الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كارما

كارما
30 مايو 2014 20:39
قاومت كثيراً - يعلم الله - هذا الاختراع العجيب.. تجاهلته.. حاربته.. دعوت لرفضه.. لكنه في النهاية انتصر كفلسفة جديدة وتسلل إلى كل شيء في حياتنا، ومع الوقت صار بالغ الأهمية.. أتكلم عن الهاتف الجوال طبعاً، ولا ينكرن أحد أنني صمدت كثيراً.. حتى إنني أحسبني آخر واحد ابتاع هاتفاً جوالاً في العالم العربي كله. لا بد أن الشركات كلها تنفست الصعداء عندما ابتعت جهازي الخاص، وأغلقت أبوابها وأعطت إجازة للعاملين فيها كي يناموا.. لقد تخلى ذلك الأحمق في مصر عن عناده أخيراً.. شهر مكافأة للجميع. بعد هذا حاولت جاهداً أن يتحطم مني أو أنساه في مكان ما. تجربتي الخاصة علمتني أن الهاتف الجوال لا يمكن إغراقه في الماء أو تحطيمه. إنه أبدي كمعاني الحق والخير.. بل هو أبدي كالشر ذاته. لا يمكن تدميره.. الناس أمناء جداً ويرجعونه لك دائماً.. ربما كان السبب يعود إلى أنه جوال من طراز عتيق جداً لا يغري أي لص بسرقته.. كانت لديَّ مفكرة سميكة مهترئة الأوراق، انثنت معظم صفحاتها على طريقة (أذن الكلب) الشهيرة.. وكانت هذه المفكرة تضم أسماء وعناوين وأرقام هاتف كل معارفي. مفكرة باسلة صامدة. ثم بدأت أدون أسماء معارفي وأرقام هواتفهم على الهاتف الجوال.. مع الوقت تخليت عن تلك المفكرة العزيزة... صرت أحمل الجوال كالناس المتحضرين.. أرفعه من وقت لآخر لأدقق في الشاشة لأعرف من طلبني، وأغلقه في الاجتماعات والمحاضرات.. لم أشعر قط براحة معه لكني حاولت أن أتحضر كما يلبس البدائي الحذاء مرغماً.. ثم جاء اليوم الأسود.. يوم فتحت دفتر العناوين في الجوال فلم أجد شيئاً.. جربت كل الطرق الممكنة بلا جدوى. جريت إلى مكتب الاتصالات في الشارع فراح يجرب بلا جدوى، ثم أرسلني إلى شركة الاتصالات. جربوا فحص الشريحة وجربوا ألف شيء ممكن، ثم قال لي الشاب المتأنق: - «ألم تقم بعمل باك أب؟» - «ما معنى باك أب أصلاً؟» - «ألم تحفظ البيانات على الكمبيوتر؟» - «نعم.. لم أفعل.. » هنا تقلص وجهه ألماً وقال ما معناه (يعوض عليك ربنا). تخيلت أنه سيلومني لأنني لم أضع البضاعة في أكياس بلاستيكية قبل (دفسها) في الملاحات في نهاية فيلم (العار). لقد ضاعت العناوين واستقرت في قاع الملاحة.. خواء.. أنا الآن في خواء تام.. لحظة الميلاد المقدسة حيث لا أعرف أحداً على الإطلاق.. أنا وحدي في الفراغ الفيزيائي.. في الأثير.. في منطقة انعدام الوزن... يرن الجرس فلا أعرف من يتصل.. اعتدت ألا أرد إلا على رقم أعرفه، لكني الآن مرغم على الرد في ذعر... من قال إن هذا ليس أخي أو عمي، أو صديقي في العمل السجين في بيت يحترق؟؟ أرسلت رسائل بالبريد الإلكتروني لكل من أعرفهم: - «أرجوكم.. أرسلوا لي أي أرقام هاتف تعرفونها». هكذا انهمرت على الأرقام فرحت أدونها.. كلما جاء رقم جديد شعرت بأنني أستعيد قطاعاً تالفاً من ذاكرتي. برغم هذا هناك أرقام لن أستردها أبداً.. فتاة القطار التي قالت إنها تحبني ولم أرها منذ ذلك الحين.. طبيب العظام الوحيد الذي يجيد علاج ركبتي المتيبسة.. المخرج الذي كان يريد أن يخرج روايتي.. وكيل النيابة الذي وعدني بأن يساعدني في حل أي مشكلة قانونية أتورط فيها... عامل المجاري الذي أعطاني رقمه كي أطلبه مباشرة - بدلاً من روتين الهيئة - لو حدث طفح في المجرور المجاور لبيتي.. مهندس صيانة جهاز التكييف الوحيد الذي يقدر على إصلاح جهاز التكييف اللعين الذي أملكه. السمسار الوحيد الذي أعرفه في الساحل الشمالي والذي يمكن أن يؤجر لي ولأسرتي شاليهاً للاصطياف لمدة ثلاثة أيام. الرجل الذي أحطم كشافات سيارته كل مرة أوقف سيارتي فيها، وفي كل مرة أتصل به لأعرض دفع تعويض. هناك أرقام لن أستردها أبداً ولن تعود.. تخلصت من الجوال وابتعت واحداً آخر جديداً، ثم قمت بتعلم طريقة الباك أب هذه وصنعت نسخاً احتياطية احتفظت بها في كل مكان بالبيت. لا شك أن هذا وضع مؤسف.. لكن هناك قدراً لا بأس به من الراحة والصفاء النفسي عندما كنت أحيا بلا أرقام. وضع الخواء الذي هو أقرب للكارما أو النيرفانا كما يقول خبراء اليوجا. إجازة صغيرة من مشاغلك وهموم العصر.. والأمتع هو أنك تملك عذراً قوياً. لكن حالة الكارما تنتهي.. واعذرني لأن الهاتف الجوال يدق بإلحاح الآن. د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©