السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في سوء طالع الليبرالية العربية رؤية

في سوء طالع الليبرالية العربية رؤية
15 يناير 2015 21:30
لليبرالية سوء حظ كبير في العالم العربي وفي الفكر العربي، لسوء الطالع هذا أسباب متداخلة عدة من بينها ارتباط الليبرالية بالغرب والاستعمار والرأسمالية وكذا التسويد السلبي الذي مارسته الماركسية لما يفوق القرن من الزمان. لكنّ هناك عامل خفي ودفين في هذا التلقي السلبي للفكرة الليبرالية في السوق الثقافية والسياسية العربي. هو الارتباط العضوي والحميمي بين المذهب الليبرالي في مختلف صيغه «السياسية والاقتصادية والثقافية» وفكرة الحرية التي هي النواة الفكرية الصلبة لليبرالية. ومنذ مطالع العصور الحديثة الكونية التي بدأت أصداؤها الفكرية تصل إلينا ببطء في العالم العربي والإسلامي، بدأت تتكون لدى النخب الثقافية العربية - التي هي في معظمها نخب أنجبتها الثقافة التقليدية المتوارثة والمتسمة أساساً بحذرها من كل ما هو جديد، باعتباره يتضمن نوعاً من العداء مع الدين بل نوعا من العدوان عليه- صورة سوداء عن الليبرالية ورديفها الحرية. فكرة الحرية التي فهمتها النخب السياسية والثقافية العربية التقليدية السائدة أولاً على أنها نوع من العدوان على العقائد والحرمات الدينية، حيث فهمتها كدعوة للتحرر من الدين ومن وصاية الفقهاء ورجال الدين ومن العلاقة الذكورية السائدة حول المرأة ومن الشعائر الدينية... هذا الحذر الفقهي نجده عند العديد الفقهاء في كل الأقطار العربية متمثلاً في رفض العديد مما كان يسمى آنذاك المستحدثات التقنية (الهاتف - التلغراف - المطبعة - السيارة- القطار- الآلات الموسيقية) لكنه تبلور على وجه الخصوص في الحذر تجاه فكرة الحرية. لقد فهمت النخبة التقليدية السياسية والثقافية الحرية كتحريض على الخروج عن الدين، ودعوة إلى عقوق الأولاد، وخروج المرأة عن الوصاية، والدعوة إلى الإباحية ذلك أن أساس موقف الفقهاء كان هو التشبث بالصورة المتوارثة من الثقافة الدينية وفحص المستجدات الفكرية والتقنية على ضوء مدى تعارضها مع الدين والتقاليد الموروثة. وقد انعكس هذا الحذر تجاه مدلولات الحرية في جل أركان البنية الثقافية والسياسية العربية الحديثة، حيث تكاد الحرية ترادف الفوضى والإباحية. العنصر الثاني الذي ساهم في إبعاد الشقة بين الفكر العربي والليبرالية هو الحرب الفكرية والإيديولوجية الشرسة التي شنتها الماركسية على الليبرالية وبخاصة الماركسية المُسَفْيَتة والماركسية الإعلامية المبتذلة: الليبرالية في هذا المنظور الماركسي العمومي هي مرادف للبورجوازية ولجواز التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الناس كما هي مرادف أساسا للاقتصاد الليبرالي. اجتذبت الماركسية عموماً - والماركسية العربية خصوصاً - المثقفين والفئات الاجتماعية الدنيا بسبب إعلائها من فكرة المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الناس وانتقادها للفكر الليبرالي البورجوازي لأنه يقف عند حد المطالبة بالمساواة الشكلية والصورية والسياسية بين الناس - أي المساواة بين الناس أمام صندوق الانتخابات لا أمام صندوق الخيرات والممتلكات. وكان لهذا الموقف مفعول سحري وجاذبية أخلاقية كبيرة. لكن التجربة التاريخية للحركة الاشتراكية بينت أن مثال المساواة الاقتصادية نفسه لا يمكن أن يسلم من تحوير واستغلال كباقي المثل والقيم العليا التي استثمرتها النخب السياسية المختلفة في كل المجتمعات وعبر التاريخ (المساواة، العدالة، الكرامة، الحرية) وامتصت رحيقها واعتصرت منها سلطا ومغانم فباسم الاشتراكية والمساواة تكونت طبقات مرموقة (Nomenklatura ) كانت تعيش مستوى حياة مختلف عن العموم ناهيك عن غياب الحريات والنزعة الجموعية باسم قدسية الجماهير... بل إن التجربة التاريخية أثبتت أن الاشتراكية والمساواة الاقتصادية بين الناس هي حلم جميل ومبدأ عقلي رفيع، لكنه يتعارض مع الطبيعة البشرية التي هي طبيعة تحكمها الغريزة وحب التملك والأنانية الفردية، والتي هي معطى بيولوجي لا يمكن تغييره، إذ يتعين أولاً تغيير الطبيعة البيولوجية والنفسية للبشر من أجل فرض مبدأ عقلاني كهذا. لعل التمييز في الماركسية بين الماركسية الفكرية والماركسية الإيديولوجية «أو الحزبية، أو العقدية»، أي بين النواة الفكرية الصلبة وقشرتها الإيديولوجية، يمكن أن يسعفنا في تبين موقف آخر مختلف من الليبرالية والبورجوازية. لم يمجد أحد البورجوازية كما مجدها ماركس. ففي بيانه الشهير صفحات نادرة في مديح وتمجيد البورجوازية. فهي في نظره طبقة ثورية لأنها دكت أركان النظام الإقطاعي القديم في أوربا وطورت بنيات سياسية واجتماعية وفكرية جديدة. بل إن ماركس يكاد يقول أن فكر البورجوازية من حيث هو فكر ثورة وحرية هو مسلمة أساسية في الماركسية وكأن المرء لا يمكن أن يكون اشتراكيا إلا إذا مر عبر مصهر الليبرالية وفكرها التجديدي. يسند هذا الرأي مفكر عربي كبير هو الأستاذ عبد الله العروي الذي اعتبر الليبرالية نواة الحداثة وأن من لم يكن ليبراليا لا يمكن أن يكون حداثياً. اليوم بعد أفول الفكرة الاشتراكية وهجرتها وانتقالها جزئياً إلى أفق إيديولوجي وعقدي آخر مختلف اختلافاً فكرياً جذرياً عن الأفق الاشتراكي، وبعد ظهور حاجة تاريخية وفكرية إلى حقن البنية الثقافية العربية ببعض مقولات الحرية الفكرية والعقدية، والتسامح والنسبية والاعتدال في المواقف والأحكام يعود شبح الليبرالية من جديد ليحلق في هذا الفضاء العقدي المتزمت كنسمة حرية وكحقنة فكرية ضرورية في فضاءات التشدد والغلو التي تؤدى مباشرة إلى تغذية العمق السياسي والديني المتطرف المستشري اليوم في المجتمعات العربية والذي يتمدد أخطبوطياً عبر فضاءات عالمية كثيرة. (*) أستاذ الفلسفة، الرباط، المغرب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©