الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

باريس القرن التاسع عشر: إرهاب الدوافع المُوجّهة

باريس القرن التاسع عشر: إرهاب الدوافع المُوجّهة
14 يناير 2015 21:37
كانت «عندما يضطرب العالم» (1)، رواية عصرنا. جميعاً، نعرف خط الحبكة: تطورات ثورية في التكنولوجيا والعلوم، والصناعة والتعليم، والاتصالات ووسائل النقل، خلقت تحوّلاً في مجتمعنا، ووعدت بغد مشرق، مثلما وعدت بموجات مثيرة من العنف غير المسبوق، يصنعها أولئك الأفراد الذين شُرِّدوا أو استبدلوا من خلال التغيّرات الضخمة، والآن يجري استغلالهم في حملاتها –أي التطورات الثورية – بشأن الإرهاب. مع ذلك كان يمكن لهذه الرواية أن تكون مرئية من قِبَل الباريسيين قبل أكثر من قرن مضى. باريس عند نهاية القرن التاسع عشر، لم تكن بأقل مما كانت عليه في بداية قرننا هذا، كانت تطلق النار عبر وعود عظيمة وربما عبر ترويع أعظم. بالنسبة لمعاصريها، بدت فرنسا نهاية القرن تترنح نحو نهايةِ أزمنةٍ سارعت باتجاهها عبر موجة من الإرهاب عجّلت في حدوث الإرهاب في عصرنا، بطريقة ما. أشار عام 1849 إلى حصاد استثنائي، إلى واحدة من أكثر الإيديولوجيات إثارةً للانتباه، تلك التي تركت جذراً لها في التربة الفرنسية: الفوضوية. إذ بخلاف الإيديولوجيات الأخرى التي انبعثت من الثورة الفرنسية، وقد تراوحت من الشيوعيين إلى المحافظين، لم تَسْعَ الفوضوية إلى السيطرة على الدولة. عِوَضا عن ذلك، استهدفت إلغاء تلك الايديولوجيات. وعندما جاءت الثورة التالية، أعلنت عن جان غريف، الفوضوي الحقيقي الذي - بدلاً من خلق حكومة جديدة- أراد أن يطلق النار على كل مَنْ يحاول ذلك. أخفى الفوضويون هذا الأمر في حين كان الرجل طيباً بالفطرة، والدولة القمعيةً لا محالة، كانت فيما مضى قد أفرجت عن حكّامٍ –Archon بالإغريقية- من رجال ونساء أرادوا الربط بتوازن وهارموني بين المنظمات الاجتماعية والأخرى الاقتصادية. هذا الاعتقاد (2) بعالم مزدهر دون قوانين أو أرباب عمل وجد جمهورا متحفزا في بيلي إيبوك (3) باريس. لقد تعايشت، معا وبصعوبة، عوالمُ مَنْح الامتيازات والجوع، والروعة والبؤس. فتناقضت الثروة الجديدة للنصف الغربي من المدينة، وهي ثمرة التقدم الصناعي والتجاري. .تناقضت على نحو صارخ مع حالة من الحرمان التي تنذر بكارثة لدى الجيران في الأحياء الشرقية المسكونة من قِبَل العمال والمهاجرين. خلال هذه العقود، تعمّق التفاوت في توزيع الثروة بين الذين يملكون ومَنْ لا يملكون على نحو دراماتيكي، كما هي حال التفاوت بين المُثُل الجمهورية للأمة وواقعها. في مدينة المليونين، حيث أكثر من مائتي ألف باريسي عاطلون عن العمل، فيما يعمل الآخرون لثماني عشرة ساعة يوميا بأجور زهيدة، كان باريسيون آخرون يترددون، في الوقت نفسه، على المسارح ودور الأوبرا والمطاعم الفخمة، حيث تدور النميمة عن ذلك المد المتنامي من الفضائح السياسية والمالية. مثلما أكّد ذلك المؤرخ جون مريمان في ملاحظاته حول «نادي الديناميت»، في وصفه الفوضوية الفرنسية، فلم يكن البيلي إيبوك «ذهبيا بالنسبة لمعظم رجال ونساء فرنسا، بل كان سببا وجيها للتفاؤل ومصدرا لقَلقٍ عظيمٍ تجاه المستقبل». ما العمل؟ كانت الإجابة بالنسبة لمعظم الرجال الشبان الذين حازوا شيئا من التعليم والفرص القليلة والأمل الضئيل تكمن في عقيدة الفوضوية، لقد ذهب الكثير من بينهم إلى ما هو أبعد مما أُطلق عليه: «الدعاية بالكلمة»، فازدهرت العشرات من الصحف والنشرات بكفاح مثقفين نددوا بتلك التفاوتات الصارخة التي ملأت عصرهم، معلنين عن أمجاد عصر مقبل. الكثير من الفنانين، مثل فناني المدرسة الوحشية (4) أيضاً وجّهوا هذا الولاء نحو التفجّر المقبل. وعندما وصف ناقد ضربة فرشاة الرسام أندريه ديرين بأنها «مغموسة بالديناميت» فهمها القرّاء على أنها أكثر من مجرد استعارة. في الواقع، وبين عامي 1892 حتى 1894، كانت باريس قد اهتزت من جرّاء فعالية الفوضويين، الذين سخطوا على «الدعاية بالكلمة» وأيّدوا بقوة «الدعاية بالقوة». فانفجرت خلال تلك السنتين إحدى عشرة قنبلة في باريس، أُلقيت على مؤسسات وأفراد من الذين اعتقد الفوضويون أنهم يقفون بين القمع والحرية. طالت التفجيرات مطاعم أنيقة ومكاتب محاماة وثكنات عسكرية والمجلس النيابي، هكذا أصبح كل عنصر من عناصر المجتمع المدني والسياسي هدفا للفوضويين. وعلى الرغم من مقتل أقلّ من اثني عشر شخصا في هذه الهجمات الإرهابية، إلا أن الخوف كان قد اجتاح البرجوازية الباريسية، إحساس بعدم الأمن كان متوقعا تزايده من قبل الصحافة الشعبية، لا يقلّ توقعا عن اغتيال الرئيس الفرنسي سادي كارنوت من قبل مهاجر إيطالي أثناء زيارة إلى لْيون، هاتفا: «تحيا الفوضى!» عندما التمعت سكّينه. ففرضت الحكومة سلسلة من القوانين سيئة الصيت التي حدّتْ من الحريات المدنية والقانونية. أيضا، يبدو هذا الفعل الأكثر دراماتيكية للإرهاب موجة باهتة الدم قياسا بالإرهاب في الشرق الأوسط الذي لا يستهدف شخصيات سياسية أو قضائية بل المارّة الأبرياء بدلاً منهم. في الثاني عشر من فبراير من عام 1894، دخل المثقف الشاب والفقير إيميل هنري إلى مقهى تيرمينوس، وهو مقهى شعبي في محطة «غار سانت لا زار»، وكان ممتلئاً بالعمال من ذوي الياقات البيضاء، أولئك المهنيين المتواضعين من قبيل أصحاب المحال التجارية والباعة، محددا إياهم بوصفهم أهدافا تقليدية للإرهاب الفوضوي. أشعل هنري سيجاره الذي هو فتيل قنبلة يدوية الصنع امتلأت بالرصاص والمتفجرات وقذف بها نحو الغرفة الرئيسية للمقهى. الانفجار الذي حطّم المرايا والثريات، قتل أحد المارّة وجرح عشرين آخرين. هذه الحادثة، بالنسبة للمؤرخ ميريمان، توضح الدلالة الخاصة بحقيقة التفجير: «ما الذي يجعل هجوم هنري أصلاً للإرهاب الحديث؟»، أخبرني في إيميل متبادَل: «كانت الحقيقة أنه لم يمضِ وراء شخص محدَّد بوصفه الدولة، بل ذهب نحو برجوازية عادية تمتلك ثمن البيرة».على نحو معبّر بقوة، لم يكن الموت ولا الإصابات لترسم تعبيرات ندم لدى هنري، بل على العكس من ذلك، أُلقي القبض عليه وحوكم ثم أُعدم. لقد أعلن هنري عن أنه ما من أبرياء. إنهم «ينتمون إلى برجوازية صغيرة براتب ثابت في جيوبهم»، شجب هنري، «ذنبهم ليس بأقل من ذنب الجنرالات والرؤساء». أو، من المغري هنا القول، لم يكونوا أقل ذنبا من عمال الإغاثة الأجانب والصحفيين، بالإضافة إلى السكان المحليين، الذين لا يتشاركون التأويلَ نفسه للإسلام، وقد باتوا مؤخراً في عينيّْ امتيازات «داعش» في سوريا والعراق والجزائر. وبالطبع فإن هناك اختلافات جذرية بين تطرّف الفوضويين الفرنسيين قبل قرن والمتطرفين الإسلاميين اليوم: ففي حين يسعى الأول إلى إلغاء الدولة، يسعى الآخر إلى دولة دينية. وفي حين يحتقر الأول الدين، يتكبر الثاني عليه (فيما هم جميعا يسخرون من تعاليمه). وفي حين يسعى الأول إلى تحرير الهامشيين والمحرومين، يريد الثاني دحر الحريات الحديثة وإخضاعها للشريعة، وهذا الأخير نوع مختلف وأكثر ترويعاً من الطغيان. تلك المتوازيات، الواقعية منها والمستعصية، موجودة برغم ذلك. مثل «داعش»، كان للإرهاب الفوضوي ذرائع عولمية: قضى الرئيس وليام ماكينلي (5) برصاصِ فوضويٍ العام 1901، وقد كان واحدا من بين العديد من القادة السياسيين الغربيين عند منعطف القرن الذين أُخذت حيواتهم، أو تقريباً كذلك، بيد الفوضويين. فقط كالرسامين الفوضويين الذين برعوا في تقديم قضيتهم، امتلكت «داعش» علامتها التجارية الخاصة بها، دعائيا، عن طريق الكلمة والصورة، والانتقال بسرعة من أشرطة فيديو تتضمن قطع رؤوس إلى أشرطة تبث دروسا مضادةً للغرب قدّم بعضها الأسرى. كلاهما آنذاك والآن، شبّان عاطلون عن العمل وبلا هدف جرى نفيهم إلى هامش المجتمع ثم انقلبوا ضد قِيَمه بعاطفة قاتلة. كلاهما آنذاك والآن، يقوم السياسيون ووسائل الإعلام الأكثر شعبية بأفضل ما لديهم: إخافة الجمهور، بأكثر مما هي عليه. كلاهما آنذاك والآن، تقوم الحكومات بدحر الحقوق القانونية والإنسانية في أثناء دحرها الإرهابيين. هدأت موجة الإرهاب الفوضوي في باريس بعد عام 1894. ليس لأن فرنسا خرجت من الركود العميق فحسب، بل أيضاً لأن المجتمع المدني أثبت أنه أكثر مرونة وأكثر جدوى من الرؤية التي تقدّم بها الفوضويون. وهذا ما قد تُثْبتُه القضية مرة أخرى: شهدت الأسابيع القليلة الماضية صدور عدد من البيانات المفتوحة والرسائل المكتوبة والموقعة من قبل رجال الدين المسلمين والمثقفين في فرنسا وقد نددوا بصوت عال بأعمال «داعش». *روبرت زارتسكي: مؤرخ وأستاذ جامعي متخصص في التاريخ الفرنسي الحديث، ومحرر التاريخ في «لوس أنجيليس ريفيو أف بوكس». ..........................................نُشرت هذه المقالة في الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي، كأنما يحلل فيها صاحبها، على نحو مقصود، الهجمات الإرهابية على مقر صحيفة شارلي إيبدو، الأسبوعية الباريسية، التي عاشتها فرنسا مؤخراً وسط ذهول عالمي. مقالة عن ما يجمع الإرهاب باختلاف زمانه ومكانه وعن الفوارق في منابته الثقافية والاجتماعية، وكذلك ردود الفعل عليه. من الحوادث التي شهدتها باريس في القرن التاسع عشر على أيدي الفوضويين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©