الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأرغفة تكتب القصيدة

الأرغفة تكتب القصيدة
17 مايو 2012
ثيمة واحدة يشير إليها عنوان الكتاب ابتداء، وتتناوبها النصوص في “كتاب الخبز” للشاعر كريم عبدالسلام، الخبز الذي سنعثر عليه جلياً في كل قصائد هذا الديوان .. يحمل لنا رمزيته أحياناً وأرغفته المباشرة الساخنة حيناً آخر، الخبز الذي يفتتح كل هذه القصائد، كل هذه الحياة والناس في القصائد، بكل تضاداته ومرادفاته وبكم هائل من الحكايات التي يستشفها القارئ وهو يصطف في طابور القصائد التي توزع الدهشة مثل رغيف جديد، الخبز كرؤيا يمكن من خلالها أن نعبر إلى مواجع الناس وحكاياتهم وهمومهم وما يعتريهم من مشاعر متباينة ومختلفة، إذ رمزية الخبز في هذا الكتاب يتناولها الشاعر بأكثر من وجه، وعلى جهات عدة، فمع قصيدة “ما قاله رغيف الخبز للشاعر” نقرأ: “وأنت تنظر لي وتغني فترعد السماء الكالحة وتمطر على رأس الطفل الضائع”، هنا يضع الشاعر أولى خطواته التي كانت موفقة كقصيدة تتصدر الكتاب، حيث هذا الرابط الذي يفلسف رؤية الشاعر ومكانه في طابور الخبز في مفهومه الذي يعبر عن شاعرية وإنسانية. وهذا ما سيكتبه في قصيدة “ناس القمر الساخن”، حيث القصيدة عبارة عن لقطات عدة متنوعة من الحياة تشكل في كل لقطة ما يلتقطه الشاعر من مفارقات الخبز مع الحياة ما راقبه كثيراً على الملامح وما دونه الواقع والمخيلة على حد سواء، فها هو الخبز سبب لكل شيء حتى لو لم يكن سبباً بذاته، الزوج يشتهي رغيفاً ساخناً فتدق الزوجة على باب جارتها القريبة، بل باسمه يصنع الديكتاتور لنفسه قبضة حديدية، وبسببه تعلم الصبي ذو السنوات التسع كيف يدافع عن حقه بيديه النحيلتين حتى قبل أن يقرأ في كتاب النصوص: “ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم” كما في نص “ناس القمر الساخن”. هكذا يوظف الشاعر كريم عبدالسلام الخبز كثيمة تفتح للشعر مناخاً خصباً باتجاه الحياة، وتتقاطع مع الشعراء الشيوعيين أحياناً في مضامينهم، لكن لا يفوت كريم عبدالسلام أن يتجاوز الفكرة إلى أفق الشعر فقط، وهو يدفع بكل طاقاته نحو الحياة والإنسان، بل ويثبت لنا كريم ويدهشنا بقدرته على كتابة كل هذه القصائد من ثيمة واحدة يتسلل بها إلى كل ما يمكن، خصوصاً والخبز مشترك يعرفه الجاهل والعالم والغني والفقير والسارق والقاضي والبنت الجميلة والقبيحة، وأيضاً الجائع والشبعان، وقد يتذوق شخصان رغيفاً واحداً، فيقول الأول ما أطيبه ويقول الآخر شيئاً عن سوئه، وقد يكون نهاية قصة كما في هذا المقطع: “الحاج عبدالحميد في الثانية والستين سقط صريعاً تحت الأقدام الجائعة ولم يعد يحتاج إلى الخبز”. هكذا تتعامد الصور وتتوازى الرؤية وتتشكل في قصائد “الخروج إلى الخبز” وهي تشكل الجزء الثاني من الكتاب. بعيدا عن التعقيد سنقرأ كريم عبدالسلام وهو ينجو بقصيدته من تعقيدات البلاغة وزخارف العبارات، بعيداً عن فكرة الشعرية التي تعتني بالصورة الجمالية والخيال الشعري لمجرد أننا بصدد كتابة قصيدة، وذاهباً نحو الكتابة بأدوات السرد الشعري والتي سنلحظ من خلالها الصورة الشعرية الكلية للنص، نقرأ نصاً في غاية الجمال تحت عنوان “العم سيد والنمر”، وأخريات عن الكدح والعدالة ولقمة العيش وثرثرة المتعبين والإقدام الجائعة أسوة بالأفواه الجائعة وطابور يختنق ويتبعثر في سبيل كسرة أو رغيف، وما بين كل هذا، حيث تولد الحكايات من الحب إلى الحرب إلى الذكريات إلى أدق التفاصيل في حياة الخبز، حيث تشخيص الخبز ملمح آخر استخدمه كريم في أكثر من نص يقول: “من أفضل النعم التي يمكن إن تنالها وأنت تضع خبزك الساخن ليبرد قليلاً إلى جوار الخبز الساخن لجارك”، ومن القصيدة نفسها “عندما تهدأ روح الخبز” وغيرها. من جهة أخرى، سنقرأ لدى كريم في كتاب الخبز عدداً من الأدوات التي استخدمها في كتابته للقصيدة. فهو يستخدم أسلوب تكرار كلمة على رأس كل جملة في قصيدة “ناس القمر الساخن”، والتفتيت أحياناً عندما يعبر عن صوت الموسيقى كما في الأسطر التي كتبت تحت بعضها “تا تا تا”، أو عندما يكون ذلك حسب الجملة وتوزيعها على السطور وغيرها من الأدوات الشكلية التي تنجو بقصيدة النثر نحو حيادها العاطفي. قصائد التعب كتاب الخبز قصائد من تعب الانتظار، ثيمة يستخدمها الشاعر بذكاء، لنقرأ كل تلك العوالم التي بسبب الخبز ومن أجل الخبز بحكاياتها وأفراحها وترانيمها، بل وبحكايات الحب التي ولدت في طابور مزدحم بالحروب الصغيرة، الحروب المهمة التي من أجل يد ممدودة لرغيف قادم كادت أن تزهق، بل ورحلت كما في قصيدة “صاحب السيرك”، ومن أجله ترنمت الجدة كما في قصيدة “ترنيمة الجدة”: “إلهي وأنت جاهي لم يعد لدي أسنان للكسرات الناشفة، في الماضي لم يكن يعوقني شيء، ولم أكن أشتكي، لكن الكسرة الناشفة تجرح لثتي، وتمنع عني النوم...”. وترنـم الأخ والأم وآخريـن كمـا في قصـائد أخـرى في الكتـاب، بهـذه اللغـة التـي تخلـو من التكلف من زخم التجميل الشعري يكتب كريم الخبز قصيدة للإنسـان.. للجـوع.. للنضال.. وتفتح أفقها على كل الحيـاة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©