السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غزو بصري للتاريخ والجغرافيا

غزو بصري للتاريخ والجغرافيا
7 فبراير 2006

يوسف عبد العزيز
كتاب 'لقطات مغايرة (1850 ـ '1948 الذي صدر مؤخراً للباحث الفلسطيني عصام نصّار جاء ليرصد جانباً مهماً من جوانب التراث الفلسطيني وهو الجانب المتعلق بالتصوير الفوتوغرافي المبكّر خلال فلسطين في الأعوام المائة التي سبقت النكبة· ويستمد الكتاب أهميته كونه المحاولة الأولى التي تتم على هذا الصعيد إذ لأول مرة نلمح جهداً بهذا الحجم على مستوى التوثيق والدراسة للتصوير الفوتوغرافي في المجتمع الفلسطيني· لقد أصبحت الصورة بمثابة وثيقة تاريخية نستطيع من خلالها اكتشاف الماضي· فبالإضافة إلى الاعتبارات الجمالية التي تقف وراء التصوير فثمة اعتبارات معرفية تتعلق بالمكان والزمان وبالتالي بالصيرورة الاجتماعية السياسية السائدة· لقد أتاحت الصور التي حشدها الباحث في هذا الكتاب نبعاً غزيراً من المعلومات التي تتصل بطبيعة الحياة الغنية والمتعددة للشعب الفلسطيني وذلك قبل أن يتشكل الكيان الصهيوني بأعوام كثيرة· وبالتالي فإن ظهور هذه الصور من جديد هو بمثابة ردّ حاسم على محاولات الطمس التي تتعرض لها الهوية الفلسطينية والوجود العربي على أرض فلسطين التاريخية·
اهتمامات توراتية
لم يكد يتم اختراع التصوير الفوتوغرافي عام 1839 حتى بادرت وفود المصورين الأوروبيين والأميركيين إلى اجتياح الوطن العربي· من هذه الوفود من ذهب إلى المغرب العربي ومنها من ذهب إلى الشرق (مصر وفلسطين) على وجه التحديد· أمّا عمل هؤلاء المصورين فقد ارتبط منذ البداية بظاهرة الاستشراق الأوروبية· وهي تلك الظاهرة التي مهدت الطريق للاستعمار الأوروبي الحديث للوطن العربي· فقد أرادوا إكمال الدور الذي يقوم به الباحثون الأثريون الذين انهمكوا في اكتشاف ودراسة المواقع التاريخية والدينية· سنوات وتحوّل الشرق 'إلى صنعة لدى أوروبيي القرن التاسع عشر' كما يقول الكاتب إدوارد سعيد· لقد أصبح هذا الشرق الشغل الشاغل لجماعات المستشرقين التي باتت تجد فيه الأجواء الأكثر إثارة على صعيد الجنس والسحر، وهي تلك الأجواء التي كان قد أججها في عقول الأوربيين كتاب ألف ليلة وليلة ذائع الصيت·
أول المصورين الذين جاءوا إلى فلسطين والتقطوا أول صورة فوتوغرافية لمدينة القدس في التاريخ كان المصوّر الفرنسي (فريدريك غوبيل ـ فيسكيه) عام ·1839 تبع هذا المصوّر وصول أعداد كبيرة من المصورين الغربيّين· منهم من أرسلتهم مؤسسات حكومية مثل الفرنسيَّين: (مكسيم دوكامب)، و(أوغست سالزمان) عام ·1849 ومنهم من تمّ إرسالهم من جانب المنظمات العلمية والأثرية مثل الفرنسي (لويس دي كليرك) الذي رافق بعثةً يقودها (إيمانويل غيليوم راي)، حيث أنجز معه سلسلةً من الألبومات بعنوان 'رحلة إلى الشرق' عام ·1859 الجمعيات الدينية والتبشيرية كان لها دور بارز هي الأخرى في تصوير عدد كبير من المواقع الفلسطينية مثل كنيستي القيامة والمهد، وادي الملوك، جبل الزيتون، جبل قرنطل ونهر الأردن· على رأس هؤلاء الذين أرسلتهم تلك الجمعيات كان المبشّر البريطاني المعروف (جيمس غراهام) الذي شغل منصب سكرتير (جمعية لندن لنشر المسيحية في أوساط اليهود)·
مئات المصوّرين انتشروا في أنحاء الوطن الفلسطيني وراحوا يصوّرون كل شيء· كان الهدف الرئيس الذي يجمعهم يتمثّل في ترويج الرواية التوراتية وترسيخها في العقلية الغربية· لقد كان عملهم بمثابة غزو بصري للتاريخ والجغرافيا الفلسطينيين· أحد هؤلاء المصوّرين وهو الأميركي (دوايت المندورف) ذهب إلى نقطة عميقة في العداء للعرب والمسلمين حين اعتبر مهمته إكمالاً للحروب الصليبية التي شنّها الأوروبيون على الشرق· ولذلك فقد جمع صوره في فلسطين عام 1901 في كتاب بعنوان 'حرب صليبية بالكاميرا على البلاد المقدّسة'·
تلفيق الأكذوبة
لم يكن وعد بلفور الذي صدر عام 1917 إلا تتويجاً لسلسلة طويلة من الدسائس التي قام بها الغرب من أجل تلفيق الأكذوبة الصهيونية· كانت تلك الأكذوبة تقول: إن فلسطين ما هي إلا أرض بلا شعب وبالتالي فلا بد لليهود الذين هم شعب بلا أرض من العودة إليها·
المصوّرون الأوروبيون بدورهم كانوا مشاركين أساسيين في تلفيق الأكذوبة وذلك من خلال طمس معالم المكان الفلسطيني وتحويله إلى مكان توراتي بامتياز· لقد عمدوا إلى تسمية الأماكن التي يصوّرونها بالأسماء التوراتية: فمدينة نابلس مثلاً هي (شخيم)، أما المسجد الأقصى فهو (جبل الهيكل)· فوق ذلك فقد التزموا التزاماً شبه كامل بإغفال الأقصى أو قبة الصخرة من كل ما صوّروه، وذلك على الرغم من حضورهما الطاغي في المدينة المقدّسة·
المصوّرون الغربيون أيضاً كانوا يلجأون إلى تصوير المكان الفلسطيني خالياً من السكان، وذلك من أجل الزعم أن (أرض الميعاد) ما زالت على حالها بانتظار القادم اليهودي! أحياناً كانت الصور تحتوي على مجموعات من المواطنين الفلسطينيين· وفي هذه الحالة نجد أنهم عبارة عن معتوهين أو مرضى· كانوا يصوّرون مرضى البَرَص ويدوّنون في كتاب الشرح المصاحب ملاحظاتهم، كالملاحظة التالية عن إحدى الصور: 'يُلاحَظ أنه بوجه عام هناك أربعون إلى خمسين منهم (المقصود مرضى البرص) خارج المدينة·· مثل هذا المرض الذي يتمّ توارثه هو مرض آثم ومميت، يرثه الرجل عن سلالة طويلة من الأجداد الآثمين، ولا يمكن لأي قوة بشرية أن تعالجه'·
المصوّر الأميركي (إدوارد ويلسون) الذي صوّر فلسطين في ثمانينيات القرن التاسع عشر أزعجته فكرة وجود أي علاقة بين السكان الفلسطينيين وبحيرة طبريا التي يقوم بتصويرها مما جعله يقول بوضوح: 'إن الفلاحين الذين صادفتهم بالقرب من بحيرة طبريا منفّرون، وإن وجودهم لا ينسجم على الإطلاق مع طبيعة الأرض والمنطقة'·
بعض المصوّرين اشتغل على مسرحة مشاهد إنجيلية وتوراتية، فكان يتمّ جمع عناصر المشهد من المواقع الفلسطينية والناس بما يتلاءم مع النص الديني، ومن ثمّ القيام بعمليّة التصوير بما يُرضي تلهّف الجمهور الغربي· البعض الآخر كان مهتماً بتحويل الفلاحين الفلسطينيين إلى أيقونات إنجيلية، فكان يلجأ إلى اختيار الشخص واللباس ومكان التصوير حيث يقوم بأخذ الصورة بالشكل الذي يجعلها تتماهى مع الروح المسيحية·
جملة القول إن التصوير الغربي كان جزءاً مهما من السياق الاستعماري الذي كان يرى في فلسطين الوطن القديم لليهود· أما الشعب الفلسطيني فقد جرى تقديمه على أنه مجرد مجموعة متخلّفة لا علاقة لها بالأرض·· وأمام هذه الحالة فلا بد أن يظهر على مسرح الأحداث من يتقدم لانتزاع هذا الإرث الإلهي ويحميه!!
الفوتوغرافيا الفلسطينية
بعد قليل من قدوم المصوّرين الأوروبيين إلى المنطقة وافتتاحهم استوديوهات ثابتة للتصوير في كل من القدس، القاهرة، بيروت، واسطنبول· بدأت الخطوات الأولى للتصوير الفوتوغرافي الفلسطيني· وإذا كان هذا التصوير في بدايته يشكّل امتداداً للمدرسة الأوروبية وتقليداً لها في الأسلوب فثمة اختلافات أساسية معها وتمايزات سنلمحها في المراحل التالية·
ابتدأ التصوير المحلي في فلسطين على يديّ الفلسطيني الأرمني (غاربيديان) الذي تعلّم مهنة التصوير في أوروبا بين عامي (1863-1865) وعاد إلى القدس ليفتتح محترفه فيها· من هذا المحترف تخرّج (كريكوريان) الذي أصبح صاحب أول استديو للتصوير في فلسطين عام 1885 في مدينة القدس· تبعه تلميذه خليل رعد الذي افتتح هو الآخر استديو في المدينة نفسها عام ·1890
أسماء كثيرة دخلت بعد ذلك عالم التصوير، منها تومايان مصوّر القصر الملكي الإسباني، وعيسى صوابنجي ومحمد صالح الكيالي في يافا، وحالجيان في حيفا، وفضل سابا وكريمة عبود في الناصرة·
نلاحظ من هذا الاستعراض السريع لأهم الأسماء الفوتوغرافية أن فن التصوير أصبح من الفنون الشائعة في المجتمع الفلسطيني· غير أننا لو دققنا النظر في أعمال القسم الأكبر من هؤلاء المصوّرين فإننا سنجدها حكراً على الطبقة الأرستقراطية في الدرجة الأولى·
شيئاً فشيئاً أصبح هذا الفن يقترب أكثر من نبض الحياة الاجتماعية والسياسية الفلسطينية· قسم من هؤلاء المصوّرين أخذ يصوّر الاحتفالات· قسم آخر أخذ يصوّر التظاهرات والمقاتلين في الزي العسكري، فأحداث الثورة الكبرى بين عامي (1936 ـ 1939)، والقادة العسكريين أمثال (عبد القادر الحسيني) وهكذا فقد اتجه التصوير الفوتوغرافي الفلسطيني إلى الجهة المضادة التي كان يتمترس فيها التصوير الغربي، وأعاد للمكان بهاءه الأول من خلال ربط هذا المكان بأنفاس الناس وحركتهم الضاجة فيه·
بجانب (باب الخليل) في مدينة القدس وتحديداً في الساحة التي يبدأ منها شارع يافا في القسم الغربي من المدينة نشأ هناك ما يشبه حياً فوتوغرافياً لأهم مصوري فلسطين قبل النكبة· كانت تلك الساحة بمثابة ملتقى للقادمين إلى عاصمة فلسطين والمغادرين منها· بالقرب من الساحة كان هناك فندق (فاست)، ومكاتب (توماس كوك)، وهي إحدى الوكالات السياحية المهمة· كل ذلك جعل من تلك الساحة عيناً فوتوغرافية كبيرة تطل على مدينة الأحلام·
حين نشبت الحرب عام 1948 كان أول شيء فعله الصهاينة هو تدمير هذه الساحة ونهب كنوزها الهائلة من الصور· كانت سرقة فلسطين تحتاج إلى سرقة الصورة أيضاً بكل ما تمثّله من معاني تتصل بروح المكان والإنسان·
استعادة رمزيّة
لقد نجح الكاتب في إماطة اللثام عن مثل هذه الرّوائع المدفونة من الصّور التي ما زالت تحتفظ بروائح التّراب الفلسطيني، وتُؤكّد عروبته على الرّغم من الأضاليل التي حاكتها الأيدي الصهيونية· فبالإضافة إلى أنّها تقدّم لنا معرفةً جديدة بوقائع الحياة الفلسطينية فإنّها تمثّل استعادة رمزيّة للأرض الضائعة التي يجري افتراسها كلّ يوم أمام بصر العالم وسمعه· إنها باختصار تضخّ فينا الأمل·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©