الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الألمنيوم و «الاستانلس» أزاحا النحاس عن عرشه المنزلي

الألمنيوم و «الاستانلس» أزاحا النحاس عن عرشه المنزلي
19 مايو 2011 19:55
في مقابل سور دمشق التاريخي في شارع فيصل الشهير يقع (سوق النحاسين) وسط العاصمة السورية، وقد أقيم السوق قبل مئات السنين، وكان يلبي حاجات أهل الشام والبلدان المجاورة كالأردن وفلسطين ولبنان والعراق من الأواني المنزلية النحاسية وفي شتى الاستخدامات، ويستقبل يومياً مئات الزبائن الذين يقصدونه لشراء لوازمهم النحاسية، حيث كانت أصواتهم تختلط بأصوات المطارق التي تدق النحاس وتطوعه، لتصنع منه نماذج مختلفة وجميلة. (دمشق) -يقول الحاج أبو عمر (85) عاماً وهو يزفر: يا بني هذا كان في الزمن الماضي، أما الآن، فإن السوق يحتضر، وهذه المهنة تنقرض، وما بقي من المعلمين فيها كفوا عن ممارستها!. فما هي قصة (سوق النحاسين) الدمشقي التراثي، وهل هو في طريقه إلى الانقراض فعلاً؟. (سوق النحاسين) كان في أوج ازدهاره حتى منتصف القرن الماضي، وكان يشكل المكان الذي يؤمه الناس لشراء احتياجاتهم المنزلية من الطناجر والقدور ومختلف أنواع الأواني النحاسية و(المناسف) و(الحلات) التي تستخدم في سلق القمح أو غلي الحليب وصناعة الجبن. وكان السوق عامراً بورشاته التي لا تكل ولا تمل من الطرق اليدوي على النحاس لتصنيعه أو النقش عليه من الصباح إلى المساء. يقول شيخ الكار أبو جاسم: كنا أربعمائة معلم نحاس يساعدنا عدد من الحرفيين الشباب الذين نعلمهم المهنة، وكنا نلبي احتياجات الشام والبادية وريف دمشق، ونبيع أيضاً للأردن والعراق وفلسطين ولبنان، لكن عددنا الآن تقلص إلى ثلاثين حرفياً شاباً، أما المعلمون وشيوخ الكار، فلم يبق منهم إلا اثنان، أنا ومازلت أعمل، وزميل لي لم يعد يمارس العمل بيديه، لعدم وجود مردود مادي معقول، ولقلة الطلب على الأواني والمشغولات النحاسية. وبنبرة حزينة كأنها تشيع السوق يقول أبو جاسم: إن المهنة انقرضت، ولم يعد لها زبائن، كما كانت في الماضي!. الأبناء يمتنعون في الوقت الحاضر لا تجد شاباً ورث مهنة (النحاس) عن أبيه إلا فيما ندر، فالأبناء يمتنعون عن ممارسة مهنة قلّ الإقبال على منتجاتها، ولم يعد لها سوق، رغم أنها مهنة متعبة وشاقة. عشر قطع يقول الشاب سعيد المصري (35 عاماً): والدي كان نحاساً شهيراً، وكانت ورشته هي الأشهر، وكان يبيع في اليوم الواحد أكثر من عشر قطع نحاسية، فضلاً عن القطع التي يقوم الزبائن بالتوصية على تصنيعها وفق مواصفات معينة، ولكن منذ أن وعيت على الدنيا، وجدت أن هذه المهنة المتعبة لا تطعم خبزاً، فأقنعت والدي بأن لا أعمل فيها، واخترت عملاً آخر في التجارة. ويلاحظ سعيد أن ورشة والده في آخر أيامها كانت لا تبيع أكثر من قطعة أو قطعتين في الأسبوع، وهو ما لا يوفر مردوداً مادياً يؤمن أجور العمال على الأقل، ولاسيما أن تقاليد السوق المعمول بها حتى الآن تقضي بأن تباع القطعة بالوزن. ويتدخل أحمد حسن، وهو عامل شاب في سوق النحاسين في الحديث: إن مهنتنا شاقة جداً، ولم تعد مربحة، فنحن نتعامل مع النحاس المستورد الذي يأتينا على شكل ألواح، فنقوم بمعالجتها وتفصيلها وتشكيل الوعاء منها حسب الطلب، ونستخدم في ذلك الجهد العضلي من خلال المطارق والسندان والإزميل المتعدد الأنواع، وهذا يعتبر عملاً شاقاً، فضلاً عن ضجيج المطارق الذي يؤثر على حاسة السمع لدينا، فسوق النحاسين، كما هو معروف عند الجميع هو سوق الضجة، واليوم كما أسمع يعتبرون الضجة ملوثة للبيئة!.ولا يخفي أحمد رغبته في ترك هذه المهنة عندما يتوفر له عمل آخر مناسب، ولاسيما بعد أن ارتفع سعر النحاس عالمياً، مما زاد في أزمة تسويق منتجاته. الألمنيوم هزم النحاس الألمنيوم والاستانلس ستيل ثم البلاستيك ألحقوا جميعاً الهزيمة بالنحاس، وأنزلوه عن عرشه، هذه هي الحقيقة التي تخبر عن احتضار سوق النحاسين، وبداية انقراض مهنة النحاسين فيه. يقول محمد الفحام صاحب ورشة ومحل لتسويق النحاسيات: إن الطلب على منتجاتنا بدأ بالتراجع بحدة بسبب هجوم أواني الألمنيوم في البداية، ثم ظهور الاستانلس ستيل الذي وجه الضربة القاضية لصناعة الأواني والأدوات المنزلية النحاسية ثم تلاهما البلاستيك، وتسيطر هذه المواد الثلاث على الأسواق الآن في كل مكان لعدة أسباب، منها رخص ثمنها قياساً بأسعار النحاس المرتفعة، ثم سهولة استخدامها وصناعتها والتقنيات الحديثة التي تسهم في سرعة ترويجها، يضاف إلى ذلك اختلاف الذوق الاستهلاكي لدى الزبائن الذين يفضلون المنتجات الحديثة. ويضيف: ولم يعد يقبل على الأواني النحاسية إلا أبناء البادية وقلة من أبناء الريف، أما سكان المدن فإنهم لا يقبلون عليها، بل يتخلصون مما ورثوه منها ببيعها، ولاسيما أن النساء المعاصرات يفضلن الأواني الخفيفة وسهلة الاستخدام، فقد تغيرت الأذواق مع تغير الزمن. الأذكياء يتقدمون في مقابل هذه النزعة التشاؤمية، والشعور بالإحباط، فإن عدداً من النحاسين الشباب اختاروا أن يلعبوا لعبة العصر، وأن يجاروا الأذواق، وأن يسخروا مهاراتهم في صناعة منتجات يتطلبها السوق، ويلح عليها. فالسيد سليمان الناطور الذي يمارس المهنة منذ ثلاثين سنة، انتبه لحاجة السوق الحالية، ووجه منتجاته باتجاه الاستجابة لها، فهو تخصص في تصنيع الأواني التي تطلبها المطاعم، ولاسيما في مجال سلق الفول والتسقية الشامية والحمص، وكذلك حاجات الباعة المتجولين إلى قدور كبيرة نحاسية لسلق (عرانيس) الذرة. ويقول إن منتجاته تجد رواجاً كبيراً، وأن الإقبال عليها في تزايد مع زيادة افتتاح المطاعم الشامية، وزيادة عدد الباعة المتجولين الذين يشكلون جزءاً من صورة الشام وفولكلورها. واتجه عدد آخر من النحاسين اتجاهاً معاكساً لسليمان، بل أخذوا المهنة باتجاه آخر مختلف تماماً، وهو تحويل المشغولات النحاسية إلى تحف لتزيين القصور والمنازل والمطاعم، كدلال القهوة العربية والمناقل وصنع مجسمات نحاسية لبعض الحيوانات كالجمال والغزلان، إضافة إلى الفوانيس والثريات والسيوف والخناجر، وكذلك صنع لوحات نحاسية جدارية، أصبح كثيرون يفضلونها لتزيين جدران مكاتبهم أو منازلهم، ولاسيما أنها تتخذ أشكالاً عديدة مستفيدة من الخط العربي، وكتابة بعض الآيات القرآنية بالضغط على النحاس. كما يقوم النحاسون المجددون بصناعة (أهلة) المساجد، فقد صنعوا أهلة المسجد الأموي الكبير عند تجديده عام 1998، كما صنعوا أهلة مسجدين كبيرين أقيما في صيدا وبيروت بلبنان. تجدد وإقبال تلاقي منتجات الزينة النحاسية إقبالاً كبيراً من السياح العرب والأجانب، ولاسيما بعد أن حول النحاسون النحاس إلى تحف فنية ذات قيمة، إذ أنزلوا فيها خيوط الذهب والفضة، وابتكروا زخارف عربية شرقية نقشوها عليها، حتى أن بعض الذواقة تخلوا عن اللوحات الفنية المرسومة أو المصورة، واستبدلوها بلوحات فنية من النحاس المضغوط والموشى بتزيينات فضية وذهبية، ولاسيما أن بعضها يحمل آيات قرآنية كريمة. ورغم أن دلال القهوة العربية النحاسية ما تزال وستبقى قيد الاستعمال، إلا أن نحّاسي دمشق أصبحوا يصنعون نماذج منها بأشكال وأحجام مختلفة بهدف تزيين القصور والمضافات، وهو ما يلقى رواجاً داخل سوريا وخارجها. صحيح أن سوق النحاسين الأثري القديم يندثر بتأثير التطور والعصر الجديد، إلا أن النحاسين الجدد ـ إذا صحت التسمية ـ قد شقوا طريقاً للإبداع في النحاس، وهناك من يقول الآن إن عدد العاملين في هذه الحرفة التراثية المتجددة يزداد يوماً بعد آخر
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©