاً من الإجابة عن سؤالٍ آخر بدهي: من هنّ تلك النسوة وكيف يمكن التعريف بهنّ؟ من الدراسات العلمية التي وُضعت حديثاً حول هذا الموضوع، يتبيّن أن معظمهنّ شابات كن ينتمين إلى الطبقة الوسطى، خصوصاً المسيحيات واليهوديات والبوذيات اللواتي شكّلن نحو عشرين في المئة من مجموعهنّ. وبخلاف الجزء الأكبر من الشبّان الأوروبيين الذين التحقوا بـ «داعش»، لم يكن الجزء الأكبر من هذه الشابات يسكن الضواحي المهمّشة للمدن الأوروبية الكبرى، بل هذه المدن بالذات. أما أعمارهنّ فتراوحت بين 14 و30 عاماً، علماً أن نسبة القاصرات منهنّ تجاوزت نسبة القاصرين. ولا عجب إذاً في اندراج دوافع توجّه هذه الشابات إلى واحد من البلدَين المذكورَين ضمن رؤيةٍ رومنطيقية ساذجة للحب، أو ضمن رغبةٍ في تغيير مشهد حياتهنّ، أو ضمن توقٍ إلى أن يصبحن نساءً ناضجات بسرعة، كما يتجلى ذلك في سعيهنّ إلى الزواج والإنجاب بشكلٍ مبكِر. وثمّة دافع آخر يتمثّل في رغبة بعضهن في الانخراط في مهمة إنسانية لمواجهة الفظائع التي مارسها نظام الأسد ضد شعبه ووظّفها تنظيم «داعش» لاستقطابهنّ وتجنيدهنّ، من دون أن ننسى الصورة التي روّج لها هذا التنظيم لمقاتليه كرجال مثاليين في ذكوريتهم وجدّيتهم، وفي صراحة التزامهم قضيتهم إلى حد عدم الخوف من الموت من أجلها؛ صورة لعبت دوراً في إغراء شابات لم يعرفن في محيطهنّ سوى شبّان غير ناضجين وغير قادرين على الالتزام. بحثاً عن الرجل «المثالي» ولا شك في أن البحث عن هذا الرجل «المثالي» شكّل أيضاً وسيلة للإفلات من ضيقٍ ناتج من عدم الاستقرار الذي يميّز العلاقات الزوجية بين الوالدَين في أوروبا. فبعد اختبار معظم هذه الشابات هشاشة وتصدّع علاقة والديهما، لا مفاجأة في بحثهنّ عن علاقة يوتوبية يتناغم فيها رابط الثقة مع عدم مساواة نظرن إليها كعنصر إيجابي، كـ «تكامُل» في العلاقة يضطلعن فيه بدور الأم الذي أضفى تنظيم داعش عليه مثالية أعمتهنّ عن وضعهن الأدنى. وفعلاً، سعى هذا التنظيم على مواقعه الإلكترونية إلى تمجيد نُبل المرأة ـ الأم المرتبطة بعلاقة ثقة مطلقة مع رجلٍ تم تصويره كـ «بطل» و«سند لا يتزعزع». وفي حال أضفنا أن مساواة المرأة بالرجل أمام القانون في المجتمعات الأوروبية لم تعد ترضي الكثير من الشابات اليوم، نظراً إلى أن المرأة الأوروبية المتزوجة تضطر غالباً إلى كسب قوتها وقوت عائلتها، وفي الوقت نفسه، إلى الاضطلاع بجميع المهمات في المنزل، من تنظيف وطبخ واهتمام بالأولاد، لفهمنا تقبّل بعضهنّ من جديد تلك الوضعية التقليدية التي ناضلت النساء في العالم طويلاً للانعتاق منها. من جهةٍ أخرى، يفتح طلاق الوالدَين في أوروبا وزواج كلّ منهما من جديد هامش مناورة كبير لطفلهما على ضوء حقوقه القانونية، ما يسمح له بالتلاعب بسلطتهما وأيضاً بسلطة زوج الأم وزوجة الأب. وبخلاف العائلة البطريركية التقليدية التي تتركز السلطة فيها بيد الأب، يؤدّي تعدُّد مصادر السلطة داخل العائلة الحديثة التي أعيد تشكيلها بعد الطلاق، إلى إضعافها، علاوةً على تشكيل هذا التعدّد مصدر قلق وشكّ لجميع أفراد العائلة. ومع عدم ترسّخ السلطة في العالم الرمزي للطفل، يصبح في سن المراهقة أكثر عرضة للتأثّر بالعالم الافتراضي الذي يكتشفه على شبكة الإنترنت. ولأن الأزمة الاقتصادية وصعوبة العثور على عمل تجبر المراهقات على العيش مدّةً أطول في منزل الوالدَين، وبالتالي تمدد مرحلة مراهقتهن، يمكن لما يبشّر تنظيم «داعش» به على هذه الشبكة أن يمنحهنّ شعوراً بنضجٍ يفتقدنه، لدى معانقتهنّ قضيته، خصوصاً أن هذا التنظيم يرى في القاصرات نساءً جاهزات للزواج والإنجاب، في حين أنه يمكن عدم الاستقرار الذي يوحي به نموذج الزواج الحديث الذي وُلدت هذه المراهقات نتيجته أو شعرن بأنهنّ معرَّضات لاختباره وتكراره، أن يحثّ بعضهنّ على اعتبار أن الاقتران بأحد مقاتلي «داعش» سيلبّي توقهنّ إلى علاقة رومنطيقية يتعذّر تدميرها، ويمنحهنّ فرصة الإفلات من علاقات الحب العابرة التي اختبرنها. لكن العامل الأول الذي يجعل من المقاتل الداعشي مصدر جاذبية لا تقاوم لهذه الفتيات هو، وفقاً لجميع الدراسات والشهادات، مواجهته الموت، وبالتالي رؤيتهنّ فيه رجلاً جديداً، متفوّقاً، يضعه عنفه فوق سائر الرجال. وفي هذا السياق، يقود بحثهنّ عن السلطة المفقودة إلى معانقة شكلها الأكثر قمعاً. وكلّما كانت هذه السلطة قامعة، ازدادت جاذبيتها. فراغ روحي وأيديولوجي وفي الواقع، يهدف هذا البحث المحموم عن «الارتقاء بواسطة القمع» إلى سد فراغ المعنى في مجتمعات أوروبية تم تفريغ العلاقات الاجتماعية فيها من أي هالة قدسيّة، ولم تعد توفّر أي شيء يساهم في الارتقاء الروحي. ومع تخبّط التيارات والأحزاب الأوروبية الأكثر راديكالية (يميناً ويساراً) في فراغ أيديولوجي فاضح، تلبّي عقيدة داعش أيضاً حاجة أخرى لدى بعض هذه الشابات، بحملها رؤية مناهضة للإمبريالية. فتلك اللواتي يرغبن في محاربة النظام العالمي الذي تتحكّم أميركا به يجدن خلفيةً أيديولوجية في هذه العقيدة. لكن بخلاف المنظّمات الإرهابية اليسارية الأوروبية في السبعينات والثمانينات التي مارست المرأة فيها دوراً قيادياً وميدانياً موازياً للرجل، لا يرصد تنظيم داعش للمرأة إلا دوراً ثانوياً، علماً بأن الشابات الأوروبيات اللواتي انخرطن في صفوفه لم يضعن عدم المساواة هذه موضوع تساؤل لتمويهه إياها، كما سبق وأشرنا، بفكرة التكامل بين الجنسين، لكن هذا لا يعني أن العنف هو حصراً من اختصاص الرجل داخل هذا التنظيم. فالرؤية الرومنطيقية الساذجة للحب داخل إطاره تتناغم مع جاذبية العنف أو الحرب على الشابات اللواتي انتمين إليه. وفعلاً، جزءٌ منهنّ افتُتن بالعنف الحربي للزوج إلى حد استحسانه وتشجيعه وأحياناً ممارسته على نساء نُظِر إليهنّ ككافرات. وفي هذا السياق، أشرف بعضهنّ على «بيوت الدعارة» التي استُعبِدت فيها نساء يزيديات وأشوريات لتلبية رغبات مقاتلي «داعش» الجنسية، وانخرط بعضٌ آخر في «كتيبة الخنساء» التي أسّسها التنظيم الإرهابي لفرض رؤيته المشوَّهة للشريعة الإسلامية. ومن قمعهنّ في هذه الكتيبة نساء أخريات كنّ يكبرهنّ سناً في غالب الأحيان، ونظرن إليهنّ ككافرات أو منحرفات أخلاقياً، استقت هذه الشابات شعوراً بنضجٍ مجبول بالنشوة، فشكّل هذا القمع نوعاً من طقس عبور إلى سنّ الرشد. باحثات عن الهوية وهذا ما يقودنا إلى فارق جوهري بين الشابات والشبّان الأوروبيين على مستوى دوافع الانخراط في صفوف «داعش». فبينما افتُتن الشبان خصوصاً بسياسة هذا التنظيم المناهضة للإمبريالية ونقده الثابت للولايات المتحدة وسياستها الداعمة لإسرائيل على حساب حقوق العرب، وفضحه اصطفاف الحكومات الأوروبية خلف هذه السياسة، أغرت الكثير من الشابات اللواتي يعانين من أزمة هوياتية تلك العلاقة بالجسد والروح التي روّج لها هذا التنظيم، ومعها أسطورة «الأنوثة الجديدة الكاملة» وضرورة التحكّم الأخلاقي القامع بالعلاقات بين الجنسين. وبينما ظنّ شبّان أوروبيون يعانون من عقدة الخصاء نتيجة منافسة المرأة لهم في مختلف ميادين العمل والحياة داخل مجتمعاتهم، بأن انضمامهم إلى «داعش» سيرمّم ذكوريتهم لإحلاله نظامٍ بطريركي مقدَّس داخل مجتمعه، وجدت شابات أوروبيات رفعةً وتفوّقاً مطلقاً وهمياً في دور «أم المجاهد» الذي حدّده هذا التنظيم لهنّ. وثمة دوافع أخرى لانخراط هذه الشابات في صفوف «داعش»، منها التماثُل بقريبات أو صديقات أو فتيات من جيلهنّ سبقنهنّ إلى سوريا أو العراق وأدّين دور المجنِّدات عبر إرسال إيميلات لمعارفهنّ أو كتابة شهادات على مواقع إلكترونية منحن فيها صورة مثالية لوضع زوجة «المجاهد». ولأن معظم هذه الشابات من أصول مغاربية مسلمة، لم يتوجّه بعضهنّ إلى البلدين المذكورين بدافع «الجهاد»، بل بدافع العثور على الذات وترميم هوية ممزّقة بين انتماءين أو استعادة هوية مسلمة ضائعة. في جميع الحالات، تشير الدراسات إلى أن الوالدَين نادراً ما لاحظا أي تغيير في موقف وسلوك ابنتهما، قبل تنفيذ قرارها الانضمام إلى «داعش». ويعكس هذا الجهل الهوة التي باتت تفصل في أوروبا بين عالمَين، عالم المراهقين وعالم الراشدين، كما يشكّل دليلاً على انحلال سلطة الوالدَين التي كانت في ما مضى تقود المراهقة إلى استيعاب وتبنّي قواعد سلوك، بغضّ النظر عن رؤيتها الخاصة للعالم. انحلال يؤدّي إلى ابتعادها عن العائلة وأحياناً إلى تسجيل قطيعة كاملة معها باسم «مثالٍ» وقعت عليه على شبكات التواصل الاجتماعي أو تعرّفت إليه عن طريق علاقات تواطؤ مع صديقات من عمرها، من دون علم والديها. أسطورة الأنوثة الكاملة ثمة فارق جوهري بين الشابات والشبّان الأوروبيين على مستوى دوافع الانخراط في صفوف «داعش». فبينما افتُتن الشبان خصوصاً بسياسة هذا التنظيم المناهضة للإمبريالية ونقده الثابت للولايات المتحدة وسياستها الداعمة لإسرائيل على حساب حقوق العرب، وفضحه اصطفاف الحكومات الأوروبية خلف هذه السياسة، أغرت الكثير من الشابات اللواتي يعانين من أزمة هوياتية تلك العلاقة بالجسد والروح التي روّج لها هذا التنظيم، ومعها أسطورة «الأنوثة الجديدة الكاملة» وضرورة التحكّم الأخلاقي القامع بالعلاقات بين الجنسين. وبينما ظنّ شبّان أوروبيون يعانون من عقدة الخصاء نتيجة منافسة المرأة لهم في مختلف ميادين العمل والحياة داخل مجتمعاتهم، بأن انضمامهم إلى «داعش» سيرمّم ذكوريتهم لإحلاله نظامٍاً بطريركياً مقدَّساً داخل مجتمعه، وجدت شابات أوروبيات رفعةً وتفوّقاً مطلقاً وهمياً في دور «أم المجاهد» الذي حدّده هذا التنظيم لهنّ. دور ثانوي بخلاف المنظّمات الإرهابية اليسارية الأوروبية في السبعينات والثمانينات التي مارست المرأة فيها دوراً قيادياً وميدانياً موازياً للرجل، لا يرصد تنظيم داعش للمرأة إلا دوراً ثانوياً، لكن هذا لا يعني أن العنف هو حصراً من اختصاص الرجل داخل هذا التنظيم. فالرؤية الرومنطيقية الساذجة للحب داخل إطاره تتناغم مع جاذبية العنف أو الحرب على الشابات اللواتي انتمين إليه. وفعلاً، جزءٌ منهنّ افتُتن بالعنف الحربي للزوج إلى حد استحسانه وتشجيعه وأحياناً ممارسته على نساء نُظِر إليهنّ ككافرات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©