الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هل ينقذنا التصوف من براثن التطرف؟

هل ينقذنا التصوف من براثن التطرف؟
6 أكتوبر 2016 11:50
هاشم صالح أعتقد شخصيا أننا لن نخرج من أخطر محنة في تاريخنا إلا بانتهاج طريقين مختلفين ومتكاملين في آن معاً. الطريق الأول هو الكشف عن القيم الروحانية والإنسانية في تراثنا العربي الإسلامي الكبير. وهي المتجسدة عموماً في التصوف والأدب العربي العظيم بشعره ونثره. والطريق الثاني هو إعادة الاعتبار لقيم العقلانية الفلسفية والتفكير المنطقي السليم. وهي قيم مطموسة من قبل الاغتصاب الهمجي الذي تعرض له هذا التراث العريق على يد الدواعش والداعشيين ومن والاهم وأشبههم من «قاعديين» وإخوان مسلمين الذين ينحرون الآن الديمقراطية باسم الديمقراطية! وهذه أكبر خدعة أو أكذوبة تسيطر على العرب حالياً. إنها فضيحة حقيقية. أكثر أنظمة العالم تكميماً للأفواه وملاحقة للكتاب والصحفيين وتواطئاً مع الداعشيين، تحول فجأة إلى نموذج يُحتذى على الديمقراطية! لا معنى لأي ديمقراطية من دون احترام لدولة القانون والحريات الأساسية وعدم التمييز بين المواطنين على أساس عرقي أو طائفي. وإلا فإن الديمقراطية تتحول إلى مصادفة فارغة أو مفرغة من مضمونها ومحتواها. الديمقراطية ثقافة متكاملة وليست مجرد صناديق اقتراع. هذه ديمقراطية صورية شكلانية. هتلر أيضاً انتُخب ديمقراطياً وبأغلبية الأصوات وكانت النتيجة التي نعرفها. ثم كيف يمكن لأكبر أيديولوجيا توتاليتارية في تاريخ الإسلام -عنيتُ أيديولوجيا الإخوان المسلمين- أن يكون لها أي علاقة بالديمقراطية والفلسفة السياسية الحديثة؟ وأضيف إليهم جماعة «نور الدين زنكي» التي ارتكبت فاحشة كبرى مؤخراً في نواحي حلب بذبح طفل فلسطيني لا يتجاوز الثالثة عشر ربيعاً. إنا لله وإنا إليه راجعون. والله عندما أتذكر صورته كالملاك وهو يستغيث ويتخبط بين أيديهم كالعصفور ويطلب الرحمة من جلاديه يكاد يُجنّ جنوني. ثم يصرخون: الله أكبر، بعد ذبحه! لكأن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يخلع المشروعية على ذبح طفل؟ كيف شوّهوا الدين الحنيف إلى مثل هذا الحد؟ كيف انقلب دين الرحمة إلى عكسه؟ اسألوا المفكر الفرنسي البروفيسور إريك يونس جوفروا أستاذ التصوف الإسلامي في جامعة ستراسبورغ. فعنده الخبر اليقين. إرهاب لاهوتي كهنوتي هنا تكمن مشكلة الإرهاب اللاهوتي في تاريخنا. ضعوا في أذهانكم هذا المصطلح القديم الجديد: عصر الإرهاب اللاهوتي الكهنوتي. متى سنخرج منه؟ إنه معضلة المعضلات، وللأسف فإن الفكر العربي المعاصر عاجز عن مواجهته. لا يوجد لدينا فولتير ولا ديدرو ولا كانط ولا روسو هذا ناهيك عن نيتشه أو فويرباخ! لو وُجدوا لفككوا هذا اللاهوت القاتل من أساسات أساساته. والله إنها لفضيحة تلك الحال التي هي عليها الفكر العربي الحالي. أقول ذلك وأنا أشعر بالألم والعجز في آن معاً. فلولا توهم هؤلاء الوحوش بأنهم محميون لاهوتياً لما تجرؤوا على ذبح طفل في عمر الورود. على أي حال هنا يتدخل التصوف الروحاني والإنساني الرائع لكي يرد عليهم ويفحمهم. هنا يتدخل لكي يحتل مكانته العظيمة على يد الأقطاب الكبار من أمثال: المحاسبي والبسطامي ومحيي الدين ابن عربي وحتى الأمير عبدالقادر الجزائري الذي حمى المسيحيين في دمشق من مجزرة كبرى العام 1860. هذا مسلم حقيقي، مسلم عظيم.. وأما الطريق الثاني فيتمثل في استكشاف الأبعاد العقلانية والفلسفية لهذا التراث بالذات. وهي أيضاً مطموسة مثل الأولى. مَن يعطي دروساً عن التصوف في مدارسنا وجامعاتنا؟ مَن يتجرأ على الاستشهاد بأبيات ابن عربي الخالدة عن دين الحب؟ مَن يعطي دروساً عن فلاسفة العرب والإسلام من الكندي إلى الفارابي إلى ابن سينا وابن باجة وابن رشد وابن طفيل وغيرهم؟ على أي حال فإن هيمنة التيارات الظلامية التكفيرية على ثقافتنا العامة ومناهج تعليمنا لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. عاجلاً أو آجلاً ينبغي أن ينهض الباحثون والمثقفون العرب لمقاومة هذا الإعصار الظلامي الذي يكتسح المنطقة. أضيف أننا بحاجة إلى رد ثالث يتمثل في الفاصل الليبرالي العربي 1850-1950. ينبغي التذكير به. إنه عصر النهضة بكل رموزه. بل ونحن بحاجة إلى رد رابع يتمثل في التعريف بفكر الأنوار الأوروبية. فتراثنا على عظمته لا يكفي لأنه مسجون داخل الفضاء العقلي للقرون الوسطى. حتى الفارابي لا يكفي. حتى ابن رشد لا يكفي. بل وحتى طه حسين لا يكفي. أما التصوف فيحتوي على قيم روحانية وأخلاقية عظيمة ولكن المشكلة هو أنه مُكفَّر من قبل التيار الحرفي الجامد المتزمت المهيمن على العالم الإسلامي منذ عصر الانحطاط حتى الآن. إنه مُكفَّر ماضياً وحاضراً. يكفي أن نذكر هنا اسم برهان الدين البقاعي الذي ألّف كتاباً كاملاً بعنوان: «تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي». وكذلك فعل ابن تيمية حيث يقول: «وأما ابن عربي وابن سبعين وغيرهما ونحوهما فحقائقهم فلسفية غيّروا عبارتها وأخرجوها في قالب التصوف». ثم يضيف هذه العبارة البليغة: «أخذوا مخ الفلسفة فكسوه لحاء الشريعة». ولا يكتفي بذلك وإنما يتهم ابن عربي وابن سبعين بأنهما من ملاحدة الصوفية وذلك لقولهما بالحلول والاتحاد. وفي العصر الراهن استمرت الهجمة على التصوف مثلما استمرت على الفلسفة سواء بسواء. أقول ذلك على الرغم من الفرق الشاسع بين منهجية التصوف ومنهجية الفلسفة. ولكن بما أنهما كليهما يدعوان إلى التسامح والتفاهم واحترام الآخر فإنهما مدانان من قبل الثقافة الدينية السائدة في العالم العربي. قلت الثقافة الدينية وكان ينبغي أن أقول: الجهل المقدس.. لن يغفر المتطرفون للتصوف تسامحه الديني مع الآخرين. هذا شيء غير مقبول إطلاقاً بل ويعتبرونه خروجاً على الإسلام! لكأنه لكي تكون مسلماً ينبغي بالضرورة أن تكون متعصباً كارهاً للآخرين! هذا في حين أن جوهر الإسلام هو التسامح والتضامن والتقدم «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»، هل سمع الداعشيون ومن والاهم بهذه الآية الكريمة؟! المعركة الكبرى هكذا نجد أنفسنا أمام تيارين كبيرين: التيار الصوفي المتسامح، والتيار الحرفي الجامد المتعصب المضاد له. لكن لتوضيح المشهد الحالي أكثر سأستعين بفيلسوف سنغالي مشهور عالمياً هو الدكتور سليمان بشير ديان، فأنا شخص «مستطيع بغيره»، كما يقول المعرّي، ولا أتوصل إلى أفكاري إلا بعد بحوث شاقة وتحريات عديدة وجهد جهيد. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. فمن هو أشهر مثقف سنغالي مسلم معاصر؟ وُلد الرجل في السنغال العام 1955. وبعد أن حصل على البكالوريا في بلاده انتقل إلى باريس حيث نال شهادة التبريز في الفلسفة من نفس الكلية الشهيرة، وبعدئذ عاد إلى بلاده للتدريس في إحدى جامعات العاصمة داكار. وفي نهاية التسعينيات التحق بجامعة شيكاغو قبل أن تصطاده جامعة كولومبيا في نيويورك. وهكذا أصبح الرجل متربعاً على عرش ثلاث قارات: أميركا، أوروبا، أفريقيا. نضيف أن جده كان إماماً في السنغال ووالده كان أحد زعماء الطريقة الصوفية التيجانية العريقة. وكان منذ نعومة أظفاره يقرأ مؤلفات المصلح الباكستاني الشهير محمد إقبال. فالواقع أنه على عكس والده وجدّه اختار الفلسفة لا التصوف كمركز للاهتمام. ولكنه بقيَ في أعماقه متصوفاً أو قُلْ زاوج بين روح التصوف السمحة وعقلانية الفلسفة العميقة. وهو الآن أستاذ تاريخ الفلسفة الإسلامية في جامعة كولومبيا في نيويورك. كان سليمان بشير ديان في بداياته مغرماً بالرياضيات وعلوم المنطق. ولكن بعد صعود الموجة الإخوانية الأصولية وظهور «القاعدة» وكل حركات التطرف راح يغيّر وجهته ومساره. فقد شعر بأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي أمام ما يتهدد العالم الإسلامي من مخاطر بسبب هذه الهجمة الظلامية الكاسحة.. فشمّر عن ساعديه ونزل إلى معمعة المعركة الفكرية الضارية. وقد فعل ذلك للدفاع عن الإسلام، عن الصورة الجميلة والعظيمة التي يحملها في داخله عن الإسلام. وهي صورة تربَّى عليها منذ نعومة أظفاره على يد والده الشيخ الصوفي الروحاني الطيب. وشعر بأن مسؤوليته تكمن في تذكير الجميع بوجود إسلام آخر غير هذا التيار المتحجر الجامد المضاد للتطور. هناك إسلام منفتح على التراث الفلسفي والفكر النقدي الحر. ولكنه مُغيَّب عن الساحة. ونتجت عن انخراطه الفكري هذا عدة كتب عن محمد إقبال، وسنغور، وعن الإسلام، إضافة إلى كتاب أشهره في الأوساط العالمية هو «كيف يمكن أن نتفلسف في الإسلام»؟ وفيه يستعرض أطروحات العديد من الفلاسفة والمصلحين المسلمين كابن سينا والغزالي وابن رشد وغيرهم. ويرى هذا الفيلسوف أنه في مواجهة حركات التعصب الأعمى ينبغي أن نركز على أهمية التساؤل، والتسامح، والقبول بتعددية التفاسير في الإسلام. ويرى أن هذا التسامح هو الذي يلهم الإسلام الصوفي النبيل القائم على المحبة لا على الكره والبغض والتكفير. ثم يضيف الفيلسوف السنغالي قائلاً: ولكن المشكلة هي أن التيار الإخواني وكذلك التيار الحَرْفي السلفي سيطرا على الساحة طيلة العقود الماضية. وهو تيار يكره التصوف كرهاً شديداً بل ويكفِّره صراحةً. ولهذا السبب فقد أعلن الحرب عليه وعلى الفلسفة أيضاً لأنها في رأيه مجرد زندقة تُبعد عن الدين. ولكن نلاحظ أن الذين دعموا هذا التيار التكفيري الانغلاقي على مدار عقود متطاولة أصبحوا الآن يعضون أصابعهم ندماً على ما فعلوه لأن النار وصلت إلى باب الدار. فقد تمخض عن تلك العقود من التعليم الإرهابي للدين وحش كاسر يعجز العالم كله عن السيطرة عليه حالياً. لحسن الحظ فقد ظهر مؤخراً قادة شباب جدد بعقول متنورة. وعليهم تعلَّق الآمال لتصحيح الأمور وفتح آفاق المستقبل. أياً يكن من أمر فإن الرهان الأكبر لهذه المعركة الجارية حالياً هو بكل بساطة: الشبيبة الإسلامية. فمن يكسبها إلى صفه يربح المعركة الدائرة رحاها الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه. وسوف يكسبها من يدعو إلى طريق الهدى والرشاد والتقدم والحداثة المتكاملة التي تعرف كيف توفّق بين الإيمان والعقل أو بين الدين والفلسفة. فهذا هو طريق المستقبل ولا طريق غيره. ومعلوم أن حضارتنا إبان العصر الذهبي كانت قائمة على ركيزتين أساسيتين: الدين والفلسفة. وقد ظلت تشع على العالم حتى انهارت الركيزة الثانية وكفّرناها (عنيتُ الفلسفة)، وبدءاً من تلك اللحظة حل عصر الانحطاط محل العصر الذهبي. والسؤال المطروح الآن هو التالي: مَن سيربح عقول الشبيبة العربية: إسلام الأنوار أم إسلام الإخوان؟ هذا هو السؤال الأساسي، والباقي تفاصيل. ولكن سليمان بشير ديان يرى أن المسلمين المتنورين يمكن أن يربحوا المعركة على قلة عددهم لأن التيار الظلامي المتطرف يعاني من نواقص فكرية ضخمة وصارخة على الرغم من سيطرته على الشارع. ثم يقول داعماً كلامه: في مصر هجم الإخوان المسلمون على الجامع الأزهر فصدهم ولم يستطيعوا احتلاله على الرغم من أن السلطة كانت في أيديهم. ويمكن أن نضيف: هناك دول عربية تمشي على طريق النهضة والإسلام العقلاني المستنير كدولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والمغرب وتونس والأردن على وجه الخصوص. وأخيراً يرى الفيلسوف السنغالي أنه منذ بداية الإسلام كانت روح الانغلاق قد دخلت في معركة مع روح الانفتاح. وكان الرهان الأساسي هو التالي: تحقيق المصالحة بين الإيمان/‏‏ والعقل، أو بين الدين/‏‏ والفلسفة. والسؤال الأساسي الذي كان مطروحاً على أسلافنا هو التالي: هل يحق لنا إدخال الفلسفة الإغريقية إلى العالم الإسلامي أم لا؟ منذ ذلك الوقت اندلعت المعركة الكبرى بين قوى النهضة الحيوية/‏‏ وقوى التكرار والاجترار. وبالتالي فنحن نخوض معركة مستمرة منذ أكثر من ألف سنة. إنها معركة المعارك، أم المعارك. ومن يربحها في نهاية المطاف حلالٌ عليه!. النار وصلت إلى باب الدار المشكلة هي أن التيار الإخواني، وكذلك التيار الحَرْفي السلفي سيطرا على الساحة طيلة العقود الماضية. وهو تيار يكره التصوف الإسلامي كرهاً شديداً، بل ويكفره صراحة، ولهذا السبب، فقد أعلن الحرب على التصوف والمتصوفين. كما أعلن الحرب على الفلسفة أيضا، لأنها في رأيه مجرد زندقة تبعد عن الدين. ولكن نلاحظ أن الذين دعموا هذا التيار التكفيري الانغلاقي على مدار عقود متطاولة أصبحوا الآن يعضون أصابعهم ندماً، على ما فعلوه لأن النار وصلت إلى باب الدار. فقد تمخض عن تلك العقود من التعليم الإرهابي للدين وحش كاسر يعجز العالم كله عن السيطرة عليه حالياً. لحسن الحظ فقد ظهر مؤخراً قادة شباب جدد بعقول متنورة، وعليهم تعلق الآمال لتصحيح الأمور وفتح آفاق المستقبل. سليمان بشير ديان
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©