الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روحنة الفنّ

روحنة الفنّ
5 أكتوبر 2016 12:01
د. أم الزين بنشيخة المسكيني لا شيء غير لطخات لونيّة تسبح اعتباطاً نحو عمق اللوحة وبعض خطوط محتشمة لا ترسم حدوداً لأيّ شيء، لأنّها تطلب اللا متناهي وتعد بالرحيل. لا شيء غير ألوان منثورة هناك دونما أيّ ادّعاء جماليّ، إذ هي لا تُضاف إلى موضوعها على سبيل الزخرف والتزويق، مادام الموضوع يقلق اللوحة، ويعطّل فكرة السفر إلى الداخل. هل ضيّعت هويّتها هذه الكائنات المائيّة، فصارت لا شكل لها ولا وجه ولا انفعالات تغويها؟ بل نحن ههنا لا نكاد نبصر أيّ كائن واضح المعالم. هل نقول مع الفيلسوف الفرنسي المعاصر جون فرانسوا ليوتار «قليلة هي الأشياء التي تُرى في اللوحة، كثيرة هي الأشياء التي تدعو إلى التفكير»؟ أم نقول مع نوفاليس:«إن أردت أن ترى عليك أن تنصت جيّداً». نعم ربّما ثمّة ضرب من رنين الألوان، يدعوك إلى السفر نحو منطقة روحيّة لا نراها لأنّ العالم المحسوس يحجب عنّا الرؤية. وربّما أيضاً ههنا كائنات روحيّة غيّرت من تصوّرها لزمان اللوحة ومكانها، وطفقت تحلّق بعيداً عن المفاهيم الجمالية الكلاسيكية للموضوع والشكل والضوء واللون والخطّ والإطار. نعم هي لوحة لاتمثّل شيئاً من الواقع ولا تستحضر أيّ مشهد طبيعي، فقط هي تربكك بغموضها وبصمت خطوطها الهاربة نحو عمق مجهول، إنّها توقظ فيك سرّا ما: الشغف بأنّ ثمّة شيئاً ما لا ندركه. هي ذي أوّل لوحة روحية في الفنّ التشكيلي المعاصر. وهي من توقيع رائد الفنّ التجريدي الفنّان العالمي الشهير فاسيلي كاندنسكي (1866-1944). إنّها «لوحة مائيّة مجرّدة»، ذاك هو عنوانها، لكن ما علاقة عنوان كهذا بالتصوّف؟ هل يمكن للتصوّف أن يدخل باحة الفنّ، أو أن يكون أحد أبعاده؟ وإن كانت التجارب الصوفيّة التقليدية قد ارتبطت بإنشاد الشعر وبالرقص الصوفيّ بخاصّة، فهل يمكن لفنّ الرسم التشكيلي أن يتعلّق هو الآخر بالتصوّف؟ (1) أنصت لكي ترى علينا أن نشير بادئ الأمر إلى أنّ النزعة الروحيّة العميقة التي ظهرت في الفنّ الحديث والمعاصر منذ أواخر القرن الثامن عشر قد وجدت تعبيرات مختلفة لدى الفلاسفة والشعراء والأدباء والرسّامين من قبيل التصوّف اللغوي والتصوّف النوويّ والتصوّف المتوحّش والتصوّف الملحد. وفي الحقيقة، بوسعنا الحديث عن ضرب من الاستعادة الجماليّة لشكل من التصوّف بجعله أحد أبعاد الفنّ الأساسيّة، وذلك في إطار نوع من النقلة الحاسمة التي تجعل من مساحة المطلق والروحيّ وحقل الرمز بعامّة ليس حقلاً حكراً على الديانات، بل هو من مشمولات الفنّ أيضاً. وهي نقلة لا تتجلّى فقط في رسم الأيقونات الدينيّة كما في الفنّ التشكيلي الكلاسيكي، بل في ظهور شكل جديد من النزعة الصوفية في الفنّ تحت راية نقل الفنّ من تمثيل المحسوس إلى السفر نحو ما هو روحانيّ بعامّة. وتعود هذه النزعة الصوفيّة للفنّ إلى كتاب وقّعه في أواخر القرن الثامن عشر كلّ من نوفاليس وشيلنغ وهيجل تحت عنوان «أقدم مشروع للمثاليّة الألمانية» وفيه تأسيس لمفهوم صار هو البراديغم الكبير للرومانسيّة الألمانيّة بخاصّة وللنزعة الصوفيّة في الفنّ المعاصر بعامّة هو مفهوم «ميثولوجيا العقل». وقد اتّخذ هذا المفهوم عناوين عديدة فيما بعدُ من قبيل «الديانة الجمالية» (هيجل) والتصوّف اللغويّ (نوفاليس) والشعر المجرّد (بودلير) والقصّة الصوفيّة (سارتو) والتكعيبيّة (بيكاسو) والتجريديّة (كاندنسكي) والتفوّقيّة ّ(مالفيتش) والتصوّف النووي (سلفادور دالي). وقد وجدت هذه النزعة الروحانيّة في الفنّ الحديث والمعاصر في المنزلة التي خصّصها الرومانسيّون لفنّ الشعر إلهامها الأوّل. (2) المقدّس يتحدّث إلينا من جديد لقد ظهرت هذه النزعة الروحانيّة للفنّ كردّة فعل ضدّ ما يسمّيه هامان «كيمياء التنوير» داعياً إلى نوع من «النزعة التقويّة» التي بوسعها تصحيح علاقة الإنسانيّة الحديثة بمساحة المقدّس التي لم يقع تنزيلها المنزلة الكفيلة بها، وذلك بسبب سيادة العقل العلمي على ميدان الحقيقة. وفي هذا السياق، تقوم هذه «النزعة التقويّة» التي استأنفتها التأويليّة على يد دلتاي وشلايرماخر، وأخيراً في نصوص الفيلسوف الألماني المعاصر غادامار، على نوع من إعادة تنضيد العلاقة مع مساحة الرمز، أي المقدّس والروحانيّات والذاكرة الدينيّة والميثولوجيا بعامّة. ومن أجل ذلك يجعل غادامار من التجربة الفنّية خيطاً إشكاليّاً وفكرة هادية ضمن تأويليّة الشأن البشري في كل تجاربه الرمزيّة والروحيّة والمقدّسة عموماً. ويأتي ذلك ضدّ ما سمّاه ماكس فيبير «نزع القداسة عن العالم»، بما هو معنى الحداثة ذاتها، لكنّ هذا المشروع غير ممكن إلاّ باستعادة العلاقة بين الفنّ والمقدّس بأن «نتيح للمقدّس أن يتحدّث إلينا من جديد». وذلك بتحرير الذاكرة التاريخيّة من التصوّرات المتحجّرة التي أصابتها والتي تقوم على فصل عقيم بين ما عشناه في الماضي وما نعيشه اليوم. كيف نؤهّل مساحة المقدّس على نحو فنّي من أجل استقبال أسئلة جديدة؟ كيف نوقظ المعاني الأصليّة التي تحجّرت بفعل تحجّر أحكامنا وعقائدنا وتعصّب مشاعرنا وكسل انفعالاتنا؟ وكيف نسافر إلى الداخل نحو أرواحنا العميقة دون أن نسقط في هاوية التعصّب والتطرّف والانغلاق على أوهامنا؟ تلك بعض من الأسئلة التي تعمل في صمت في أشكال روحنة الفنّ مثلما جسّدتها لوحات ثلّة من الرسّامين المعاصرين، من جنس كاندنسكي ومالفيتش وبول كلي وموندريان ونيومان وبيكاسو وسلفادور دالي. (3) اللون ضرب من الصلاة لقد حافظ كاندنسكي على الأحلام الصوفيّة، وعلى الشغف بالشكل المحض من الشرق الأقصى، ولقد آمن بأنّ للألوان روحاً خاصّة تجعلها تعبّر على نوع من الموسيقى أو الرنين بحيث تقع المصالحة بين فنّ الرسم وفنّ الموسيقى. ومثلما يتمّ إنشاد الشعر والرقص على أنغام الموسيقى الصوفيّة، يتمّ بالمثل الاستغراق في تجربة الباطن، داخل فنّ الرسم نفسه.. وذلك أنّ المطلوب وفق عباراته هو «إيقاظ هذه القدرة.. من أجل أن نعيش الروحنة في الأشياء الماديّة وفي الأشياء المجرّدة». وهي قدرة تحييها فينا الألوان، بما هي تتمتّع بنوع من النغمات التي تجعل المشاهد يقوم برحلة صوفيّة حقيقية داخل اللوحة. وذلك يتمّ عبر عبور المسافات بين الألوان الدافئة والألوان الباردة. أمّا عن البعد الزمنيّ، فتمنحه لنا اللوحة عبر التناقض بين الواضح والغامض، أمّا عن الصمت التشكيلي الذي هو سمة الأبيض والأسود فيمنحنا معنى الحريّة الإنسانيّة، وبعدها الروحانيّ الكونيّ. وذلك يعني أنّ دائرة الألوان لدى كاندنسكي، إنّما هي بالنسبة له ضرب من الصلاة. (4) الدرجة صفر من الشكل لقد استأنف روّاد النزعة الروحيّة في الفنّ المعاصر هذا البعد التجريديّ وهذه الرحلة الصوفيّة عبر الألوان والأشكال المحضة والصمت التشكيليّ الحالم بعوالم أخرى، على أنحاء عدّة. نكتفي فيها بالإشارة بخاصّة إلى أعمال مالفيتش الرسّام الروسيّ الذي حرّر اللوحة من المعنى ومن المرجع ومن التمثيل. وذاك ما جسّدته لوحاته من قبيل لوحة «المربّع الأسود» بتاريخ 1915 أو لوحة المربّع الأبيض سنة 1918. ولقد اختار مالفيتش المربّع لأنّه شكل كونيّ وأساسيّ واكتفى بالألوان البدائيّة أي الأبيض والأسود لأنّهما يحيلان على دلالة اللا متناهي والهاوية التي لا قرار لها. وهو في كلّ ذلك يؤسّس لما سمّاه بالنزعة التفوّقيّة بحيث يقع تجاوز اللوحة في المعنى الدوغمائي لها من أجل لوحة تفوّقية تجعل العالم ما فوق المحسوس يتجلّى. وهنا تعني النزعة الصوفيّة في الفنّ التفوّقي ما يعبّر عنه مالفيتش: «التقليل من تمثيل العالم إلى حدّ الدرجة صفر من الشكل». 5) الرسّام يسائل صمت الملائكة تبلغ النزعة الصوفيّة في الفنّ المعاصر أوجها مع بول كلي (الرسّام ذي الأصل الألماني والذي عاش بين 1879- 1940) وبخاصّة مع لوحاته التي تجسّد الملائكة في أشكال ووضعيّات تشكيليّة ثريّة ومتعددة. ولقد كان بول كلي يقول: «أنا في هذه الدنيا فوق كلّ إدراك». وهي جملة توقّع النزعة الصوفيّة والروحيّة للوحاته. وقد بلغت رسوماته حول الملائكة تسعين لوحة. وفيها يتفنّن هذا الرسّام في مسائلة صمت الملائكة وفي تحويل هذه الكائنات الروحيّة إلى موضوعات تشكيليّة. وفي هذه اللوحات تشهد الملائكة على أسئلة وجوديّة عميقة تخترق الرسّام وتدفع بالرسم إلى الإجابة عن شكوك الإنسان حول غموض الحياة، حول الموت، حول علاقته باللا مرئي والمطلق. مع ملائكة بول كلي لم يعد ثمّة من حاجز أو وسيط بين الإنسان وربّه، بين المرئي واللامرئيّ. إنّ رسم الملائكة هو الوقوف على أبواب العالم اللامرئيّ دونما صكوك غفران ولا طقوس. ملائكة بول كلي متعدّدة الوجوه والمرايا بتعدّد وضعيّات الروح الإنساني عموماً: فهي تارة بهيجة، وأحياناً حزينة، وأحياناً أخرى هي فقط عجيبة. ولعلّ أهمّ ملائكة بول كلي كما أراد لها أن تخلّد على صدر اللوحة هي «الملاك الجديد» الذي كتب عنه الفيلسوف والتر بنيامين ما يلي:«ثمّة لوحة لبول كلي عنوانها الملاك الجديد. وهي لوحة تجسّد ملاكاً على وشك الابتعاد عن شيء ما هو بصدد التحديق فيه. عيناه تحملقان، فمه مفتوح، وأجنحته مبسوطة. هذا الملاك ينبغي أن يشبه ملاك التاريخ. إنّ وجهه ملتفت نحو الماضي». بأيّ وجه علينا أن نلتفت نحو الماضي؟ بوجه يسجد له كما لو كان صنماً ميّتاً أم بوجه يبحث على رسم يسائله؟ كيف لنا أن نحلّق في سماء الروح نحن الذين لم نعرف بعدُ كيف نبسط أجنحتنا، وكيف نبتعد عما نحن بصدد التحديق فيه؟ أسئلة تعمل في صمت كيف نؤهّل مساحة المقدّس على نحو فنّي من أجل استقبال أسئلة جديدة؟ كيف نوقظ المعاني الأصليّة التي تحجّرت بفعل تحجّر أحكامنا وعقائدنا وتعصّب مشاعرنا وكسل انفعالاتنا؟ وكيف نسافر إلى الداخل نحو أرواحنا العميقة دون أن نسقط في هاوية التعصّب والتطرّف والانغلاق على أوهامنا؟ تلك بعض من الأسئلة التي تعمل في صمت في أشكال روحنة الفنّ مثلما جسّدتها لوحات ثلّة من الرسّامين المعاصرين، من جنس كاندنسكي ومالفيتش وبول كلي وموندريان ونيومان وبيكاسو وسلفادور دالي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©