الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قواعد ومعايير.. واختبارات

قواعد ومعايير.. واختبارات
17 مايو 2012
ليس جديداً التذكير بأنّ من المتعذّر على أيّ تصوّر نظري لقصيدة النثر أن يتفادى مناقشة الإشكالية الكبرى الأولى، الكامنة في التسمية ذاتها، أي سعي هذا الشكل في الكتابة الشعرية إلى خلق مقولة ثالثة تتوسط بين، أو أحياناً تتنازع وظائف، المقولتَين الرئيسيتين الراسختين في خطاب التعبير الأدبي: مقولة الشعر، التي تحيل إلى الوزن على اختلاف أنماطه، وبصرف النظر عن قيوده وحرّياته؛ ومقولة النثر، التي تحيل في المنطق البسيط إلى ما لا يُصنّف في عداد الشعر، والذي يُكتب باستخدام لغات غير شعرية إذا جاز التعبير، تعتمد غالباً الإيعاز الملموس والتصريح المباشر والتقرير والتوثيق والسرد، وما إلى هذا من تقنيات القول. هذا هو السبب، الأبرز دون أن يكون الأوحد، في أنّ تسمية قصيدة النثر ليست مستقرّة تماماً، والإجماع عليها خضع على الدوام لأخذ وردّ، واكتنفت صياغاتها الحيرة والارتباك وانعدام الدقة. وحين يبدأ المرء من موسوعة أكاديمية، أو هي ليست من طراز الموسوعات الشعبية المبسطة في أقلّ تقدير، فإنّ تعريف قصيدة النثر ينطلق من الإقرار (ليس دون مسحة تذمّر لا تخفى) بأنّ هذا الشكل الشعري ليس ثورياً ومهجناً فحسب، بل إنّ إشكاليته جمالية وسياسية في آن معاً. وهكذا تذهب “موسوعة برنستون الجديدة للشعر والشعريات”، مباشرة ومنذ الفقرة الأولى في التعريف، إلى سمتَيْن ـ مشكلتَيْن في تسمية قصيدة النثر: 1 ـ اجتماع لفظتين متعارضتين دلالياً Oxymoronic، هما “قصيدة” و”نثر”، و2 ـ قيام الشكل على تناقض بين جنسَين خطابيين. الاتكاء على هذه الحصيلة هو الذي يتيح فتح قصيدة النثر على فضاء عريض من القدرة، في أنها شكل شعري يناسب نطاقاً واسعاً مدهشاً من حاجات الإدراك والتعبير، بدءاً من الوظيفة الثنائية (في المحتوى كما في الشكل) بين النثر والوزن، وانتهاءً بمرونة استخدام التفاصيل اليومية (أو “نثر الحياة اليومية” في التعبير الأكثر شيوعاً)، والسرد، أو حتى الحكاية ذات الحبكة. هذا ليس دون الإقرار بأنّ السمات الكبرى في قصيدة النثر هي تلك التي تضمن الوحدة حتى في الإيجاز Brevity، والنوع الشعري حتى دون تقطيع السطور على غرار الشعر الحرّ Free Verse، وحسن توظيف أنساق التكرار الإيقاعية والتصويرية، والتكثيف المتدرّج، والتراصّ Compactness، وما إلى ذلك. وفي نقلة مفاجئة نحو التقريظ الانطباعي لخصائص هذا الشكل الشعري، يمضي تعريف موسوعة برنستون (الذي كتبته ماري آن كوز Caws، أستاذة الأدب الإنكليزي والفرنسي والمقارن في جامعة نيويورك، وإحدى أبرز المساهمات والمساهمين في التنظير لقصيدة النثر الغربية الحديثة)، إلى القول: “ثمة حقل للرؤيا يتمّ تمثيله هنا، على سبيل المحاكاة أحياناً وبطريقة تصويرية غالباً، لا لشيء إلا لكي يُقطع الحقل بغتة، في مناسبة محددة؛ فتنكمش العاطفة تحت وطأة الحذف المفاجئ، فتنتهي بالغة العمق وشديدة الكثافة؛ وأمّا المزاج الوجداني المشحون (الرابسودي Rhapsodic)، وما يسمّيه شارل بودلير “وخزات اللاوعي” Prickings of the Unconscious، فإنها في النماذج القصوى تمتزج مع العنصرَين الاستعاري والوجودي (الأونطولوجي). ولهذا فإنّ قصيدة النثر تستهدف معرفة، أو العثور على، شيء لا يمكن بلوغه في ظلّ أعراف الوزن الأكثر تقييداً (حسب الفرنسي ميشيل بوجور)؛ وهي غالباً صيغة تجلّي الشكل المكتفي بذاته إرادياً، والمتّسم بالإيجاز قبل أيّ اعتبار آخر. وإنها عند بعض النقاد (هيرمين ريفاتير، مثلاً) تناصّية Intertextual بالضرورة، في أنّ اعتمادها على نثر الحياة اليومية لا يمكن أن يتفادى الكثير من تقاطع الأحاسيس والأطوار والمواقف المشتركة؛ كما أنها عند البعض الآخر (جوناثان مونرو، أساساً) سياسية بالضرورة، تبعاً للجوانب السياسية ـ الاجتماعية التي لا يمكن إغفال مفاعيلها عند تقصّي سيرورات ولادة أيّ شكل أدبي جديد؛ وأخيراً، هي (عند كوز نفسها) ليست بالضرورة “شعرية” بالمعنى التقليدي الشائع، او ربما بأيّ معنى مكرّس للشعرية... وهذه، في الواقع، نقلة متقدّمة تماماً بالقياس إلى تعريف سابق كانت الموسوعة ذاتها قد اعتمدته في طبعات أبكر، يقول إنّ قصيدة النثر “تأليف قادر على امتلاك أي، أو جميع، خصائص القصيدة الغنائية Lyric باستثناء أنه يدوَّن على الصفحة كنثر، دون أن يعتبر نثراً. وقصيدة النثر تختلف عن النثر الشعري في أنها موجزة ومتراصة، وعن الشعر المنثور في أنها لا تنطوي على وقفات في نهايات الأسطر، وعن المقطع النثري الموجز في احتوائها على إيقاع أكثر تصريحاً، وعلى مؤثرات صوتية وتصوير وكثافة في التعبير. ويمكن لها أن تحتوي على قافية داخلية وانسيابات موزونة. وطولها يتراوح غالباً بين نصف صفحة وثلاث أو أربع صفحات. وهو الطول المتوسط للقصيدة الغنائية”. النموذج الفرنسي ولأنّ النموذج الفرنسي من قصيدة النثر الأوروبية كان هو الرائد عملياً، قبل أن ينقلب إلى مثال قياس نقدي تطبيقي ونظري في آن معاً، يميل تعريف موسوعة برنستون إلى تأصيل الشكل حسب الجذور الأولى التالية: ? مجموعة ألوزيوس برنار “غاسبار الليل” Gaspard de la Nuit، 1842، (أو “مرزبان الليل”، حسب اقتراح أدونيس)، رغم أنه كتب قصائد نثر قبلها، صدرت عن مناهضة عميقة لصرامة الفصل بين الأنواع الأدبية في النقد الفرنسي؛ ? ترجمات التوراة، التي اتصفت بجرعة عالية من شَعْرَنة النثر، مترافقة مع القصائد الغنائية الكلاسيكية والشعبية؛ ? النثر، المشعرَن بدوره، عند رومانتيكيين من أمثال الفرنسي شاتوبريان والإنكليزي وردزورث؛ ? المزيج المتبادل من النثر والشعر الموزون عند الفرنسيَين موريس دو غيران الشاعر وسانت بوف الناقد، وكذلك الناقد الألماني لودفيغ تيك؛ ? الدفاع الحارّ عن “مزيج الأنواع” عند فيكتور هوجو، في مقدّمة “كرومويل”؛ والدفاع النظير الذي لا يقلّ حرارة عند الأديب الفرنسي الموسوعي باربي دوريفيلي، أواخر القرن التاسع عشر أيضاً. لكنّ أشهر قصائد النثر الفرنسية تظلّ، بالطبع، مجموعة بودلير “قصائد نثر صغيرة”، أو “سأم باريس” Le Spleen de Paris في التسمية الثانية (ترجمة بشير السباعي، التي صدرت مؤخراً عن دار “آفاق” ودار “الجمل”، هي بين الأفضل)، وكانت كتابتها قد ابتدأت سنة 1855، ولم تُطبع حتى 1869، حيث يقرّ بودلير بأسبقية برتران و”غاسبار الليل” في تأسيس هذا النوع من الكتابة الشعرية. والطريف أنّ كوز، كاتبة تعريف برنستون، ترى التالي في هذه القصائد: “إنها توفّر لنا لفائف وأرابيسكات شعرية مؤنثة، من حول قطب نثري مذكّر منتصب، بوصفه استعارة المزج الأولى المشحونة إيروتيكياً، في حين أنّ القصائد ذاتها حكائية وحميمة، إلى درجة المزج بين الذات والموضوع”! “إستنارات” Illuminations أرتور رامبو، التي بدأ في كتابتها سنة 1872 وحتى أربع سنوات لاحقة (ترجمة كاظم جهاد، الطبعة الثانية لأعمال رامبو صدرت مؤخراً عن دار الجمل، تظلّ الأفضل) تحتفي، على نحو فائق الكثافة، بانبثاق القصيدة من مادّة أقلّ حميمية، وجدّة ديناميكية في تلقائيتها المتعمدة. هنالك، إلى هذا، مجموعة قصائد ستيفان مالارميه “هيام على الوجه” Divagations، التي كُتبت بدءاً من 1864 وطُبعت 1897، باشتغالها الرفيع الشاقّ على تلاوين الاستعارة؛ ومجموعة لوتريامون “أغاني مالدورر” Chants de Maldoror، التي صدر النشيد الأوّل منها سنة 1868 ثمّ طُبعت بعد رحيل الشاعر، حيث أبكر التباشير الشعرية بالسوريالية الآتية. وإذا عُدّ عمل بول كلوديل “معرفة الشرق” Connaissancede l’est، 1900، بمثابة إسهام غير مباشر ربما، في تطوير قصيدة النثر الفرنسية، فإنّ من اللافت أن يكون عمل أندريه جيد “قوت الأرض” Nourritures terrestres، 1897، النثري أساساً وإنْ تخلّله شعر من طراز خاصّ، قد أدّى وظيفة مماثلة. ولا تُطوى صفحات تطوّر قصيدة النثر الفرنسية دون ذكر “ابجدية” Alphabet بول فاليري، 1912، التي كان شكلها بمثابة تجسيد نصّي مبكّر لتنظيرات فاليري اللاحقة حول الوظيفة المزدوجة للخطاب الأدبي: الرواح والمجيء بين عالمين. وكان طبيعياً أن تتولى التيارات الحداثية الفرنسية، في أعقاب المدرستَين الرمزية وما بعد الرمزية، مناقشة إشكاليات قصيدة النثر بوصفها نوعاً مستقلاً في الكتابة الشعرية: “الشعراء التكعيبيون”، كما سارت تسميتهم، من أمثال ماكس جاكوب وبيير ريفردي وبليز سندرار، أعطى كلّ منهم توصيفه الخاصّ ، فشدّد الأوّل على خاصية “الموقف” فيها، والثاني على تذبذبها Irrésolution المتكتم على نحو غريب، والثالث توقف عند ما تولّده من إدراكات متلازمة. كانت تلك رطانة إصطلاحية، ونقدية، ثقيلة للغاية في تلك الأحقاب، عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، تلاقت سريعاً مع التنظيرات السوريالية التي قدّمها أمثال بول إيلوار وأندريه بروتون. وأمّا النتاجات الفرنسية اللاحقة في قصيدة النثر، فقد ظهرت أبرز نماذجها عند أسماء مثل رونيه شار وسان جون بيرس وفرنسيس بونج، ثمّ إيف بونفوا وميشيل ديغي وجاك دوبان. تعريف موسوعة برنستون يغادر فرنسا، دون أن يغادر القارّة العجوز أوروبا: غيسنر في سويسرا، نوفاليس وهولدرلين وستيفان جورج وريلكه وكافكا وإرنست بلوخ في ألمانيا، هوفمانشتال وألتنبرغ وبولغار في النمسا، فيرهايرن في بلجيكا، دي كوينسي وأوسكار وايلد في إنكلترا، تورجنيف وخليبنيكوف وبعض شعراء المدرسة المستقبلية في روسيا، مارينيتي والمجموعة التكعيبية ـ المستقبلية في إيطاليا، بيكوير وخيمنيس وسيرنودا في إسبانيا، وج. ب. ياكوبسون في الدانمرك. وبالطبع، خارج القارّة الاوروبية، يشير التعريف إلى ثلاثة أسماء بارزة كبرى في أمريكا اللاتينية: بورخيس ونيرودا وباث، وفي أمريكا (ما بعد والت ويتمان، بالطبع) هنالك و. س. ميروين وجيمس رايت وروبرت بلاي ورسل إديسون وجون أشبري وجون هولاندر، وبعض “الشعراء الألسنيين” الذين أعقبوا جرترود شتاين، مثل و. ك. وليامز وشارلز برنشتاين. اختبار شعري كيف يكون النثر شعراً، والعكس؟ الشاعرة والتشكيلية الأمريكية المعاصرة سنثيا رايدر، في مقالة تعليمية ولكنها سجالية تماماً بعنوان “هل هناك حقاً شعر نثري؟ وما هي، إذاً، “قواعد كتابته”، تبدأ بتبسيط الإشكالية من خلال طرح الأسئلة التالية: يعرف أهل الشعر سلسلة قواعد عند كتابة قصيدة “هايكو” أو قصيدة “سونيت” أو تصميم تشكيل للقافية، ولكن أيّ قواعد تتوفر لهم إذا شاؤوا كتابة قصيدة نثر؟ وهل تتوفر هذه القواعد أصلاً؟ وهل استقرّت أم هي في حال دائمة من التطوير؟ ومن جانب آخر، هل يجوز لنا محاباة أيّ شاعر يزعم أنّ ما يكتبه هو قصيدة نثر؟ وكيف سنميّز هذا عن ذاك، بل كيف سنميّز قصيدة النثر هذه عن تلك، دون أن نغرق في سذاجة معلَنة؟ لديها إجابة أولى، طريفة ولكنها جادّة، تقوم على تحديد “اختبار” مبدئي لشاعر قصيدة النثر: هل جرّب أشكال كتابة شعرية أخرى، أم بدأ مباشرة من هذا الشكل وحده؟ وهل كانت تجاربه في تلك الأشكال ناجحة أم فاشلة؟ الأمر هنا يتجاوز مسألة المراس والدربة، لأنّ رايدر ـ دون أن تفصح عن هذا، في الواقع ـ تبحث عن مسألة جوهرية تخصّ فلسفة الاستقرار على شكل شعري دون آخر، هذا إذا توفّرت تلك الفلسفة أساساً، من جهة أولى؛ كما تخصّ سيرورة التجربة الشعرية، وهل سارت على نحو مخاضات معمّقة متصلة متكاملة، أم غابت عنها كلّ هذه المشاقّ فاختار الشاعر الحلّ الأسهل، من جانب ثانٍ؟ ولكنها تستدرك، وهي التشكيلية غير التقليدية، بالذهاب إلى مقارنة مع إشكالية المدرسة التجريدية، وكيف أنه لن تتوفّر في أيّ يوم إجابة شافية على قواعد اللوحة التجريدية، خصوصاً إذا ما جرى إخضاع شكل تلك اللوحة ومضمونها إلى مرجعيات سابقة أو عتيقة، مثل المدرسة الواقعية. وعلى النحو ذاته، في الشعر، هل يتوجب على الشاعر أن يعرف الأشكال الشعرية القديمة، ثمّ يكون قادراً على كتابة قصيدة ناجحة في هذه الأشكال، قبل اختيار شكل قصيدة النثر؟ وفي المقابل، هل يمكن للوحة فنّية رسمها فيل رُبطت فرشاة إلى خرطومه، أن تُقارَن على أيّ نحو مع لوحة تجريدية رسمها فنّان متمرّس لديه من المعرفة مثلما لديه من الأحلام والرغائب والآمال؟ وهل ينبغي أن نُصاب، حقاً، بصدمة بالغة إذا سمعنا مَن يقول بأنّ مقارنة كهذه ليست طريفة فحسب، بل مشروعة وضرورية؟ وأخيراً، وليس آخراً، كيف يمكن للنقد الأدبي أن يفلح في التوصّل إلى صياغات نظرية أو تطبيقية تنصف الشاعر والقصيدة، كما تشفي غليل القارىء الباحث عن سراج ينير دربه، المتعرّج الشائك بالضرورة، إلى هذا الطراز الإشكالي من الكتابة الشعرية؟ وهل في وسع أيّ نقد أدبي أن ينوب عن الشاعر في اقتراح “قواعد” من أيّ طراز لقصيدة النثر، إذا كان الشاعر نفسه قد تخلّى عن هذه المهمة المستحيلة؟ صحيح، كما تساجل رايدر، أن مطالبة الشاعر بإتقان القواعد الناجزة قبل خرقها والخروج عنها هي فذلكة صرفة، ولكن... كيف يمكن الدفاع عن قصيدة النثر نقدياً، إذاً، وأمام القارىء أوّلاً وليس الشاعر؟ وتختم رايدر بالقول إنها صارعت طويلاً لكي تقترح تعريفاً لقصيدة النثر، وقلّبت الرأي في الكثير من المعايير والسمات والتجارب والتنويعات، حتى أنها في مرّة أو اثنتين انساقت وراء الخلاصة التي تقول إنّ هذه القصيدة هي فنّ الشعراء الكسالى، لكي تنتهي ببساطة إلى القول: هذا فنّ مشروع، أياً كانت مقادير المراوغة أو الإبهام أو الحيرة التي تكتنف قراءته ودراسته. إنه ليس شبيهاً بنثر الخطاب المألوف، اليوميّ النفعي؛ وثمة سيولة تعبيرية، وأفكار ليست عشوائية التدفق أو الترابط، وصور جميلة، ومعنى وقصد... تعريفات وتحديدات وفي صفحة أخرى على الإنترنيت، خاصة بالشعر المنثور، نعثر على التعريف التالي: “هو الشعر المكتوب بالنثر، أي في شكل هجين يمزج بين الشعر والنثر. القصيدة تتحلى بكلّ العناصر الجوهرية للشعر التقليدي الموزون، من حيث الإيقاع والقافية والتكرار والتناغم الصوتي والسجع والتصوير. والصورة الفنية قد تكون مباغتة إلى درجة أنها قد تبدو ذات طبيعة سوريالية”. وهذا، بالطبع، تعريف قاصر تماماً، ومغلوط إلى حدّ بعيد في مسألة الوزن والقافية والسجع، او حتى في توصيف التصوير السوريالي. لكنّ الغرابة تزداد عندما يستعرض أصحاب التهريف تاريخ الشعر المنثور. صحيح إنه عندهم يبدأ من الكتابات العبرية القديمة، وطبعة الملك جيمس للتوراة، خصوصاً المزامير؛ ولكنهم في الواقع ينتقلون مباشرة إلى ألويزيوس برنار ومجموعته “غاسبار الليل”، ثمّ إلى قصائد بودلير النثرية. ولائحة شعراء قصيدة النثر، التي تعقب التعريف، هي لائحة تعريف برنستون بالحرف تقريباً، وأمّا في النماذج الشعرية فهنالك المزمور 93 (في الترجمة العربية: “الربّ قد مَلَك. لَبِس الجلال. لبس الربّ القدرة. ائتزر بها. أيضاً تثبتت المسكونة. لا تتزعزع. كرسيّك مثبتة منذ القدم. منذ الأزل أنت. رفعتِ الأنهارُ يا ربّ رفعتِ الأنهار صوتها. ترفع الأنهار عجيجها. من أصوات مياه كثيرة من غمار أمواج البحر الربُّ في العلى أقدَرُ. شهاداتك ثابتة جداً. ببيتك تليق القداسة يا ربّ إلى طول الأيام”)؛ وقصيدة بودلير المعروفة “المرفأ”. وفي موقع ثالث، أكثر جدّية من الموقع السالف، نعثر على التعريف التالي لقصيدة النثر هذه المرّة (وليس للشعر المنثور، وفي الأمر دلالة خاصة بالطبع): “نمط من الشعر يتسم بغياب التقطيع إلى سطور. ورغم أنّ قصيدة النثر تشبه مقطعاً نثرياً قصيراً، فإنّ ولاءها للشعر يمكن أن يُرى في استخدام الإيقاعات، والمجاز، والقافية، والقافية الداخلية، والتناغم الصوتي، والصورة”. وبعد أن يتوقف التعريف عند أهمية تقطيع السطور أو غيابه في تعريف هوية شكل النصّ الشعري (وهذه، للإيضاح، إحدى المغالطات الكبرى التي اكتنفت كتابة قصيدة النثر العربية، منذ النماذج الأولى)، فيعود إلى هوميروس و”الإلياذة” و”الأوديسة”، يخلص التعريف إلى نتيجة غريبة بعض الشيء حول طول طول قصيدة النثر: “تتراوح عادة بين نصف صفحة وثلاث أو أربع صفحات، وأمّا القصائد الأطول فهي تُعدّ نثراً تجريبياً أو نثراً شعرياً”! تاريخ قصيدة النثر عند أهل هذا التعريف لا يختلف جوهرياً عن تعريف موسوعة برنستون من حيث جذورها الفرنسية وجغرافية شعرائها (يضيف التعريف إدغار ألن بو، جيمس جويس، آمي لويل، شارلز سيميك، وروزماري ولدروب)؛ وإنْ كان، للغرابة، يحتسب ت. س. إليوت في اللائحة، رغم أنه لم يكتب ـ على الأرجح ـ إلا قصيدة نثر واحدة، هي “هستيريا”. والموقع يقترح كتابَيْن هامين معاصرين حول قصيدة النثر: “طُرُز الكون: أنطولوجيا قصيدة النثر” Models of the Universe: An Anthology of the Prose Poem، تحرير ستوارت فريبرت ودافيد يونغ، ويضمّ مختارات واسعة تبدأ من ألويزيوس برتران ولا تنتهي عند إيتالو كالفينو؛ والكتاب الثاني هو “قصيدة النثر الأمريكية: الشكل الشعري وحدود النوع” The American Prose Poem: Poetic Form and the Boundaries of Genre، تأليف ميشيل ديلفيل، الذي يتوقف عند إنجازات أبرز شعراء هذه القصيدة بالقياس إلى التيارات الشعرية الأخرى المجاورة لها، بعد أن يسرد حكاية الأصول الأوروبية، ويخصّ ـ للغرابة، هنا أيضاً ـ كافكا وجويس إلى جانب بودلير وجاكوب. المشهد العربي في المصطلح العربي يمكن أن نعدّ تسميات “الشعر المنثور”، و”النثر الشعري”، و”النثر المشعور”، و”النثيرة”، و”الخاطرة الشعرية”. ونعثر، أيضاً على تسميات تهكمية ساخرة، أو تخلط الجدّ بالهزل (كما في رأي الناقد المصري الدكتور أحمد درويش، الذي اقترح تسميتها “عصيدة النثر” لأنها تقوم على خلائط شتى)؛ أو تذهب إلى مرجعية تصنيف الأجناس الأدبية (كما في اصطلاح “الكتابة الخنثى” الذي اقترحه الشاعر الفلسطيني عزّ الدين المناصرة). مجدي وهبة، في “معجم مصطلحات الأدب”، يُدرج قصيدة النثر في إطار “الشعر المنثور”، فيعرّفه هكذا: “نمط من الكلام بين الشعر والنثر، يختلف عن النثر بنغمته الموسيقية وجمله المنسقة تنسيقاً شعرياً اخاذاً، كما يختلف عن الشعر بتحلله من الوزن والقافية. وللشعر المنثور اصل قديم في مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري وتوقيعات الخلفاء العباسيين”. ومنذ مطلع القرن الماضي، سنة 1905، اقترح جرجي زيدان تسمية “الشعر المنثور” حين شاء توصيف تجارب أمين الريحاني الشعرية، كذلك اقتُرحت تعريفات مختلفة لقصيدة جبران خليل جبران؛ وكما هو معروف، في خمسينيات القرن الماضي تولت مجلة “شعر”، وعدد من شعرائها، تقديم المزيد من المقترحات في تعريف قصيدة النثر. ولعلّ التعريف الأبكر والأشدّ تعاطفاً مع قصيدة النثر، في صياغاتها الأولى، جاء سنة 1925 من شاعر يكتب القصيدة العمودية، هو معروف الرصافي، الذي كتب، في جريدة “الحرية”، مطلع تموز (يوليو): “الشعر المنثور العاري من الوزن والقافية هو شعر بالمعنى الأعمّ للكلمة. أي هو شعر بمعانيه التي تفعل في النفس بما يفعله الإنشاد المقترن بالنغم والإيقاع، وحبذا لو سُمّي الشعر المنثور بالشعر الصامت لعدم اقترانه بالغناء والرقص”. بيد أنّ الإشكالية ظلّت قائمة، بل أخذت تزداد تفاقماً مع أزدياد تجار قصيدة النثر العربية، مقابل الانحسار النسبي في شيوع الأشكال الشعرية الأخرى، مثل العمود وقصيدة التفعيلة؛ وليس هذا بسبب عجز الشاعر العربي عن كتابة قصيدة جديرة بالحياة والخلود، بل بسبب انهيار التعاقد بين الشاعر والقارىء حول تعريف القصيدة، وربما الشعر بأسره،، ضمن أسئلة من النوع التالي مثلاً: ـ ما الذي تعنيه مفردة “القصيدة”، في الحساب الأخير؟ وكيف نقنع القارئ بأنّ ما يقرأه ليس نثراً بل هو “الشعر” وحده، لا لشيء سوى أنّ الشاعر يقول عن كتابته إنها الشعر وحده؟ مشكلات عربية لكنّ قسطاً كبيراً من نماذج قصيدة النثر العربية المعاصرة هو كتابة شعرية جيدة، وبعض تلك النماذج كتابة ممتازة يحقّ لنا أن نباهي بها الأمم. والثقافة العربية تأتي في طليعة الثقافات الإنسانية المعاصرة التي تنتج قصيدة النثر بدأب وانتظام وحماس و... بهذا القدر أو ذاك من “الكفاحية” أيضاً. أين المشكلة، إذاً؟ إنها، أوّلاً، حقيقة أنّ عالم الإيصال والتلقي والأشكال يتغيّر بسرعة، وقصيدة النثر العربية المعاصرة لا تتغيّر إلا ببطء... إذا تغيّرت أصلاً! ومع رجاء أن لا يُصاب الكثيرون بمفاجأة محبطة، يهمّ كاتب هذه السطور تسجيل قناعته بأنّ شكل قصيدة النثر العربية لا يبدو اليوم محافظاً فحسب، بل هو آخذ في التخلّف حتى عن مكتسبات عصور التجديد التي يقتدي بها ويحالفها ويستلهمها، شرقاً وغرباً. الصورة الشعرية (الفاتنة والخاطفة والبديعة والتركيبية والتشكيلية...) التي باتت تنهض عليها معظم كيمياء قصيدة النثر، لن تكون قادرة طويلاً على مواجهة المنافسة الشرسة مع “الصورة” الأخرى (الفاتنة والخاطفة و...) التي تقدّمها مختلف أنواع الشاشات البصرية. واللغة الشعرية الخاصة، التي تظلّ امتياز الشعر عن النثر، هبطت من علٍ بقرار إرادي من الشاعر نفسه، الحريص على “الهامشي” و”المجّاني” و”اليومي”، ولكنها فشلت في أن تمسّ شغاف قارئ يعيش هذه اللغة كلّ يوم... لأنها ببساطة لغته الهامشية والمجّانية واليومية! معادلة الشعر ليست هكذا، بالضرورة ودائماً. والذين يكتبون قصيدة نثر عربية ممتازة هم وحدهم الذين يدركون آلام تركيب اللغة الشعرية الحقّة. وليس قانوناً مقدّساً، والحال هذه، أن تكون تلك اللغة هامشية ومجّانية ويومية. المشكلة الثانية هي أنّ قصيدة النثر “ديمقراطية” بطبيعة موضوعاتها وشكلها، حليفة الحياة أكثر من الموات. لكنّ الثقافة العربية المعاصرة تعيش في كنف الاستبداد والقمع والشمولية، والحياة العربية المعاصرة لا تعيش إلا في سياق الصراع ضد الموات المنظّم الذي تديره أنظمة الاستبداد. مفهوم، تالياً، أن تغترب قصيدة النثر عن عصرها وناسها (كما تفعل إجمالاً)؛ وحريّ بها أن تتعاقد مع عصرها وناسها (كما تفعل نادراً)، دون أنّ تخسر زخم التبشير بالديمقراطية والانشقاق والتجدّد والتقاط هموم الإنسان الصغير، ولكن دون أن تنصّب الشاعر أرستقراطياً أوحد بالتزكية الجمالية! المشكلة الثالثة هي العجز عن توطيد “علم اجتماع” للشكل الشعري، والتنازل عن إدارة منطق تعبيري واضح المعالم بين الأشكال المتواجدة في آن معاً أمام القارىء وفي ساحة القراءة. الأمر، في عبارة أخرى، يتصل بعزوف قصيدة النثر العربية المعاصرة عن مواجهة جدل ولادتها، وإشكالية شكلها، ومصائر قراءاتها: إنها تستخدم النثر، ولا تعترف بكامل الطاقات الهائلة في هذا الوسيط النبيل اليومي والإنساني والقاعدي؛ وتطالب بالحرية القصوى، وهي تصمّ الآذان والأدوات التعبيرية عن حركة القيود الحريرية المتينة التي يرتّبها النثر في انقلاباته الشعرية؛ وتهاجم الطبول والصنوج في الوزن، لكي تتمترس خلف خرافة “الإيقاع الداخلي” كمن يهرب الى الأمام نحو “وزن ما”، ويجحف بحقوق المخزون الإيقاعي والموسيقي الثري في النثر بوصفه نثراً؛ وتراهن على زمن ميتافيزيقي يختزن قارئاً قياسياً مصنّعاً وقراءة “راقية” وهمية، متناسية أن الزمن إنساني، وأنه زمن القارىء الذي لا يمكن أن يظلً فأر تجارب إبداعية، ولكنه لا يمكن إلا أن يكون حاضنة صالحة لاستقبال توتّر القديم والجديد، السكون والحركة، والتنويعات داخل الحركة الواحدة قبل ذلك كله وبسببه. المشكلة الرابعة هي أنّ معظم النقد الشعري العربي المعاصر لا يتهرّب من مجابهة استحقاقات قصيدة النثر فحسب، بل يميل إلى تكريس ما يشبه “الأمّية النظرية” حول الشكل، في غمرة الغرق حتى الأذنين في “أمّية تحليلية” عند دراسة نماذجها. والنقد مطالَب بدراسة شعريات النثر بوصفه نثراً من سلالة النثر، والنثر وحده، الأمر الذي سيفضي الى برهنة ضرورية على ثراء الأبنية النثرية إذا قُدّر لها شاعر حقّ يخرجها الى العلن وينصف شعريتها (وليس شاعريتها فقط)، ويفجّر مكامنها الموسيقية حين يواصل اقتراح أنظمة وعمارات إيقاعية تذهب الى النوع ومنه، وتجتهد لكي لا تكرّر وتتكرر، ولكي تستحق ما تعلنه من امتلاك الحرية. المشكلة الأخيرة هي ميل العديد من شعراء قصيدة النثر إلى تعليق الأزمة على مشجب واحد وحيد هو غياب النقد الشعري، وكأنّ هذا النشاط الأخير هو المطهر المكلّف بغسل أدران القارىء قبل قبوله في فردوس الشعر الطاهر. مضحكة تماماً، ولا نقول مثيرة للشفقة، تلك الأصوات التي تندب حظّ “الشعر الجديد” مع هذا “النقد الغائب”، وكأنّ حظّ الشعر الآخر كان أفضل مع النقد، أو كأنّ الشعراء الآخرين لم يدخلوا مدينة الشعر إلا ومظلّة النقد مرفوعة فوق رؤوسهم! غنيّ عن القول إنّ البحث عن تعريف شبه مانع، شبه جامع، لقصيدة النثر غير متاح في الشرط الراهن لشكل هذه القصيدة، لكي لا نقول إنه غير ممكن في المدى المنظور. وباستثناء الأغراض الأكاديمية الصرفة، وبعض نزوعات التقعيد والنمذجة، أيّ جدوى من استخلاص أيّ تعريفات تخصّ الإبداع الإنساني، في مختلف أنواعه وأجناسه، ثمّ استطراداً في مختلف الأشكال والأساليب والمدارس في كلّ نوع إبداعي على حدة، ما دامت حياة ذلك الإبداع مرهونة بشروط أخرى أشدّ تعقيداً من مجرّد اعتصار تعريف هنا أو هناك؟ وما دام معيار الإبداع الأوّل، والأكبر، هو ذلك التعاقد الشاقّ والخلاق بين المبدع المرسِل، الذي يسعى أبداً إلى التحرّر والتطوّر والتغيّر؛، وبين ذائقة مستقبِلة، لا تقلّ عناداً وتطلباً واشتراطاً، ولكنها ليست البتة منغلقة أمام الجديد والتجديد؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©