السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوحشُ والقطرة الربّانية

الوحشُ والقطرة الربّانية
5 أكتوبر 2016 19:39
عبد العزيز جاسم «إن التطرف الديني، هو من أهم ما يحجب الإنسان عن الله» (أبو حامد الغزالي) قبل أكثر من ألف سنة من الآن، شخَّص الصوفي البصري، الحارث بن أسد المحاسبي (781 – 857 م)، إمام أهل السلوك والأخلاق، وأول المؤلفين الصوفيين، أحوال عصره، فقال: «إني تدبرت أحوالنا في عصرنا هذا، فأطلت فيه التفكير، فرأيت زماناً مستصعباً، قد تبدلت فيه شرائع الإيمان، وانتقضت فيه عرى الإسلام، وتغيرت فيه معالم الدّين، واندرست الحدود، وذهب الحق، وباد أهله، وعلا الباطل، وكثر أتباعه، ورأيت فتناً متراكمة يحار فيها اللبيب، ورأيت هوى غالباً، وعدواً مستكلباً، وأنفساً وآلهة، وعن التفكير محجوبة، قد جللها الرياء فعميت عن الآخرة، فالضمائر والأحوال في دهرنا بخلاف أحوال السلف وضمائرهم»(1). /‏‏1/‏‏ بهذه الشهادة التاريخية الصارخة في البَرّية والعابرة للأزمان، من تصح في توصيفها على أحوال عصرنا، مثلما تصح على عصر المحاسبي، نقول: حقاً! ما أشبه اليوم بالبارحة، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد. فها نحن، وفي قلب الألفية الثالثة، لو أطلنا التفكير مثل المحاسبي، ورمينا بأبصارنا على أوضاع زماننا هذا، لرأينا بأن أحوال العرب والمسلمين لا تختلف كثيراً عن ذلك العصر البعيد، بل لربَّما زدنا وقلنا: بأن أحوالهم اليوم، بسنتهم وشيعتهم، من فتك بهم الفساد، والتكفير، والخراب، والتشرذم، والتحجّر، والعنف، والطائفية، والاقتتال، والجهل، والتعصب، والكراهية، والإرهاب، والتآمر على الأوطان، والاختطاف المرعب والمزَّور لأشكال المقدَّس الإسلامي، لهي أكثر انحطاطاً ومرضاً ومأساوية من جميع العصور السابقة. فأي كارثة هذه، يا تُرى، وأي مصير أسود ذاك؟ ولكنك فوق هذا وذاك، قد تَصْفُنُ مثلي، وتفتّشُ، وتقرأُ، وأنت تتابع كالمجنون تلك الكوارث والفظائع اليومية التي تجري في بلاد العرب وغيرها، ولا تجدُ جواباً شافياً لها، فتسأل من جديد: كيف فُرغَ الإسلام من جوهره ومن طاقته الحضارية العظيمة، بحيث أصبح يظهر الآن كما لو أنه بلا روح ولا رحمة ولا تسامح، كالوحش يخاف منه ومن أتباعه الجميع؟ بل كيف أصبح مرعباً إلى هذا الحد؟ فهل هذا هو الإسلام الحقيقي؟ بالطبع، لا، وألف لا أيضاً. ولكن أين تكمن المشكلة؟ /‏‏2/‏‏ المشكلة تكمن، في تصوري، فيما لاحظه وبنباهة فائقة، المفكر الجزائري الراحل محمد أركون، عندما حلَّت «كلمة إسلام» محلّ «كلمة الله»، في الخطاب الإسلامي المعاصر، وما الذي آلت إليه الأمور بعد ذلك التحوّل. فهو يقول:«كلمة إسلام أصبحت على كل شفة ولسان، في حين أن كلمة الله انحسرت. الجميع يتساءلون: ماذا يقول الإسلام؟ ماذا يعلمنا الإسلام؟ ما رأي الإسلام في كذا وكذا،...إلخ. وقد حصل هذا التغير بشكل طبيعي من دون أن يشعر الناس به. وهكذا فإن الفاعل الله بالمعنى المعقد الذي يمتلكه في القرآن، قد حل محله الفاعل «إسلام»، وكل واحد يزعم أنه يعرف معناه ومضمونه. هل يعقل ألا يعرف المسلم ما هو الإسلام؟». ويضيف: فكم من الكتب الصادرة مؤخراً تحمل عنوانها كلمة «إسلام»؟ لم أعد أرى عملياً أي كتاب مكرس في عنوانه لكلمة «الله» فقط بغية تحليلها كما هي شغّالة في القرآن، وكما تشكل نفسها أو تبنيها من خلاله. أقول ذلك لأن الكلام المنصوص عليه في القرآن، هو كلام الله من خلال تشكيلاته الذاتية لوجه الله» (2). ما يتأسى له أركون إذاً، هو تراجع الفاعل «الله» إلى الوراء، وتقدم «الفاعل «إسلام» عليه في عقول المسلمين اليوم. وإن كان في الوقت نفسه، يستثني «بعض المسلمين الكبار الذين لا يزالون يحافظون على وشائج عميقة مع الروحانية الناتجة عن الخط القرآني». بينما ما يطالب به، في الفهم والمعرفة، هو معرفة الله أولاً وليس الإسلام، وذلك من خلال معرفتنا بكتابه المطهّر العزيز: القرآن. وعليه، فقد اعتقد جموع المسلمين، بأنهم يعرفون الله سبحانه وتعالى حق معرفته ويفهمون أسرار ملكوته، وهكذا تجاهلوا فهم الله، وذهبوا إلى حواشيه يتنازعون ويتخاصمون حول فروعه ويتناسون جذوره. /‏‏3/‏‏ غير أن كل كتاب مقدّس، هو حمّال أوجه، فكل الموروثات الروحية، كما يؤكد المفكر السنغالي المسلم دودو ديين، «تقول إن الكلمة المقدسة «الإلهية» ذات معنى مزدوج: المعنى الظاهري السطحي، والمعنى الباطني الخفي. وهذا هو السبب، في أن إنشاد الكلمة المقدّسة له معنى غامض. ففي بعض المواقف تؤدي عملية إنشاد نغمات الكلمات المقدّسة، إلى حالة متغيرة من الوعي. والحق أن هذا هو ما يمارسه الهندوس والصوفيون. فهم يفكرون في الكلمة ذاتها على أنها تصطبغ في جوهرها بطاقة حيوية متدفقة، تتيح لهم أن يصلوا إلى الطاقة العليا، وهي الطاقة الكونية»(3). هناك إذاً، في التعامل مع الكتاب المجيد (القرآن الكريم) أو الكلمة المقدّسة، نوعان من العلوم الإسلامية، ألا وهما: علم الظاهر، وهو علم الشريعة الذي يتعلق بالأعمال الظاهرة، كأعمال الجوارح الظاهرة وهي العبادات والأحكام الشرعية. وهناك علم الباطن الذي يختص به المتصوفة، وهو الذي يتعلق بالأعمال الباطنة،«كأعمال القلوب وهي المقامات، والأحوال مثل التصديق والإيمان واليقين، والصدق والإخلاص، والمعرفة، والتوكل، والمحبة، والرضا، والذكر، والشكر، والإنابة، والخشية، والتقوى، والمراقبة والفكرة، والاعتبار، والخوف، والصبر، والقناعة، والتسليم والتفويض، والقُرْب والشوق، والوجد والوجل، والحُزْن والندم، والحياء والخجل، والتعظيم والإجلال والهيبة». وأيضاً فوق هذا كله،«المشاهدة»(4). هكذا، يبدو علم الظاهر مختلفاً عن علم الباطن، والذي لا يجب أن نخلط بينهما مطلقاً. فإذا كان الشكل الخارجي للدّين، كما هو معروف في أنثروبولوجيا الأديان مثلاً، هو الإسلام، والمسيحية، واليهودية، والبوذية، وغيرها، مثله بهذا مثل الرداء على الجسد أو مثل الجسد على الروح الخفية في الباطن. فإن ما هو روحي أو باطني، لا يندرج ولا يتجلى فيما هو خارجي وظاهري للدّين، وإنما في العمق يتجاوز ما هو ديني. لأن ما هو روحي، لا يسعى إلى ما هو منطقي وعقلاني، بل لا يسعى إلى ما هو مادي ودنيوي، بل يرقى إلى مدارات الغيب، والمطلق، والمجهول، والعدم، وملكوت الله تعالى. وبما أن ملكوت الله، بالنسبة للصوفي، محجوب بالأسرار عن القلوب التي دنسها حبّ الدنيا، فإن غايته القصوى تكون بالوصول إلى المعرفة الكاملة بذلك الملكوت السامي والجليل، والتماهي معه حدّ الذوبان والتوحد به. إذْ لا شيء في هذا الكون برمته، يعادل إحساس الصوفي بحريته وعدم خوفه ولا مبالاته بالموت، عندما يكون في حضرة الحبّ الإلهي. وهذه المرتبة العالية جداً والفوق – بشرية، بالطبع، لا يحوزها إلا الأقطاب الكبار من مشايخ الصوفية، من رُفع عنهم الحجاب وارتقوا إلى مستوى الكرامات وبلغوا درجة عالية في سُلّم الطريق. /‏‏4/‏‏ الصوفي المسلم إذاً، وعلى خلاف أصحاب الظاهر، هو من«يرى بني البشر ككائنات روحانية في جوهرها، وأن الروح هي القوى الرئيسة في الكون. والتصوّف هو أنقى وأصفى ترجمة لهذه الرؤية»(5). لهذا يتسم المتصوّفة عموماً، بالسماحة، والمحبَّة، والمسالمة، وعدم السعي إلى القوة أو إحراز النفوذ، أو التعصب، أو ممارسة الإرهاب والقتل، أو إدارة الفتن والأحقاد والكراهيات. والمتصوفة كذلك، هم بشر عالميون يهدفون إلى بناء المجتمع المفتوح، لأنهم – كما يصفهم عبد الرحمن بدوي - منفتحون على كل التجارب الدينية الإنسانية، متعاطفون مع سائر التيارات الروحية، مستشعرون للأخوة الإنسانية الجامعة بين الناس جميعاً على اختلاف الأزمنة والأمكنة. والمتصوفة كذلك، لهم الفضل الكبير والهائل، في نشر الدعوة الإسلامية في خارج دار الإسلام، وخاصة الطرق الصوفية المنتظمة منهم، مثل الجشتية، والكُبْرَوية، والشّطارية، والنقشبندية في الهند، والتجانية، والسنوسية، والشاذلية في أفريقيا جنوب الصحراء. وعموماً، وعلى الرغم مما تقدم كله، صار من المهم أن نفرّق بين نوعين من المتصوفة، تماماً كما فرّق المتصوفة أنفسهم ذلك، حتّى لا نخلط الحابل بالنابل ونضع الجميع في سلّة واحدة. فالأول، كما تذكر آنا ماري شميل، هو المتصوّف الذي يجتهد في الوصول إلى درجة روحية عالية. والثاني، هو «المسْتَصْوّف» الذي يتظاهر بالتّصوّف، وهو في الحقيقة شخص نفعي ومخادع خطير. وهذا الصنف الأخير من المتصوفة، اعتبرهم البقلي بأنهم ملاعين خانوا التّصوّف، وهم «يدّعون معرفة الحقيقة ولا يعرفون إلاّ ظاهرها، لأنهم تنقصهم معرفة الشريعة». لهذا حذر الشاعر يحيى بن معاذ قرناءه، كما تذكر شميل، في القرن التاسع عشر قائلاً:«اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس: العلماء الغافلين، والفقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين»(6). /‏‏5/‏‏ ملفنا هذا إذاً، ملف التصوف هذا، لم نرد من ورائه إثارة الفتن أو النعرات الكامنة، أو أن ندعو كل الناس للانخراط في الطرق الصوفية مثلاً، كما قد يخطر على بال أحد ما أو يظن. فهذا ليس من أخلاقنا ولا من تربيتنا ولا من قناعاتنا ولا من سياسات جريدتنا كذلك، كما أننا في الأصل والمآل ننتمي إلى دولة محترمة تجرم قانوناً هذا النوع من السلوكيات الشائنة. لقد هانت علينا أمّتنا المنكوبة فقط، ونحن نراها ترمى هكذا في جوف الوحش، وكيف تمّ تفريغ هذا الإسلام الحضاري المنفتح والمتسامح والإنساني والروحاني والمحبّ والثري من أحشائه، وكيف حولوه إلى فرانكنشتاين ينفث الحقد والكراهية والبغضاء ويستبيح الأرض والهواء والعباد. لقد أردنا إذاً أمام هذا المشهد القاتم، مشهد التكفير والتحريم والقمع، أن نسرب قطرة ماء من الإيمان الرباني النقي، وأن نقترب من الله أكثر ونفهم رسالته العميقة ولا نبعده عنّا، وأن نفتح عيوننا من جديد وبوعي مضاعف، على شرفات هذا التراث الإسلامي الأصيل والعظيم للتصوف، والذي تم نبذه ومحاربته وتكفيره واحتقاره على مدى قرون طويلة، بسبب التعصب والجهل والانحطاط الفكري المريع. فهل وصلت الرسالة؟ هوامش 1 - عبد القادر أحمد عطا، التَّصوُّف الإسلامي بين الأصالة والاقتباس، دار الجبل – بيروت، 1987، ص:8. 2 - محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام، مقابلات مع رشيد بن زين وجان لوي شليجيل، ت: هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، 2013، ص:92. 3 - دودو ديين، الاستمرارية الحركية فيما بين التراث، مجلة ديوجين، مركز مطبوعات اليونسكو، العدد 187/‏‏131، ص:25. 4 - عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي، وكالة المطبوعات – الكويت، 1978، ص: 20 – 21. 5 - المصدر السابق، ص: 25. 6 - آنا ماري شميل، الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوّف، ترجمة: محمد إسماعيل السيد ورضا حامد قطب، منشورات الجمل، 2006، ص:28.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©