الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسير الألحان

أسير الألحان
24 يناير 2010 21:24
استمعت لفرقة «الثلاثي الكوكباني» اليمنية سنة كاملة، لكنني لم أكن أفهم شيئاً لصغر سني، وهذا لا يهم، فالأغنية عندي هي اللحن، ولو كانت الكلمات بمستوى قصيدة «بوس الواوا» العصماء. وكان خالد الشيخ يرافقني في حلي وترحالي في عقد الثمانينات، فهو في رأيي صاحب أرفع وأجمل الألحان، يكفي أنه اختار «عيناكِ» لنزار قباني، و«زنابق فيروزية» لمحمود درويش، وأدّاهما بصوته العادي ممزوجة بألحانه التي لا أعرف كيف أصفها. وكان خالد الشيخ هو الوحيد الذي يستطيع مواساتي كلما ارتكبتني المصائب، فأصعد فوق سطح منزلنا وأنزوي تحت ظل شجرة كبيرة وأضع سماعات المسجل الصغير على أذني وأسمع وأبكي وأحلّق في عالم الألحان، خصوصاً أغنية «أبيات غزل» التي برأيي هي أفضل أغنية في العالم منذ أيام آدم، ثم أمسح دموعي وأهبط إلى الأرض وأمارس هواية ارتكاب المصائب. ومع اقترابي من تخوم جنون البقر، رحت أضرب رأسي على الجدران تأثراً بألحان أغنية «أبو إسحاق». وبسبب الخشية من تمزّق الشريط الرقيق داخل الكاسيت، لأنني كنت أعيد الأغنية عشرات المرات لأرتوي منها، فقد نسخت الأغنية على شريط منفصل لست مرات، فلا شيء في الشريط سوى المدعو «أبو إسحاق» الذي كنت أتوقع خروجه من المسجل. ولحسن الحظ أن خالد الشيخ سقط من عيني بعد أن وضع «كاب» على صلعته ودخل عالم «الهشّك والبشّك» الخليجي، وساهم هذا في اكتشافي المتأخر لأعظم مطرب عربي على الإطلاق: أبوبكر سالم بالفقيه. وكانت سيارتي الأولى من نوع «جيب بالفقيه شيروكي»، محل تسجيلات متحرك، فكل ألبوماته موجودة في صندوق السيارة وفي صناديق كرتونية موضوعة أسفل المقاعد. فلا صوت يعلو على هذا الصوت الحضرمي القديم، والكلمات غاية في الجمال والبساطة والحكمة التي تتساقط منها ولو كانت يمنية صرفة وغير مفهومة أحياناً، فقد بقيت لسنوات أتخيّل الفتوش وأنا أسمع هذا المقطع الحضرمي: «لفتيش مغطى ولا غطّي على مفتوش»، ثم عرفت المعنى الذي لا علاقة له بالسلطة. والألحان وما أدراك ما الألحان، خذ مثلاً لحن أغنية «رسولي قم» و«ما يهزّك ريح» و«وا ويح نفسي» التي جعلت القشعريرة تسرني في بدني الآن وأنا أتذكرها. وأبوبكر ربما الفنان الوحيد الذي اشتهر بأخذه بأيدي الفنانين الواعدين، كما أنه يفيض بالإنسانية والمشاعر الراقية، وقد رأيته مرة يبكي حين اتصلت به فنانة لبنانية معتزلة وذكّرته بأيامه معهم في لبنان الستينيات. وأنا أحترم أي رجل يبكي وأعتبره آدمياً، ولو كان أثناء تقطيعه البصل. ولأن من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره، فقد استبدلت الابن بالأب، وحفظت عن ظهر قلب الألبوم الأول للفنان أصيل أبوبكر سالم، وحملته معي إلى لبنان أيام الدراسة، وكنت كل يوم أجلس في البالكونة وعود صاحب الشقة المفروشة في حجري، أستمع لأصيل وأداعب الأوتار وأتخيل أنني قاعد في محراب الحب وأمامي حبيبتي التي لم أكن أجرؤ على إخبارها بموضوع العود لأنها كانت ستغلق الهاتف في وجهي. وفي أيام العمل في النيابة العامة، أُحضر فنان خليجي يعد معبود المراهقين والمراهقات، مقيداً بالأغلال بعد أن قبض عليه وهو يحشش. ودفعني الفضول لسماع أغانيه، ووجدتها بلا معنى من حيث الكلمات، لكن ألحانها تجذب الآذان. كانت هذه محطاتي الاستماعية الرئيسية، وبالطبع كانت هناك محطات سريعة كميحد حمد وخالد عبدالرحمن وجورج وسّوف، وكذلك أغاني الميتاليك الأميركية الصاخبة والشمطاء مادونا. وفي واحدة من موجات التديّن قررت القضاء على كرتون الماء الذي يحتوي عشرات المئات من الأشرطة، وفكّرت في أن إلقاءها في الزبالة سيضاعف من آثامي الغنائية، لذلك محوتُ بيانات الأشرطة بواسطة موسى وسجّلت عليها محاضرات دينية ووزعتها على الأهل والأقارب ليقوى إيمانهم الضعيف مقارنة بإيماني القوي الجديد. وبعد انحسار تلك الموجة، رحت أستمع لفنان إيراني يدعى شهرام ناظري يغني قصائد صوفية على وقع آلات موسيقية تقليدية، وألبومات ميشيل جاك جاغي، وهي ألحان خالصة، بالإضافة إلى الاستماع العشوائي لموجات «إف إم» والذوق المضروب للقائمين عليها. أحمد أميري Ahmedamiri74@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©