الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرواية الصوفية.. موسم الهجرة الى الغيبيّات

الرواية الصوفية.. موسم الهجرة الى الغيبيّات
5 أكتوبر 2016 11:58
برزت الصوفية كلحظة روحية وفلسفية وفكرية بامتياز في التراث العربي الإسلامي. وكان لتلك اللحظة فعلها المتفاوت في الشعر – ولعله بلغ أقصاه في شعر محيي الدين بن عربي – وبدرجة أدنى في السرد. وظل الأمر كذلك حتى أهلت اللحظة الحداثية مع انتصاف القرن العشرين، حيث بدأ فعل الصوفية في الحداثة الشعرية. وامتد الانتظار حتى ثمانينات القرن العشرين قبل أن يبدأ ذلك الفعل في الحداثة الروائية، كما سنرى. نبيل سليمان منذ أهلّ القرن العشرون، تلامحتْ الصوفية بنُدْرة فيما عُرف بالشعر الكلاسيكي أو العمودي، وربما كانت غرّة ذلك هي ما اتقد في شعر بدوي الجبل (1898 أو 1905 – 1981) منذ شبابه، كما في قصيدة (الروح الثائرة عام 1922) وقصيدة (شعاع العيون - 1924) التي تجلى فيها الحضور الأنثوي الصوفي، وهو ما سيتواتر في شعر الشاعر، كما في قصيدته الشهيرة (خالقه) والتي غنت فيروز منها في واحدة من روائعها. تصوف شعري من بعد، وتحت وطأة ما تواصلت زلزلته للبنى الفكرية والسياسية والاجتماعية والروحية، أخذ الفعل الصوفي في الحداثة الشعرية يتقد، معلياً من شأن الذات، ومنادياً من التراث الصوفي إبداعات النفري والجنيد والحلاج وابن عربي والعطار والسهرودي والبسطامي ورابعة العدوية وابن سبعين والغزالي... فكان مراحُ جديد وشائكٌ للمخيلة واللغة ورؤية العالم والإيمان والجسد و... ولئن كان أدونيس يتصدر القائمة هنا، فلابد للإشارة أن تذهب إلى قصائد لخليل حاوي وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر وعبد الوهاب البياتي ومحمد عمران وأحمد الشهاوي ووفيق سليطين وطاهر رياض وزهير أبو الشايب و... وقد تواتر وتطور الاشتغال النقدي الأكاديمي وغير الأكاديمي على ذلك كله كما على التراث الصوفي الشعري، بخلاف ما هو عليه الأمر مع التراث السردي الصوفي ومع الفعل الصوفي في الرواية. تصوف روائي أما الريادة في هذا الفعل فقد كانت لنجيب محفوظ في روايته (الطريق – 1964). وينبغي التشديد هنا على أن الأسئلة الصوفية، كثيراً ما شغلت العمارة الروائية المحفوظية، حيث حضر فيها الدرويش والمجذوب والمريد من الشخصيات الصوفية في المجتمع المصري، عدا عن الشخصيات التاريخية، كما سيلي بخاصة عن ابن عربي في رواية (رحلة ابن فطومة - 1983). في ثمانينات القرن العشرين بدا كأن صوت الصوفية في الرواية يصدح بقوة. ففي عام 1980 ظهرت رواية الطاهر وطار (الحوات والقصر)، وقد جعل فيها للتصوف واحدة من القرى السبع في رحلة بطلها علي الذي يمر في وضح الشمس فلا يراه أحد، أو قد يحسبه الناس زوبعة، أو ثعباناً مشعراً يلتف في الرمال ويركب السموم... لكن الصوفية لن تمس لغة هذه الرواية، ولن يكون لها فيها فعل حاسم. وفي العام نفسه ظهر الجزء الأول من ثلاثية إدوار الخراط (رامة والتنين) حيث سيبدأ فعل الصوفية في اللغة الروائية بخاصة. لكن الفعل الحاسم للصوفية سيلي في الجزء الثالث من ثلاثية الخراط (يقين العطش – 1996)، حيث يبلغ أقصاه حضور رامة كامرأة استثنائية عاشت وميخائيل الوجد والألم والفقد والنفي والاتحاد والفصم والجسدانية البحتة والجسد الطعين والجسد الملتبس والجسد الغامض الوضاءة... كما توشت الرواية من التراث الصوفي بنبذ من الحلاج وذي النون الإخميني وابن الفارض، والصوفية في ثلاثية الخراط، ليست فقط الإسلامية، بل هي القبطية، والكولية أيضاً. مع ظهور (كتاب التجليات- 1983) لجمال الغيطاني، يمكن القول إن مرحلة جديدة قد انفتحت لما بين الصوفية والرواية، عنوانها: الرواية الصوفية. فقد بنى الغيطاني روايته على هيئة صوفية، إنْ في القسم الثاني الذي جاء موقفاً فموقفاً، اقتداء بالمواقف الصوفية، أو في الأسفار واللطائف الشعرية في القسم الأول من الرواية، أو في لغة الرواية. وكما جاءت هذه الرواية سيرة لصاحبها، ستكون رواياته العديدة الصوفية التالية، ومنها (رسالة في الصبابة والوجد – 1989) و(متون الأهرام – 1994) و(دنا فتدلى – 2003)... وقد ملأت الأنثى هذه الروايات جميعاً، لكنها كانت (الأنثى الكثيرة)، وليست (الواحدة) مثل رامة عند إدوار الخراط. في المغرب وفي سنة 1990 أعلنت الصوفية عن حضورها الباذخ في روايتي الميلودي شغموم (مسالك الزيتون) وبنسالم حميش (مجنون الحكم). وإذا كانت الأولى قد لعبت اللعبة الصوفية فيما أدارت من حوار الحروف، فقد تقرت الثانية الملامح الصوفية في الشخصية الروائية. ثم جاءت من المغرب أيضاً رواية موليم العروسي (مدارج الليلة الموعودة – 1993) مبنية بلغة تتغيّا اللغة القرآنية، ومن مقامات صوفية، لبعضها ألوان (مقام الأحمر، مقام الأسود...) ومنها (مقام كل الألوان) و(مقام الماء بين جميع المقامات وماجدها). ولقد اعتورت الحالات الصوفية الشخصيات جميعاً. حضور متفاوت ترسم الروايات السابقة تدرج وملامح الفعل الصوفي في البناء الروائي، حيث حضر، بتفاوت، المعجم الصوفي، وكان الرهان على الأنوثة أو الشخصية أو الحالة. وقد بلغ الأمر أحياناً أن تغدو الرواية منصة للدعوة الصوفية، كما في رواية سليم مطر كامل (التوأم المفقود – 2002)، حيث الدعوة المنداعية العرفانية، وفي رواية نجوى بركات (لغة السر - 2004)، وكذلك في دعوة عبد الإله بن عرفة إلى كتابة الرواية العرفانية عبر (الكتابة بالنور). وقد قدمت رواياته حيوات متصوفة من التاريخ مثل ابن عربي في رواية (جبل قاف – 2002). والششتري في رواية (بلاد صاد – 2009). ورواية (الحواميم – 2010) ورواية (طواسين الغزالي – 2011). وقد تصدر هذه الرواية بيان أدبي حدد هدف الرواية ببعث الإحياء في الأمة، وذلك باستذكار صاحب الإحياء، أي الغزالي، والإشارة هنا هي إلى كتابة إحياء علوم الدين. وسيضيف في (طاسين الرؤية) أن ما أراده الغزالي من التصوف هو الحل الأمثل أمام المعضلات التي تواجه الأمة. والتصوف هو مشروع بن عرفة للأمة. وكان قد حدد في البيان الافتتاحي أن غايته من استحضار الغزالي (نسّاج الأرواح) هي المكر بالتاريخ. ويختم الكاتب بيانه بأبيات صوفية له، تظل، كما هو البيان، وكما هي متناصّات جمّة ستلي في الرواية، فضلة تبهظها، شأنها شأن مضارعة الواقع أو اللغة الصوفية والتراثية بعامة، وكذلك هو نتوء المعلومة التاريخية. ومثل هذا النهج كان لرواية سالم بن حميش (هذا الأندلسي - 2007) عن المتصوف ابن سبعين. تأتي بمثل هذه الجهارة بالدعوة الصوفية رواية عادل خزام (الظل الأبيض – 2013). وقد جعل الكاتب للرواية عنواناً فرعياً شارحاً هو (تجربة في الاستنارة). فالرواية التي تلاعب السيرية ترسم سبيلاً روحياً - صوفياً سلكه راويتها وبطلها الصحفي الإماراتي إبراهيم، عبر اللحاق بالمرأة التي لا تموت مثلنا، وتتجول خارج الزمان والمكان. إنها امرأة الظل الأبيض (نور) المتزوجة من (برهان) الذي انخرط صغيراً في حلقات صوفية في سوريا، وخبر المعتكفات الهندية الروحية، ويمارس التدريبات الروحية من أندونيسيا إلى الإمارات، حيث سيحضر إبراهيم ونور في (الفجيرة) مع جمع من المعلمين والمتنورين القادمين من بلدان شتى، للقاء مع (المعلم الكبير). تبدو رواية عادل خزام عاكفةً على تقديم تجربة روحية صوفية، ولكن تبشيريتها تظل جهيرة، بخلاف ما تبدو عليه رواية يحيى القيسي (الفردوس المحرم – 2015)، ومثلها روايته السابقة (أبناء السماء – 2010). ومما تتميز به تجربة القيسي، عدا عن السيرية الصريحة، تشغيل المعرفة العلمية والأخيولة العلمية في الرواية، وتفاعلهما مع المعرفة الصوفية ومع الأخيولة والحالة الصوفيتين. أما التبشيرية فلا تطغى ولاتنتأ، بل تحضر برهافة ومن خلف حجاب، غالباً. بلعبة الرسائل الإلكترونية، والتنقيب عن الدفائن، وتحوّل الشخصيات الورقية الروائية إلى بشر من لحم ودم، تحضر رواية (أبناء السماء) في رواية (الفردوس المحرم)، وتنسرب الرسالة الصوفية في إهابٍ مغوٍ من البوليسية والفانتاستيك. ولابد من الإشارة إلى ما جاء في ختام الرواية عن (الفجيرة) أيضاً، وهو ما يتصادى مع ما تقدم في رواية عادل خزام. وأخيراً، هي ذي من تونس رواية محمد الباردي (ديوان المواجع – 2016) والتي تقدم شخصية نور المتصوفة الملازمة لضريح (مولاي عباس). فنور الرابعة – بعد نور بدوي الجبل ونور يوسف زيدان ونور عادل خزام – تحجبت وتصوفت بعدما رفضت سبيل الإخوان المسلمين الذين أرسلوا إليها يريدونها أختاً فأجابت: «أنتم تبحثون عن طريق السلطة وأنا أبحث عن طريق الله». وكانت نور قد خابت في عشقها لحمدي رجب، ثم في زواجها، فالتحقت بمزار سيدي عباس نشداناً للتوازن الروحي، ولتتحرر من جسدها. وبعد زواجها من شيخ الطريقة ستصير الشيخة نور وسيصير لها مريداتها. كما ستتولى المزار وتشهد (الحضرة)، وسيزداد المريدون بعد الانتفاضة التونسية 2011. وهكذا جاء الفعل الصوفي في (ديوان المواجع) متواشجاً مع الفعل الاجتماعي عبر العقود التونسية منذ عهد بورقيبة إلى عهد زين العابدين بن علي إلى عهد الانتفاضة. لقد اغتنت جماليات الحداثة الروائية باشتغال الصوفية في الرواية، سواء تعلق الأمر بالتخييل أم بالحفر في التراث أم باللغة، دون أن نغفل أن من ذلك الاشتغال ما كان تحت وطأة الهزائم السياسية والاضطرابات الفكرية والاجتماعية، والعكوف - بالتالي – على الذات وعلى الغيبيات. في النّور في صوفية شعر بدوي الجبل يحضر من التراث الصوفي الحب والتشبيب، حيث يكون من يخاطبه الشاعر حبيباً أو حبيبة، بضمير المذكر أو المؤنث (قصائد: الحب والله – اللهب القدسي – الكعبة السمراء...). كما تتلامح مفردة (النور) بكل حمولاتها، ومنها قوله: (مزق الحق حجاباً للدجى /‏ وانجلتْ نفسي في النور لنفسي) وقوله في قصيدة (النبع المسحور): «قربنا الله فوق الزمانْ /‏نحن مع النور وفوق المكان/‏ صلاتُنا النور فمن وهجها/‏ شعّ الضحى وأتْلق النيران» وفي قصيدة (الذكرى) نقرأ: «وفزنا من النور المصون بلمحة/‏ تقرُّ بها عينٌ ويندى بها قلبُ». أما في قصيدة (خالقه) فنقرأ: «من نعمياتك لي ألف منوعة/‏ وكل واحدة دنيا من النور/‏ من موطن النور هذا الحسن أعرفه/‏ حلو الشمائل قدسي الأسارير». في فلك أبيض من الأفكار التي تبثها نور ما تخاطب به إبراهيم: أنت مجرد لاعب في شبكة أفكار، لا توجد فكرة حقيقية. وفي ورقة على السرير تترى الأفكار الصوفية: أنت لست أنت، الصمت أصل الكون، الروح لا تفنى، هدف وجودك هو إدراك ذاتك الخالدة. وقد صنّف إبراهيم مجتمع الأصدقاء والزملاء، حيث يعيش قبل الالتحاق بنور، على أنه مجتمع القطيع البشري، وطابور الخنوع، حتى إذا أنجز الرحلة إلى أعماقه في واحد وعشرين يوماً – هي جلسات التأمل الصامت التي تنظمها نور وزوجها – بات لا يتألم من شيء، وبلغ (الكشف) في ختام تجربة الاستنارة، فتنعم بنعمة التلاشي والتحول إلى نثار في فلك أبيض، وتفتحت له وفيه عين البصيرة مثل زهرة في أعلى قمة جبل النور. من رواية «الظل الأبيض» لعادل خزام
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©