السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة الارتياب.. أن تعيش بصحبة الشك

ثقافة الارتياب.. أن تعيش بصحبة الشك
16 أغسطس 2017 19:21
كلما اقتربت مواعيد الاقتراعات التي تُنظَّم في هذا البلد أو ذاك، يتضح لنا أن الثنائيات المعهودة التي ننظر من خلالها إلى المجتمع فنقسمه يميناً ويساراً ربما لم تعد صالحة لفهم ما يجري ومتابعة مختلف التحولات. حتى وقت قريب كنا نرتاح إلى تلك الثنائيات، معتقدين أننا نفهم الأمور عندما نصنّف العالم خانات ومعسكرات. كان المجتمع ينقسم في أعيننا قسمين كبيرين، معيارنا في ذلك القرب من الحقيقة والوقوع على «عين الصواب»: فمن جهة هناك من عثروا على الحقيقة، ومن جهة أخرى أصحاب الضلالة. من جهة أصحاب اليمين وفي الضفة الأخرى أصحاب شمال. اتخذت هذه الثنائية صوراً متنوعة وترجمات متباينة، فسُمّيت أحياناً تقدّماً ورجعية، وأخرى طليعة وتأخراً، كما سُمّيت أحياناً أخرى تقليداً وحداثة. إلا أنها سرعان ما أخذت تكشف عجزها عن بلورة ما يهزّ المجتمعات من صراعات، وما يعتمل فيها من تناقضات. فتبيّن  أن ما كان يعتبر أسواراً شامخة تفصل هذا عن ذاك سرعان ما أخذ في الانهيار، وغدا من المتعذّر علينا أن نعرف ما لهذا الجانب وما لذاك، كما اتضّح أن كثيراً من اليسارات تيمّنت، وأن طرق التحديث غدت في النهاية أشكالاً أخرى للتقليد. لا يعني ذلك بطبيعة الحال، أن المجتمعات توحّدت وأن التناقضات التي تتنازعها ذابت، كل ما في الأمر أن الخانات التي كان يُنظر من خلالها إلى المجتمع لفهم صراعاته وتحليل تناقضاته لم تعد ذات قوة إجرائية. زعَم البعض أن هذا الغياب للقدرة على التمييز، التي هي الخاصية الملازمة للفعالية العقلية عند أبي العقلانية كما نعرف، وهذا الخلط في الرؤية هما اللذان أديا بالكثيرين إلى اليأس من كل أدوات التحليل، إن لم نقل اليأس من كل فعالية ومحاولة تأثير في واقع الأمور، فرمى بهم في «ظلمات» الشك وحيرة الارتياب، الأمر الذي من شأنه أن يشلّ  كل رغبة فعلية في التغيير، وطموح نحو الفعل في الواقع و«تحويله». لكن، لماذا هذا الربط المتسرّع بين الشكّ  والتعطيل عن الفهم والفعالية؟ ولماذا نقرن الشك بالظلمات والجهالة؟ أوَلمْ يعتبر كثيرٌ من المفكرين أن طريق اليقين هو الشك؟ ألم يكتب صاحب ميزان العمل، على سبيل المثال: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعاً، إذ الشكوك هي الموصِلة إلى الحق. فمن لم يشكّ  لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يبصر، بقيَ في العمى والضلال»؟ فضلاً عن هذا، ألم يجعل أبو العقلانية نفسُه الشك بداية لكل تفكير، بل طريقاً للوعي بالذات وبالعالم؟ ليس الارتياب إذاً بالضرورة انهزاماً معرفياً وعطالة عن الفعل، وهو ليس اعترافاً بجهل لا سبيل إلى مقاومته. ذلك أن الشكّ  ليس جهلاً. فأن تشك هو نوع من الحصول على معرفة، أو هو، على الأقل، بداية كل معرفة. لذا، فعوض التصنيفات التقليدية بين من «يمتلكون» الحقيقة ومن لا يمتلكونها، يبدو أن الفصل الذي أصبح يفرض نفسه اليوم ليس هو التقابل بين الشك والاعتقاد، وإنما التمييز بين تفكير يميل نحو تبسيط الأمور وردّها إلى عامل وحيد بعينه والنظر إليها من جانب واحد، وبين مسلك يجرؤ على التفكير المركّب Penser dans la complexité. لنقل إذاً إننا اليوم أمام مسلكين: من جهة هناك المتطرفون يساراً أو يميناً، ومن جهة أخرى من لا ينفكّون يسعون إلى الابتعاد عن كل أشكال التطرف، شريطة ألا نحدّد التطرّف هنا على أنه اعتناق لحقائق بعينها، وإنما من حيث هو طريقة في التفكير تنجرّ إلى التبسيط، وتهاب التفكير المركّب. التطرّف لا يُحدّد هنا بمضمون الاعتقاد بقدر ما يُحدَّد بشكله وأسلوبه. يتبين إذاً أن الثنائية التي تتبقى لنا هي تلك التي تجعل أطراف المجتمع ينقسمون لا إلى من يضعون أنفسهم جهة الحقيقة ويُمَوْقِعون الآخرين جهة الخطأ، بل إلى من يتشككون دوماً في اقترابهم من الحقيقة، وأولئك الذين يلازمهم الشعور الدائم أنهم «في الحقيقة منغمسون فيها Dans le vrai». كأن كل تلك الثنائيات تنحلّ  إذاً إلى من يتمكّنون من أن يعيشوا بصحبة الشك، وأولئك الذين يستعجلون اليقينيات، شريطة أن نفهم هذه الصُّحبة، لا غرقاً في عدمية ويأس مطلق، وإنما على أنها تسليم بأن الأمور ربما تكون أعقد مما نتصور، وإحساس لا يشبع بنقص وعوَز، وشعور لا ينفكّ  بعدم اكتمال، ووعيٌ ملازم بالحدود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©