الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سردية الروحانية المستيكية

سردية الروحانية المستيكية
5 أكتوبر 2016 11:49
إميل أمين هل من تصوف في المسيحية؟ علامة استفهام مثيرة للجدل، ذلك أنه بقدر ما يوجد من متصوفين، رجال ونساء عبر التاريخ المسيحي الذي يتجاوز اليوم ألفي عام، إلا أن لفظة صوفي مسيحي لا تكاد تكون ظاهرة، وتختلط اختلاطاً كبيراً بفكرة النسك والرهبنة، ومن هنا فإن غالبية الذين كتبوا عن العالم الروحاني في المسيحية، أطلقوا على ذلك الفرع الذي يعنى بالحكمة وبمحبتها، وبالذوبان في الذات الإلهية وبأسرار الملكوت، علم اللاهوت النسكي، أو المستيكي، أي ذاك الذي يحوى الأسرار الربانية العليا، ولذا يرى الباطنيون المسيحيون أن طريق الحب والنشوة يكتمل في الاتحاد مع الذات العليا. ولعل السؤال الحقيق بطرحه: «هل تأثرت المسيحية، في فرعها الصوفي بالمذاهب والاتجاهات الفلسفية التي سبقتها؟». الثابت أنه إذا أردنا أن نؤرخ لنشوء وارتقاء الأفكار الفلسفية والصوفية في المسيحية، فالبداية لا بد وأن تكون من عند العلامة المصري الإسكندري أوريجانوس الذي عاش في القرن الثالث الميلادي (185 – 253 م) وقد كان أول من استطاع أن يتبنى الفكر الفلسفي اليوناني لكي يعبر به عن الإيمان المسيحي في منظومة فكرية واسعة متماسكة. كان الفكر الأفلاطوني الركيزة الفكرية الأولى في رؤية أوريجانوس اللاهوتية مما جعله يدخل بعض الأفكار الأفلاطونية، وقد كان رائداً في الفكر الروحي ـ الصوفي (Mystic) فكان أول من قدم تصوراً كاملاً للطريق المسيحي الروحي ـ الصوفي، فمسيرة الإنسان عنده تبدأ مع الخلق الأول في اللوجوس، فيتبعه النزول إلى العالم السفلي، ومنه يرتفع الإنسان حتى يرجع إلى العالم الأول عبر مراحل صوفية متعددة. كذلك كان أوريجانوس أول من طور بشكل منتظم فكرة الحب ـ العشق (eros) كمحور مركزي للحياة الروحية في المسيحية. زد على ذلك أنه طور بشكل منتظم التأويل الرمزي لكثير من الآيات الكتابية، فمن تأملاته الواسعة والمتعمقة أخذ المفكرون اللاحقون منهجه في الحياة النسكية. وهكذا استحق أوريجانوس لقب «مؤسس» الحياة الروحية ـ الصوفية «في المسيحية عموماً، والحياة الرهبانية بنوع خاص». مع نهاية القرن الثالث وبعد رحيل أوريجانوس كانت أفكاره وكتاباته قد فتحت طريقاً واسعاً للمسيحيين الشرقيين، لا سيما المصريين منهم، للانسحاب من زحمة الحياة، والاتجاه عبر طريقين: إما الحياة النسكية الصوفية المتوحدة في الصحراء، وإما العيش في جماعات صوفية تلتزم التبتل والعزوبية وإن شملها قانون عام، وقد أرسى دعائم النموذج الأول «أنطونيوس الكبير» المعروف بـ«أبو الرهبان» أو كوكب البرية، والثاني قدمه «باخوميوس» الذي يطلق عليه أبو الشركة، والذي رسم طريق عيش المتصوفين المسيحيين في جماعات.. ما الذي يسعى إليه الناسك ـ الصوفي المسيحي في النموذجين؟ قطعاً إن فكرة الانسحاب بعيداً عن العالم من المنظور الصوفي المسيحي قد قصدت تقليل فرصة الضياع في العالم، والحاجة إلى وضع حاجز منيع بينهم وبين إغراءات العالم.. إنهم لا يشغلون أنفسهم بأي موضوع أرضي ولا يهتمون بأي شيء يخص هذا العالم الزائل، وبعضهم لا يعرفون حتى وجود عالم آخر على الأرض، أو أن الشر موجود في المدن.. لقد اندهش الكثيرون منهم عندما سمعوا عما يجري في هذا العالم، لأنهم اقتنوا نسياناً كاملاً للشؤون الأرضية. عبر عقود طوال بلور الصوفيون ـ النساك الأوائل في المسيحية صورة لـ«الصوفية المسيحية» مغايرة للثنائية اليونانية ـ الغنوسية النشأة، فالقصد من النسك المسيحي هو خلاص النفس، وحفظها من مغريات العالم وإماتة الجسد عن الشهوات، ذلك أن أهواء الجسد تشكل عقبة هائلة في طريق الخلاص، لكن الجسد نفسه ليس شراً بل شهواته ورغباته هي كذلك، على خلاف مع الثنائية الغنوسية التي تعتبر المادة والجسد في ذاتهما شراً، وبينما يهدف النسك ـ الصوفي المسيحي إلى إنكار الذات وسمو الجسد نحو الروح، فالغنوسية (التعليم الكاذب المرتبط بالمعرفة وهي حركة نشأت في المسيحية في القرن الثاني الميلادي) تهدف إلى الخلاص من الجسد. وفى التصوف أو النسك المسيحي تسعى الروح إلى الوصول إلى درجة الكمال من خلال اجتياز ثلاث مراحل: هي التحرر من الخطيئة بإماتة الجسد عن الشهوات، ومن ثم اكتساب فضائل داخلية عن طريق الصلاة والتمثل بحياة السيد المسيح، وأخيراً النمو في محبة الله الكاملة، إلى أن يصل الإنسان وبسكناه إلى الاتحاد معه. لقد كان الفهم النسكي لتعالم وحياة المسيح هو قائد الحياة الصوفية الرهبانية، فترك العالم وتبعية المسيح هي أساس الانطلاق لتلك الحياة. التقوى السريةللنفس يسعى الصوفي المسيحي إلى امتلاك بذور الخير والحرية والنور والفن الأسمى، ويغوص في التأملات حول جدوى الحياة وقيمتها وجمالها عندما ترتبط بالذات الإلهية، إنه يطمع في تأسيس حياة جديدة له على الأرض من خلال التقوى السرية للنفس المرتحلة للرحلة الطوباوية نحو الله تعالى، والرجوع الشامل إليه، عبر مضمار السباق الإلهي في الفضيلة، ومسيرة صعود واستمرار الامتداد والإشعاع إلى الأمام، وطريق الصوفي المسيحي لا بد من أن يمر بدروب التواضع فهو أعظم الفضائل النسكية، عطفاً على مقاومة شهوات الجسد، وعدم الاستجابة لرغباته، فرغبات الجسد تعبر عن التوق إلى العالم، لكن المقاومة وعدم الاستجابة تعني ضبط الجسد وأفكاره ولا تعني أبداً تجاهل الجسد. شكل الشرق لا سيما مصر وبلاد الشام مصدراً ثرياً للنسك والتصوف المسيحي حتى القرن السابع والثامن الميلادي، وخاصة في ضوء ازدهار مدرسة الإسكندرية اللاهوتية ورموزها الكبار من أمثال أثناسيوس وأكليمنضس، وفي إقليم الكبادوك في آسيا الصغرى ظهر غريغوريوس النيصي، شقيق باسيليوس الكبير، والكثير من الأسماء اللامعة في سماء الصوفية المسيحية غير أنه بدءا من القرن الحادي عشر الميلادي وحتى أواخر القرن الخامس عشر تحولت الدفة إلى المسيحية الغربية ليجد المرء أن مضمار النسك والتصوف قد برع فيه غربيون خاصة في إيطاليا وإسبانيا، والأخيرة كانت موئلاً للتصوف الإسلامي، وكان «ابن عربي» قد ظهر فيها بالفعل. في مقدمه الصوفيين الغربيين الذين لا تزال الذاكرة الصوفية حول العالم تعيهم بشكل جيد للغاية، يأتي «فرنسيس الأسيزي» المولود في مدينة إسيزي الإيطالية عام 1182 ميلادية ومؤسس جماعة «الإخوة الأصاغر»، والتي تعرف اليوم بالرهبنة الفرنسيسكانية، كان فرانسيس ابن أحد التجار الأثرياء، لكنه فضل حالة العشق الإلهي، واندمج مع الطبيعة على نحو خاص بوصفها تجلياً من تجليات الله في الكون، وألف نشيد الخلائق الذي يسبح به الخالق عبر جميع مخلوقاته. رفض «فرانسيس» أن يصير قسيساً، وعلى غرار الصوفيين انخرط في تعليم البسطاء من غمار الناس، ومرة أخرى وعلى نمط الصوفيين، وليس على نمط الكنيسة سعى إلى نشر الحركة الصوفية ـ النسكية بين كل الناس، من خلال أنواع من الانتماء، وكان هذا أول عودة داخل الكنيسة لظهور العنصر الديمقراطي: الشعب المسيحي، منذ تأسيس هرميتها الكاملة، كعنصر متميز عن الحملات الوديعة التي لا تحتاج أكثر من الغذاء والأرواح التي تحتاج من يحكم خفقانها. على أن هناك اسماً آخر «يوحنا ولي الصليب» المولود في إحدى قرى مقاطعة Avila في إسبانيا العام 1542، يحتل مكانة الصدارة في عالم التصوف، ولهذا يطلق عليه «أمير التصوف المسيحي»، وهذا ما يتجلى بنوع خاص في سطور كتابه الشهير «النشيد الروحي». خذ إليك هذه المقطوعة التي يقول فيها: أين احتجبت يا محبوب، وخلفتني في أنين؟ كإيل هربت بعد أن جرحتني، وفي أثرك خرجت صارخة، فكنت قد ذهبت. وشرح ما تقدم هو أن النفس البشرية في تلك المقطوعة تعرض أشواق حبها، وذلك إذ تعشق الخالق، وإذ تود الاتحاد به بطريق الرؤية الجلية الجوهرية، وهي إذ تأخذ عليه غيبته، لا سيما أنه قد جرحها بحبه الذي من أجله خرجت عن كل ما هو مخلوق وعن ذاتها، فإنها لا تفتأ تعاني تباريح غيبة محبوبها، الذي لم يطلق بعد سراحها من قيود البدن الفاني كيما تستطيع أن تتمتع به في مجد الأبدية، وعلى هذا النحو نراها تنشد قائلة «أين احتجبت؟». على أن «يوحنا ولي الصليب» يكتسب أهمية خاصة في عالم التصوف إذ يعتبره البعض من المؤرخين المعاصرين جسراً وقنطرة بين التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي. و لعل من توقف عند هذه الجزئية المثيرة تحديداً هو المؤرخ والكاتب والأديب الإسباني «ميغيل أسين بلاثيوس» (1871 – 1944)، المستشرق والقس الكاثوليكي في الوقت عينه، وصاحب الكتابات المتصلة بالتأثيرات الإسلامية على المسيحية والتصوف المسيحي في إسبانيا. وعند «بلاثيوس» أن «يوحنا ولي الصليب» قد تأثر بالتصوف الإسلامي، وقد عقد في كتابه «آثار الإسلام»، مقارنة بين آراء «الصليبي»، وآراء ابن عباد الزيدي، في شرحه لحكم ابن عطاء الله السكندري، وإن كانت مسألة المقاربة لم تحسم بعد، غير أن الوجود الصوفي في الأندلس لعب ولا شك دوراً مهماً في تشكيل اتجاهات الصوفية المسيحية الأوروبية. تأثيرات التصوف المسيحي يعن لنا أن نتساءل هل تأثرت الفلسفة الصوفية الإسلامية في نشأتها الأولى وبدورها بالتصوف المسيحي والأفكار المسيحية؟ هناك في واقع الحال من يقطع بذلك، من أمثال المستشرق النمساوي «فون كريمر» والذي يرى أن: «التصوف الإسلامي والأقوال المأثورة عن الصوفية إنما هي ثمرات نمت وترعرعت ونضجت في بلاد العرب تحت تأثير جاهلي، حيث كان كثير من العرب الجاهليين نصارى، وكان كثير من هؤلاء النصارى قسيسين ورهباناً». فيما يذهب المستشرق اليهودي المجري «جولد زيهر» إلى ما تقرره النصرانية من إيثار الفقر والفقراء على الغنى والأغنياء، ويعني هذا أن يترتب عليه أن «الفقر والتخشن في الحياة إنما يرجع إلى أصل نصراني». هل كان للصوفية الغربية المسيحية دور فاعل في نهضة أوربا العلمية خاصة في القرون الوسطى؟ في كتابه «الصوفيون» للمؤلف الأفغاني الكبير «إدريس شاه» نقرأ إن من الشيق أن نتوقف أمام الاختلاف بين العلم كما نعرفه اليوم، ومثلما كان يراه رواده، ولقد كان روجر بيكون، الذي يعد معجزة العصور الوسطى، وأحد أكبر المفكرين الذين أنجبتهم البشرية، رائداً للمنهج العلمي الذي توصل إليه من خلال التجربة. إلا أن هذا الراهب الفرنسيسكاني تعلم من الصوفيين الذين ينتمون إلى مدرسة الإشراق، أن هناك فرقاً بين جمع المعلومات، وبين معرفة الأشياء خلال التجربة المعلمية الفعلية. ففي كتابه المعنون( Maius Opus) الذي استشهد فيه بقطب من أقطاب الصوفيين يقول: «هناك نوعان من المعرفة، تلك التي تتوصل إليها خلال الجدال، وتلك التي تصل إليها من خلال التجربة، ويقودنا الجدال إلى نتائج معينة ويفرض علينا أن نذعن لها، ولكنه لا يرسو بنا على بر اليقين أو يبدد شكوكنا حتى يخلد الذهن إلى الطمأنينة في رحاب الحق، ما لم يكن ذلك قد وفرته لنا التجربة». مثل هذا المبدأ الصوفي عرفه الغرب تحت اسم المنهج العلمي الذي يعتمد على الإجراء الاستقرائي، وقد تأسس عليه العلم الغربي اللاحق. ومن هنا فمن وجهة النظر الصوفية، يكون «بيكون» عندما كتب هذه الكلمات في العام 1268، قد دشن العلم الحديث، كما نقل جزءاً ليس أكثر من الحكمة التي كان في الإمكان أن يكون قد تأسس ذلك العلم عليه. أفضل ما يمكن للمرء أن ينهي به هذه السطور المختصرة دون إخلال لفكرة التصوف المسيحي، هو ما جاء به المستشرق الإيطالي المعاصر البروفيسور والراهب الكومبوني «جوزيبي سكاتولين» في مؤلفه الأخير «تأملات في التصوف والحوار الديني» إذ أشار إلى أن قديس المستقبل، أو قل المتصوف الروحاني في المستقبل هو ذلك الذي يعيش في انفتاح حقيقي بذاته على الآخر المختلف، فيخرج من حظيرته الدينية الخاصة، لملاقاة حضور السر الإلهي في التقاليد الدينية العالمية، وبهذا يصبح ذلك القديس المتصوف أو تلك القديسة المتصوفة، بكامل المعنى «أخاً كونياً» أو«أختاً كونية» معترفاً به/‏‏‏ بها ومحبوباً/‏‏‏ محبوبة من طرف الكل، أي المنتمين إلى شتى التقاليد الدينية، وهذا ما يمكننا أن نسميه بـ«القداسة الكونية أو العالمية»، وهي خطوة مطلوبة ومرغوبة في سياقات العولمة الإيجابية على مستوى الإنسانية الكونية. ثلاث مراحل للكمال في التصوف أو النسك المسيحي تسعى الروح إلى الوصول إلى درجة الكمال من خلال اجتياز ثلاث مراحل: هي التحرر من الخطيئة بإماتة الجسد عن الشهوات، ومن ثم اكتساب فضائل داخلية عن طريق الصلاة والتمثل بحياة السيد المسيح، وأخيراً النمو في محبة الله الكاملة، إلى أن يصل الإنسان وبسكناه إلى الاتحاد معه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©