السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحلاوة والسكر

الحلاوة والسكر
14 يناير 2015 21:36
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وصف تزفتان تودوروف، وهو أحد منظري الموجة البنيوية الأولى في فرنسا، النص بأنه «نزهة، كلماته من المؤلف أما معانيه فمن القارئ». وهو تصريح غريب حقا. فلم يكن هذا الباحث ميالا إلى التفكيكية، ولم يُعرف عنه تعاطفه مع مقترحات جماليات التلقي، ولم يلتفت إلى أطروحات الهرموسيات المختلفة التي ظلت تبحث في النصوص عن معنى أصلي هو سدرة المنتهى والغاية من كل إبداع؛ ومع ذلك، فإن توصيفه هذا يعبر عن حرج كبير كان قد بدأ، في تلك المرحلة، يتسلل إلى نفوس الكثيرين من الذين اعتقدوا جازمين «ألا خلاص للمحلل خارج النص»، فوحده تفكيك بنية مستقلة ومكتفية بذاتها يمكن أن يقود إلى «وضع اليد» على ما تم تسريبه من معان إلى مركز قصي يحتاج إلى تحديد. لا بد من السياق إن منطوق الجملة السابقة ومضمرها يقولان عكس ذلك، فالنص فيها عارض، ووحدها السياقات التي تخلقها الكلمات في وجدان القارئ قادرة على منحه معنى وحجما وامتدادا في الموسوعة التي بها يحيا ومن خلالها ينتج دلالاته. ذلك أن الكائنات والأشياء والكلمات الدالة عليها ليست حرة في مصائرها، إنها الواصل بين «واقعة» مخصوصة وبين مُجمل ما تراكم من معارف وممارسات في مرحلة تاريخية بعينها. قد لا يكون هذا الرابط مباشرا، وقد يكون رمزيا أو من طبيعة مجازية، كما هو عليه الحال في كل الممارسات الفنية، وقد يكون دالا على نقيض السائد من القيم الدلالية وواجهاتها السلوكية، ولكنه يشير، في جميع هذه الحالات، إلى أن للخطاب ذاكرة لا يستطيع اللاحق داخلها إلغاء سابقها، إنه سيرورة تُراكم وتحذف وتعدل، وليس آلة تنفي وتمحو. إنه، بعبارة أخرى، يحيا بقرائه لا بمخزونه الدلالي الخاص. ولم يكن هذا التعدد في الاستقبال والتلقي من الطبيعة ذاتها عند كل الناس. فهناك من رأى فيه عودة بالنص إلى حالات تشظيه الأولى، فالقارئ لا يبحث عن معنى يحيل على التماسك والانسجام، بل يلهث وراء لذة مصدرها انفلات المعاني من أي ضابط أو رادع سياقي، «فالمتاهة» ليست ضياعا، كما يبدو عليه الأمر في الظاهر، بل هي مغامرة لا نعرف أي شيء عن نهايتها، وذاك مصدر المتعة والغاية من كل عمل فني. وهناك من رأى فيها إحقاقا لحق ضيعه الداعون إلى مركزية النص، فلم يكن للقارئ في البنيويات الأولى أي دور في تحيين جزء من معاني النص، فالمعنى سابق على القارئ في شكل كم معلوم يلتقطه الحاذق من القراء. لذلك كان القول بفكرة «التعاون»، عند البعض الآخر، اعترافا بوجود قصد آخر لا يمكن لنوايا النص أن تستقيم بدونه. بعبارة أخرى، هناك استراتيجية تأويلية تستوعب القارئ ضمن فرضياتها، فعمليات التوليد تُسقط، بضرورة «النقص التمثيلي»، آليات تأويلية هي جزء من حالات التلقي؛ إن «النص يقتات مما يأتي به القارئ»، «ذلك أن العلامة توكل للمؤول مهمة الإتيان ببعض من معانيها» (إيكو). لقد تم التشكيك في جميع هذه الحالات، في قصد المؤلف، فوحده التفاعل بين النص والقارئ يمكن أن يقود إلى التعرف على المعاني وتنويع تجلياتها في النفس. سكّر النص.. دلالاته وقد شبه أحد الظرفاء حالات النص وطريقته في تسليم دلالاته بسيرورة تذوق الحلاوة لحظة انتقالها من مادتها لاستيطان اللسان، عضو الذوق وأداة قياس سلميته. فما كانت تدعو إليه النظريات الأولى للقراءة شبيه بما يمكن أن يحصل للحلاوة حين يكون مصدرها السكر وحده، فلا دور للسان في ذلك، إلا من حيث كونه هو الهادي والمنبه عليها. إن النص، قياسا على الحلاوة والسكر، هو مصدر المعاني، إنه موجود كقصد أولي في انفصال كلي عن المتلقي، تماما كما هو السكر مصدر الحلاوة ومادتها. إلا أن الأمر اختلف بعد ذلك، فجاء من يقول إن السكر ليس وحده مصدر الحلاوة، فهي داخله مجرد افتراض لا حقيقة موضوعية مستقلة بذاتها، فقبل أن يمد الإنسان لسانه ليتذوق الحلاوة، لم تكن هذه سوى احتمال ممكن التحقق، وتلك هي حالة النص أيضا، فقبل فعل القراءة، لم يكن النص سوى كيان صامت لا يستطيع قول أي شيء استنادا إلى قصده هو وحده، فالقراءة هي التي تخرجه من صمته، وتدفعه إلى تسليم بعض أسراره. إن المعنى فيه، مثله مثل الحلاوة، حاصل تفاعل بين القارئ وبين النص، تماما كما هي الحلاوة حصيلة تفاعل بين السكر واللسان. ومع ذلك، لم يكن هذا الموقف ليرضي الغلاة من التفكيكيين الذين رأوا في النص مجرد ذريعة، أما الأصل والمنطلق في الدلالات عندهم فهي الذات التي تستقبله وتحتفي به خارج إكراهات القصد الأول، أو ضدا عليه في الكثير من الحالات. فالذي يقرأ لا يتقيد بقصد الكاتب ونواياه، ولا قيمة في واقع الأمر لما يقوله النص إلا من حيث قدرته على إطلاق العنان لدفق تأويلي لا يكترث للمدلولات، فمن يُشعل النار لا يستطيع التحكم في شرارتها. وحدها لعبة الدوال الباحثة عن مدلولات لا تعرف عنها أي شيء يمكن أن تقود إلى لذة هي ما يُحرر النص من سياقاته ويقذف به إلى «متاهته الأصلية» (دريدا)، وهو ما يعني، أن الحلاوة ليست في السكر، ولا علاقة لهذا الأخير بمفعولها على اللسان، بل هي موجودة بشكل سابق في اللسان الذي يتذوق، فقبل التذوق لم يكن السكر سوى مادة شبيهة بكل المواد الأخرى. تلكم بعض حالات التشابه بين مفعول السكر في اللسان وبين مفعول النص في وجدان المتلقي. فعادة ما ننسى أننا لا نقرأ لنفهم ما هو موضوع للقراءة، بل نفهم في المقام الأول أنفسنا، إن «الفهم امتلاك» في حدود أنه يعرض الذات وينشرها على ما يأتيها من خارجها، لذلك، فإن أفق النص ممكن في حدود وجود أفق يستقبله.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©