الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفخّ الفيتنامي.. أو الحرب التي كانت

الفخّ الفيتنامي.. أو الحرب التي كانت
14 يناير 2015 21:35
ثلاثة أميركيين يرافقوننا في الرحلة إلى جبال كي زان وسط فيتنام وعلى تخوم الحدود اللاوسية. أحدهم كان جندياً في الجيش الأميركي بفيتنام إلى حدود سنة 1972. يأتي منذ سنة 1996 بانتظام لزيارة فيتنام، كما قال لي أثناء تناولنا لفطور الصباح في محطة للاستراحة. الأمطار المتواصلة تصفع بلور الواجهة الأمامية للحافلة ونوافذها بغزارة تجعلنا لا نستطيع تبين سوى قليل من الأشياء من حولنا. الدليل السياحي الشاب الذي يبلغ 28 سنة من العمر يتحدث بتفاصيل دقيقة عن الظروف التاريخية التي أدت إلى حرب فيتنام، ويقدم لنا معلومات مفصلة ومفيدة عن تلك الفترة. المحارب الأميركي القديم ينصت باهتمام بينما عيناه مركزتان بنهم على الخارج. تتخلل تقديم الدليل فواصل من الصمت يغيب أثناءها ذلك الرجل الأميركي في التركيز على المشهد الخارجي. هادئ، ساكن، لا أثر لأي نوع من الاضطراب على سحنته أو في عينيه. مركّز فقط بهدوء على الخارج كما لو كان يبحث عن شيء، أو يستعيد شريطا من الصور القديمة المندسة في ذاكرته. يسأله الشاب الفيتنامي بين الحين والآخر عن أشياء من تلك السنوات البعيدة فيجيب بهدوء وبتلقائية دوما، لا أثر لكراهية ما ولا لافتعال مشاعر ندم أو أي نوع من التفجع الدرامي. يسرد وقائع متفرقة ويتحدث عن مسالك عسكرية مرت بها هذه الكتيبة أو تلك، أوامر من هذه الجهة أو تلك، تغيير خطة هجومية، تقدم في هذا الاتجاه، أو انسحاب من تلك المنطقة. هذه التلقائية تجعله طبيعيا ومحببا للنفس. ذاكرة تحت المطر تحت وابل من الأمطار تجاوزنا نهر «سونج بان هايْ» الفاصل بين الشطرين الشمالي والجنوبي لفيتنام منذ سنة 1954 حتى سنة 1975، ورحنا نجتاز منطقة الـ (DMZ ) الشهيرة (منطقة الفصل العسكري) بين شطري البلاد، هناك حيث يتقلص عرض البلاد الفيتنامية إلى ما يشبه شريطا نحيلا لا يتجاوز عرضه (50 كلم) بين الساحل والحدود اللاووسية. اقتربنا من الطرف الجنوبي لدرب هوشي منه، وغير بعيد من هناك الموقع الذي كانت توجد به قرية فينه موك التي محاها قصف طائرات الـ (B52 ) سنة 1966. نحن الآن في المنطقة التي تعرضت أكثر من أي منطقة فيتنامية أخرى إلى قصف الطيران الأميركي. خمس كتائب عسكرية كانت ترابط جنوب نهر سونج بن هاي من أجل التصدي لزحف جيش هوشي منه القادم من الشمال. وفي الفترة ما بين 1965 و1968 حفر جيش الشمال الفيتنامي (114) نفقاً في هذه المنطقة ما تزال (30) منها موجودة إلى الآن، واحد منها هو هذا الذي نزوره اليوم، وهو الوحيد المفتوح لزيارة السياح. متاهة بالغة التعقيد يبلغ طولها (12 كلم) قد آوت سكان القرية لمدة خمس سنوات. لم تكن للنفق وظيفة إيواء المدنيين فقط، بل كان يلعب دور المعبر السري لعساكر هو شي منه القادمة من المناطق الشمالية، وممرا لتزويد جيش التحرير بالأسلحة التي كانت تستجلب من طريق البحر. النفق محفور مباشرة في الصخر، ضيق لا يتسع لمرور أكثر من شخص واحد، وهو مظلم ورطب، وفي مواقع عديدة كان علينا أن نخبط في برك من الماء والأوحال. على جنبات الممر الضيق حجرات صغيرة (مساحة كل منها مترين مربعين على أقصى تقدير)، محفورة في الصخر، كانت لها وظيفة الغرف التي تأوي العائلات. داخل بعضها تماثيل تجسد مشاهد من الحياة اليومية لسكانها الذين قضوا ما لا يقل عن خمس سنوات مختفين داخلها؛ نشاطات مختصرة في الحد الأدنى الضروري للبقاء: طهي، أطفال متحلقون حول كتاب مدرسي، معالجة عجوز مريضة، أو واحدة في حالة مخاض. داخل الأدغال نواصل رحلتنا تحت وابل من الأمطار المتدفقة بعنف فوق طرقات تغمرها المياه وقد بدأنا نتوغل بحق داخل الأدغال الفيتنامية. الجبال قد غدت أكثر علوا والأودية أكثر عمقا، والغابات أكثر كثافة. الجبال ملتحفة برداء رمادي من الضباب والغيوم الكثيفة، والدنيا بكليتها تبدو عائمة في الماء. بيوت المزارعين، أو ما يسمى بالبيوت الطافية، لأنها مشيدة في أغلبيتها فوق صواري من الخشب، تبدو داخل برك المياه والأوحال كما لو أنها تسبح داخل طوفان قد لا تخرج منه بسلام. قتامة ما تلف بهذه المناطق، ربما بسبب الغيوم والأمطار، وهناك مسحة من البؤس القروي الذي لا يخلو من رقة وعمق وغموض. نتوغل أكثر فأكثر بين الجبال العالية والأودية السحيقة المغمورة كلها بغابات كثيفة متبعين الطريق المسماة بدرب هوشي منه. ها قد بدأتُ أتوغل حقا داخل القارة الآسيوية، كنت أردد لنفسي وأنا أرمق هذه الجبال التي لا تشبه غيرها من جبال الدنيا بأشكالها المتميزة: أشكال مخروطية بقمم إسطوانية ترتفع متحاذية مثل مداخن هائلة لمصانع أسطورية، لكن دون ذلك المظهر الرمادي الأجرد الكئيب لمداخن المصانع. الضباب الذي ينسدل عليها مثل لحاف يجعلها أكثر غموضا وسحرا. هناك شيء من الرهبة الغامضة تنز بها هذه الهياكل الهائلة المنتصبة هناك مثل آلهة أسطورية ملفوفة في ألحفة من الماء والضباب. خوف المارينز لم يكن من الصعب عليّ، ونحن نعبر هذا المشهد، أن أتمثل حالة الخوف التي كانت تتلبس بقلوب عساكر المارينز وهم يتوغلون داخل هذه الأدغال الكثيفة بين جبال عالية وأودية سحيقة، يخبطون داخل المياه والأوحال. كل خطوة مغامرة غير محمودة العواقب، ووراء كل دغل يترصد شبح الموت، علاوة على الظروف المناخية الغريبة. وحدهم مقاتلو جيش التحرير الفيتنامي، كما يؤكد ذلك دليلنا وكذلك مرافقنا الأميركي، كانوا قادرين على تبين المسارب الخفية داخل هذه الأدغال، ووحدهم كانوا، بحكم التعود والتأقلم مع هذه المميزات المناخية، يقدرون على تحمل متاعب الحر والرطوبة والخبط في الأوحال ومقاومة الحشرات الكثيرة المتنوعة. الجندي الأميركي السابق لا ينقطع عن التحديق في الأودية والجبال. أتمنى لو أنني أدرك ما الذي كان يجول في ذهنه في هذه اللحظات. الدليل السياحي يعود للحديث بتفاصيل دقيقة حول الخطة العسكرية التي اتخذها الجنرال جياب وهو يستدرج الجيش الأميركي إلى هذه المنطقة الشبيهة بفخ محاط بالجبال وبعساكر جيش التحرير الفيتنامي المختبئين في الأدغال، والجندي السابق الذي أصبح منذ أكثر من 20 سنة مدرساً لمادة التاريخ في أحد المعاهد الثانوية في الولايات المتحدة يصغي باهتمام وتركيز. ملامحه الهادئة تنضح بسكينة تجعل الناظر إليه يشعر بالارتياح إليه. هل هي فعلا سكينة روح حقيقية، أم مجرد سطح راكد تعتمل تحته انفعالات خفية عميقة جدا بحيث لا يبرز شيء منها فوق هذا السطح؟ كانت مرتفعات كي زان Khe Sanh مسرحا لأشرس المعارك وأكثرها دموية، من تلك التي دارت بين الجيش الفيتنامي والقوات الأميركية القادمة من الجنوب سنة 1968. الجنرال الأميركي الذي كان يقود الكتائب الأميركية الخمس القادمة من الجنوب قد أطلق على تلك المعارك اسم ديان بيان فو الثانية. وقد كانت بالفعل ديان بيان فو ثانية تقرر على إثرها مصير الحرب من بعد، إضافة إلى تشابه الظروف المناخية والطبيعية التي دارت فيها تلك المعارك، وكذلك من جهة الخطة الحربية نفسها التي اعتمدها الجنرال جياب في كلا المعركتين: الانسحاب أمام العدو وجعله يتوغل أكثر فأكثر داخل فخ الأدغال. الجندي السابق الذي يرافقنا اليوم لم يعش أحداث المعارك الشرسة التي دارت في هذه المنطقة. كان في منطقة دلتا الميكونج بالجنوب، مابين مدينة سايجون والحدود الكمبودية. قال لنا إنه أنهى مدة خدمته العسكرية قبل اندلاع معارك مرتفعات كي زان. هل كان يشكر السماء والقدر الذين أعفياه من جحيم تلك المعارك، الآن وهو يحدق في الأدغال والأودية المنقعة في الضباب؟ هل كان يفكر بآلاف الجنود الأميركيين الذين لقوا حتفهم هنا؟ بأولئك الذين تاهوا داخل الأدغال ووقعوا في كمائن مقاتلي حرب العصابات؛ بتلك الكتائب الغارقة بأكملها في الأوحال والمستنقعات؟ أم بالدمار الذي ألحقه استعمال النابالم بهذه الجهة ومناطق دا نانج ونات ترانج وحوّل أجزاء كبيرة من غاباتها وحقولها إلى أرض جرداء شبيهة بسطح القمر ظلت لمدة طويلة غير قابلة للزراعة والاستفلاح؟ بقايا حرب! فوق قمة المرتفع يوجد الآن متحف عسكري يخلد ذكرى تلك المعارك التي دارت بين الأميركيين والفيتناميين، ويضم من بين ما يضم طائرات أميركية من نوع الهيلكوبتر الحربية وحطام طائرات أخرى ومدافع وقنابل بأحجام مخيفة، وألبسة عسكرية وخوذات وبنادق رشاشة وصناديق ذخيرة وصفائح بنزين وماء وأحذية عسكرية مهترئة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©