الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خازن الزمن

خازن الزمن
15 أغسطس 2017 21:41
الجبل أبٌ لا يموت، فضاؤه سحر على الأسرار والأصداء والغياب، قديس منعزل عن دنس الأرض، دعاؤه مرفوع للسماء بلا حرّاس، وجبلنا أبٌ نصفه ماء ونصفه زمن. كلما غاص بحّار هنا، روى: رأيتُ نهراً دامعاً يأتي من شط العرب، يغسل منكبيّ الجبل، رأيتُ نساءً يشبهون نساءنا يتبرّكون بالنهر ويأتون بالتمائم والنحاس، ورأيتُ النحاس يُنقل على سفن ماجان، وتمخر السفن إلى معبد (إيكور) في مدينة نفَّر. غاص أبي في بحر الجبل مرة، وروى ما رأى: رأيتُ قراصنة البرتغال، فلقتُ محارة وسجنتهم مكان اللؤلؤة، رأيتُ جيوشهم وقد تكسّروا إلى قطع من فخار. تابع بحزن: ورأيتُ أجداث بحارة لنجة، ينسلون بين شعاب المرجان، رأيتُ مرفأ لنجة القديم تكسره عواصف الآلهة القديمة، ورأيتُ أبي وأمي على المرفأ يبحران دون عودة، ورأيتُني وراءهما، أُبحر ولا أعود. وقال بحار آخر: رأيتُ (صنم خت)، رأيتُ أصنام سيراف ترفأ إلينا. رأيتُ الوليُّ الموكل بتهريب عرش بلقيس عائداً من اليمن، اندفع بحماسة على رؤوس جبالنا، وانتقى ثغرة من شقوق البحر ليسرب فيه العرش. غاص بحّار أخير هنا، وروى: رأيتُ امرأة كأني أعرفها من زمان، غارقة تماماً في الماء. ثم فاض البحر، وصعد وجهها كفقاعة من اللؤلؤ. قالوا: لعلها ساردة النص. وتابع البحّار وهو يلهث: ورأيتُ... رأيتُ من خلفها بلدة تشبه بلدتنا، هبطت كلها في الماء. اغتمّ البحارة بما رأوا، سكتوا طويلاً وسكن البحر. ما إن سلمت الشمس، غاصوا في بحر الجبل جميعاً. مثل الجن. من بعدهم غاص الربّان. وانقطعت الأنفاس. انفلتت السفينة حرّة في البحر، وحيدة تجرّ حبال الغرقى، تحوم من حولها الغربان، يسحبها التيّار إلينا، إلى الشاطئ، هكذا فجأة اصطدمت بالجبل فانكسر ظهرها، تساقطت منها أكوام من بقايا محار مفلوق. كبّر الجبل أربعاً، وصلّت البلاد في البحر، على الغرقى. (ومن يومها غاب الغوص، انتهى زمانه، والجبل لا تهدأ صلاته) ولماذا يصلي الجبل يا أماه؟ (كي لا تهبط البلدة في البحر). *** لقد رأى البحّارة سرّة الكون، رأوا الموت والإشارة السفلية والنص القادم، رأوا كل شيء في ماء الجبل، ورأوا الزمن. وبقي الأب المثالي الذي لا يموت فارداً أضلاعه في الماء، مانح القرار وموطن الإيمان والخلاص، مخلوق ينشد الأعلى نحو القداسة والأمان والأسرار، يتسامى مع القوة وفق منظور جيلبير دوران، يأخذنا صوب السماء، صوب كنه الخلود المتعارض مع رعبنا الشديد تجاه الزمن/ الموت، والمتواشج مع حلم التعويض عن ضعفنا البشري تجاه الكون، تلك الرغبة الصعودية المناقضة للهبوط والتثبت في الأرض وتكثف كل المظاهر المخيفة للزمن. ينطبق ذلك على جبالنا الحاضنة لعزلتنا الطويلة، إذ من الطبيعي جداً أن أعتبر جبال الحجر جبلاً كونياً ومركز العالم، والصدى الأعلى لصوت البشرية في شبه الجزيرة العربية، بوصفها أول مدخل غريزي إلى قرص الشمس في الصباح، يحدهاّ الشمال بسلسلة البحر، وتقف بعيون حالمة كحجر الزاوية على أفق السماء وخيوط المراكب، تستعد لليوم الجديد وتتشابك مع السر والأحلام والأحزان ووطأة الفقد الجديد. هي منجاة لنا وأمان ومهرب وفضاء للصون، مهبط الأولياء والكرامات والنداءات الوجودية. فلا تتسع الذات على الوجود إلا برؤية الجبل منعتقاً منطلقاً في روح البحر، في عناق أزلي حميم لا ينتهي. كهوف الجبال ومغاراتها رحم عالمي معادل لفكرة الرحم/ الأم. ووفق منظور دوران من أن صدمة الولادة قد تدفع البدائي إلى الهروب من عالم الخطر الشديد والعدواني إلى الاختباء في البديل الكهفي لبطن الأم، حيث المغارة رحم استبصار عالمي يتوهج من ذات معتكفة، ظامئة للقداسة. جميعنا يتوق إلى ذلك الهروب البريء حين كان الهروب للكهوف خطوة تلقائية في حياة البدائي، تدارسها من الطبيعة ومن وعل الجبل (إله العزلة والتأمل)، وإن باتت تلك الخطوة اليوم ضرباً من الجنون ومثاراً للمتطفلين الذين لم تعد تعنيهم لذة الكشف ومتعة الهروب واختباء الروح داخل رحم البدايات. من شأن هذه القداسة الكونية في الخفاء والهروب أن تتحالف مع صمت جبال الحجر ولو بالترميز والتخييل الحكائي، لتغدو حرزاً لكنوز الدنيا، ومزاراً يستقطب الرواة والمؤسطرين على اختلاف أجناسهم، فالأموات في كهوفنا خالدون، والدعاء عندهم مستجاب – حسب مروياتنا الجبلية. الجبال بعلوها المقدّس فوق الماء وتجذرها في عمق البحر، تدعو العابر للتأهب وتلهف الإصغاء إلى الفناء، ذلك الصوت الإلهي في أعماق القلب، محراب النّفس الذي ننسحب إليه حين يطل ذلك الخواء اللذيذ من أطلال المحارق وخرائب بيوت الفخار والأفران الحجرية ورائحة المراعي الخاوية وعطر أوراق النّبق والقنوات الأثرية للمياه العذبة ودخان الكهوف الدافئة وحجارة المدافن والأسوار المهجورة والمقابر القديمة. المقابر التي تملأ السفح والوادي مهد أرضي تتحقق فيه الراحة والسكينة، ووجود القبر في الكهف يضاعف من ذلك الأمان المقدّس، إذ يضفي طابع الخلود على الأموات – (لا يسقط من أعضائهم ولا من شعورهم شيء) – مثلما حُكي في متخيل إقليم الحجر. أن تموت داخل حجر، ما أجمله من موت داخل حياة! الموت في الكهوف حياة أخرى بين الموت والحياة، حالة ثالثة ليست عدماً ولا وجوداً ولا برزخاً، حياة تجري لمسافات لا تنتهي، في عراء طويل لبياض الكهف، حياة غامضة مثل الخيط الغامض الذي يبشر بالفجر، أو حياة الريح في الحجاب الشفاف الذي يزداد كثافة ويغطي العالم بالبياض. ولادة الحجر أغنية الجبل تحت الماء سرمدية، ماء حلو ومالح، بين أمشاج جبال قديمة أزلية، هي الينبوع العظيم والشريان الغذائي المركزي وخزان المياه الأكبر لدولة الإمارات، ما من سهل في البلاد أو واحة أو بحيرة إلا ولها عروق تحت الأرض أو بقعة سطحية وامتداد لجبال الحجر منذ حقب الحياة السحيقة. تشكلت طبقاتها من قاع بحر قديم، خرج هيكلها إثر جدل السكون والحركة من مادة الكون والبحر الأول الهيولي (نموّ) أم الوجود، حين خرج منها كل شيء من مرحلة العماء إلى مرحلة النشوء. خرجت بمشقة وألم ومخاض عسير امتد لمئات ملايين السنين بعد سيرة طويلة من نزف الحجر وصخب الانجراف القاري وهزّة الصفيحة العربية والطمي والغمر العظيم وانفجار الطوفان الأكبر. إنها هادئة الآن، وآمنة جداً، وأسطورية، ثلاثة أرباعها ملتحف بالرمل، مختفٍ تحت جبال من الرواسب الرملية التي غطت الكتلة الصخرية المكونة لأرض الإمارات عبر تعاقب أزمنة الجفاف، يصل ارتفاع بعض هذه الرمال التي تستر تحتها الجبال أكثر من 150 متراً، في حين يظهر جزء من الكتلة الصخرية المدفونة على السطح متمثلاً في الصخور الظاهرة والمكشوفة المكونة لجبال الإمارات، والتي تمتد من منطقة العين إلى الشرق من العاصمة أبوظبي، وحتى المنطقتين الشرقية والشمالية للدولة. نموّ الحجر كان الخليج الأسفل متأرجحاً بين مد وجزر من حالات مختلفة خلال بضعة مليون سنة من تكوينه، مشكلاً رمزاً في الصبر على هبوب رياح الصحراء الواسعة وتعرج الحوض المائي، وغير ذلك من الكوارث التي أحالت الخليج إلى صورته غير الاعتيادية في الوقت الحاضر. شكلت بعض هذه العوامل التكوينية ظواهر متفردة من حيث المقدار والمدى الزمني المرتبط بحركة الصفائح القارية وتصادمها، ففي خلال حقب الحياة القديمة، أي قبل (542 - 251 مليون سنة) كانت الصفيحة العربية وجندوانا بأكملها تقع في نصف الكرة الجنوبي، وبالإضافة إلى ذلك في حقب الحياة القديمة، كانت الصفيحة العربية موجهة بحوالي 60 درجة عكس اتجاه عقارب الساعة بالنسبة للقطبين اليوم. ولكن تحت تأثير تكوينية الصفائح، تحركت جندوانا عبر القطب الجنوبي وانتقلت إلى الجانب الآخر من الكوكب. وظهرت في نهاية الأمر مع كتلة اليابسة التي تشمل الصفيحة العربية في الوجهة التي نراها عليها اليوم تقريباً. ولقد عبرت هذه الرحلة مناطق معتدلة المناخ في اتجاه الجنوب، نتيجة لذلك تألفت مجموعة من الصخور المحيطية التي تُعرف علمياً باسم (أفيوليت سمائل)، وتعد الأساس جزءاً من قشرة قاع بحر تيثيس القديم المعروف في العصر الطباشيري، ومع انسداد بحر تيثيس اندفعت كتل من صخور الأفيوليت المختلطة مع الرواسب البحرية إلى الرصيف القاري العربي، ثم طغى عليها البحر فيما بعد، ما أدى إلى ترسب الصخور الجيرية في هذه المياه الضحلة فوق صخور الأفيوليت المندفعة، حيث تشاهد الآن فوقها، كدليل على طغيان مياه البحر عليها لفترة من الزمن، ومع انتهاء حركة الاندفاع وانحسار ماء البحر، بقيت هذه الجبال بارزة فوق سطح الأرض تتعرض لعوامل التعرية المختلفة، التي ساهمت في تحديد شكلها الحالي. واليوم يمكن رؤية طبقة صغيرة بارزة من هذه الصخور التي يبلغ عمرها 450 مليون سنة، في جبل راعان بسلسلة جبال الحجر في إمارة رأس الخيمة. لقد أدى مجموع هذه العوامل التكوينية إلى إحداث تغييرات هائلة فوق السطح، وتسبب في إخفاء تراث زمني كبير ومهم تحت السطح، بيد أن التكوينات الصخرية من الحجر الرملي والصلصال الصخري والهياكل الجيولوجية سمحت بالتكوين المتراكم لمورد أساسي لا يقدر بثمن، ألا وهو المياه، حيث تجمعت في خزانات جوفية واسعة، واستمرت في رفد المكانة الطبوغرافية الرفيعة لجبال الحجر في العصر الحالي. لعل الجدير بالذكر أن هذه الصدوع والحركات التكوينية الهائلة، قد تصبح بعد حين من الزمن مركزاً للزلازل، حيث يتسبب الضغط المستمر لسلاسل جبال زاجروس في إيران، في حدوث العديد من الزلازل الضعيفة نسبياً، ويمكن أن تؤدي الحركات الكبيرة الطارئة على امتداد الصدوع الخطية العمودية إلى حدوث زلازل مدمرة. ويقع واحد من هذه الصدوع تحت (دبا) تحديداً، في الساحل الشرقي لدولة الإمارات العربية المتحدة. الزائر الأبيض سنوياً يختار الغيم العنيف قمم جبال الحجر، لينفض الثلج المكثف شتاءً عند انهيار الحرارة للصفر وما دونه، الزائر الأبيض الذي يحمل كسوة جبال الحجر يلمع تحت الشمس بعد انسحاب الأفق الرمادي، مستثيراً فينا هيبة وحيرة، لتنتعش براءة السؤال الوجودي من جديد (من أين أتى هذا الجبل؟ ثم أين يذهب خزان الثلوج؟ هل يتسرب إلى البحر؟ أم أنه يذوب بين ثقوب ومسام الصخور ليعود حياً من جديد في شكل مياه آبار القرية؟) سوف لن ننسى ذلك المشهد الذي يداعب جفاف الجبل ويصبر على ناره المستديمة، إنه عتبة الصبر نحو الصعود، كيما نصغي إلى حقيقتنا العلوية ونوغل في البحث عن المنبع، نربط خلف المراكب الراحلة تمائم الأمهات ونبوءاتهن، ونستثمر طلاسم الحكايات التي تفيض عبر الزمن، في تيه أزرق، مدججة نذر الوديان والمضيق، منسدلة بين الريح والأضرحة والكهوف ورائحة الأكفان الذائبة في الحجر. من أعالي قمم جبال الحجر، إلى الشعاب المرجانية تحت مياه الخليج، تتشكل زاوية النظر الفريدة، عابرة موال البحر وأعشابه وأخشابه، وتشابك غيوم الطريق بنتوء الجبل، ومغامرات الرعاة خلف مدرجات النخيل وبين الأخاديد، تتلون خيالات العطش والعرق والتعب، وتسافر الرغبة المجنونة في التنفس والهروب داخل التفاصيل المتصلة والمنفصلة في هذا الوجود الزمني المبهم، المنثور بحميمية النهار من خلف الصخور، بعدما جرفت به العواصف وهيكله موسم الطوفان وانتشلته حركة الصفائح من القاع العميق الهائج بالتيارات السوداء. يولد من دهشة الجبل تدريجياً منظر أبجدي للخرافة البديعة للحجر، وعلى مر الأزمنة يواصل الإنسان تكوّنه، محتمياً وحامياً وحالماً، مشكلاً إرثاً عريقاً متفرداً ومتأصلاً في الوجود. عيون الجبال ارتعد السهل الحصوي وتكتل من الرواسب، حين احتكّ جسد الرواسب بمياه الأمطار والسيول في الفترات المطيرة، انبثقت في الأرض أنهار كبيرة جرفت الجلاميد والحصى، ورسبتها أثناء مرورها على أرض السهل، في هيئة مراوح فيضية واسعة، ومع مرور الزمن حصلت حركة رفع وتهيّج صخري في السهل، أدت إلى تعمق مجاري الأنهار وتجدّل قنواتها وأوديتها الفيضية، وهي التي تظهر اليوم على شكل أودية جافة. معظم الجبال في الكتلة الوسطى والكتلة الشرقية ومرتفعات الشميلية، عنيفة التضاريس، بسبب تكوينها الصخري، فقيرة من الغطاء النباتي والتنوع البيولوجي، ولهذا فإن سكان البيئة الجبلية ينتشرون في السهول الحصوية والفيضية وعلى جوانب الأودية وفي السهول وحول عيون المياه العذبة، كقرية (العيينة) قرب مدينة دبا الفجيرة والتي سميت بذلك لاشتهارها بالعيون الطبيعية والمياه العذبة التي تروي قرى زراعية واقعة على خط القوافل التجارية القديمة، منها قرية الحلاة وقرية وادي العبادلة وقرية وادي سنا وقرية عشاصة، وينتهي طريق العيينة الجبلي إلى قرية طيبة. أدى وجود الغرين والطين المترسب أزمنة في السهل إلى خصوبة الأرض وانتشار الرقعة الزراعية ونشاط بدو الجبال في الخزف والفخار، وساعد ذلك توافر المياه الجوفية التي تتغذى من المياه القادمة من الجبال ومن مياه الأمطار الهاطلة، ما جعل السهل الحصوي في الإمارات من أهم مراكز المستوطنات البشرية والقرى القديمة لسكان الإمارات الأوائل، مثل مستوطنة موقع شمل الأثري ووادي حقيل في إمارة رأس الخيمة، حيث خلّف الإنسان وراءه مواقع أثرية مهمة في دولة الإمارات منذ ما يقارب 6 آلاف إلى 7 آلاف سنة قبل الميلاد، حسب معثورات البعثة الألمانية، والتي أكدت أن تلك الفخاريات والأفران تعد من أقدم الآثار في منطقة الخليج العربي. إضافة إلى مكتشفات موقع مليحة الأثري في الشارقة، والتي تقع في سهل داخلي مباشر غرب السلاسل المنخفضة من جبال الحجر، والتي يتخلل مرتفعاتها وديان صغيرة ضيقة عُثر فيها على أدوات صوانية ورؤوس سهام تعود إلى العصور الحجرية القديمة، ولا يمكننا أن نذكر جبل حفيت في العين دون أن نشير إلى المدافن الأثرية التي ترجع إلى العصر البرونزي، أي ما قبل 5000 سنة ق.م، حيث تم العثور في المنحدرات الشمالية والشرقية لجبل حفيت على أكثر من 500 قبر بجدران دائرية يرجع تاريخها لفترة حفيت، يتكون كل مدفن من حجرة دائرية منفردة مبنية من الحجارة غير المصقولة، تخترق الحائط فتحة ضيقة تكون عادة مواجهة للشمس، مما يثير السؤال الذي ظل من دون إجابة بحثية جادة، هل لذلك علاقة بعبادة الشمس التي كانت شائعة في بلاد الرافدين وسبأ اليمن؟ الحياة في المناطق الجبلية أقرب لحياة الريف، مستقرة نسبياً بالنشاط الزراعي الغنائي، يزرعون الحبوب والحنطة والشعير والذرة والدخن بالأغاني، على السفوح أو في باطن الأودية بين الجبال، وتسمى القطع الزراعية «وعوب» - جمع وعب، وهو المزرعة. اعتمد النشاط على الأمطار والدعاء، حيث من الصعب في ذلك الزمن حفر آبار الماء في المناطق الجبلية الوعرة الصلدة دون زاد الدعاء وبراءة السؤال فيه. ثم تأتي مواسم الحصاد وتضج الجبال بنداءات الحجريين على بعضهم طلباً للعون (الفزعة)، وهي المساعدة والتعاون في الحصاد، وأيضاً في الحرث أو الزرع الذي تتخلله الأناشيد والتلبيات المنتشية بالعزّة والرجولة. الجبال المنعزلة كجبل حفيت والبحايص والفاية وجبل مليحة، امتلكت مقومات الحياة كاملة في الزمن القديم، ولكن مع تغير المناخ في الجزيرة العربية منذ مئات السنين والجفاف العارم الذي افترس الأخضر والينابيع، لم يبق للاستيطان البشري أي وجود فيها. فعن مليحة وحدها يمكننا الإشارة إلى «ينبوع المياه الأثري» الذي تشكّل بفعل مياه الأمطار الرعدية منذ آلاف السنوات، إذ تشير الدراسات الجيولوجية إلى أن الينبوع تشكّل بفعل السيول التي فاضت من أعلى جبال الحجر على سهول مليحة العشبية، ودلّت المكتشفات الآثارية في جبال الفاية على (كهف الفاية)، التحفة الفنية الطبيعية الذي عثر بداخله على أدوات تعود إلى العصر الحجري، مما دلّ على براعة الإنسان القديم في الإمارات في استغلال الطبيعة كملجأ للعيش والاحتماء والعزلة. أزمة المياه في الحجر هذه الجبال من أهم المعالم الطبوغرافية في الإمارات، ثمة ارتباط كبير بين الأمطار والجبال متمثلاً في نوع يسمى بـ «الأمطار المرتبطة بالجبال»، وتسقط نتيجة حركة الكتل الهوائية (السحب أو الغيوم) بواسطة الرياح واصطدامها بالمرتفعات الجبلية، ما يسبب سقوطها على شكل أمطار. عند سقوط الأمطار على المرتفعات الجبلية، تتحرك المياه من أعلى قمم الجبال إلى سفوحها، ومن ثم تتخذ طريقها إلى الوديان، ما يؤدي إلى ارتفاع منسوب المياه الجوفية في هذه المناطق، ولذلك تعتبر الزراعة من أهم المهن الرئيسة في المناطق الجبلية لتوافر مياه الري، وتتميز المياه الجوفية المتدفقة في الجداول بحلاوتها وعذوبتها، لقربها من مصادر التغذية الرئيسة للراعي الحجري وقطعانه وللمزارع وحقوله. يأتي الصيف، وتتناقص كميات المياه في آبار الحجريين وفي الجداول المائية الموسمية المؤقتة المتكونة بفعل أمطار الشتاء وذوبان الثلوج على القمم. لتفادي عواقب الماء الشحيح، كان الحجريون ينتقلون إلى منطقة قريبة من القرية، حيث يحق لهم الاستفادة من المياه، وعلى هذه البقعة من الأرض يشيدون مخيماتهم الجديدة الصيفية، وفيها أيضاً تقضي قطعانهم مدة زمنية تبلغ أربعة أشهر، من يونيو إلى سبتمبر. لقد كان الهمّ الأول للراعي الحجري في الصيف هو ضمان نجاة القطعان من قسوة القيظ، لذا على حسب اتفاق مسبق مع أهالي القرية من الملاك والبيادر، يبقي الراعي قطعانه بعيداً عن مزارع وحقول القرية، وبهذا يتمكن من سقاية قطعانه في المخيم عن طريق نقل الماء من القرية إلى المخيم بسيارات النقل الحديثة (بعد أن كان الراعي القديم يستخدم قرباً من الجلد)، وحفظ مقدار كاف منه في خزانات المياه الخاصة بالمخيم.. يتبع. ----------------- * للمزيد عن سيرة نشوء جبال الحجر والسهل الحصوي، يرجى زيارة متحف (كهف الهوتة) في سلطنة عُمان بولاية الحمراء في المنطقة الداخلية، والتعرف إلى القراءة الزمنية لأشكال صخور إقليم الحجر المتكونة منذ ملايين السنين. ويمكن مطالعة كتاب خالد المنصور عن نشأة الجبال في الإمارات، الجغرافيا والمناخ في الإمارات، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة/ دار الكتب الوطنية، أبوظبي 2015. ** الأطلس البيئي لإمارة أبوظبي/ المنشأ الأول للجبال. *** ندوة «جبال الإمارات.. سكانها والتراث العمراني وموارد المياه والتنوع البيولوجي»، التي نظمتها جمعية الشحوح للتراث الوطني، بمشاركة د. أحمد مراد وكيل كلية العلوم في جامعة الإمارات، ود. سليمان عابد الكعبي الأستاذ في جامعة الإمارات، ومحمد علي عبدالله الشحي الباحث في آثار وتراث الإمارات.   جغرافية الحجر منطقة الحجر (الحير) في دولة الإمارات جزء من إقليم جغرافي جاف أكبر، يُعرف بـ (جبال الحجر)، وهو إقليم يتكون من سلسلة جبال تبلغ مساحتها حوالي 35,000 كيلو متر مربع، من الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وتمتد مرتفعات الحجر من المنحدرات الصخرية الشاهقة في مضيق هرمز، في الشمال الشرقي، إلى رأس الحدّ، في جنوب شرق سلطنة عُمان. كما أن مرتفعات الجبل الأخضر التي يصل ارتفاعها إلى أكثر من 3000 متر، تقسم تلك السلسلة الجبلية إلى قسمين، يسمى أحدهما بـ (الحجر الشرقي) والآخر بـ (الحجر الغربي). وأغلب سلسلة جبال الحجر الغربية منها والشرقية، تقع في سلطنة عُمان. ما عدا الجزء الواقع في دولة الإمارات حوالي عُشر مساحة الدولة. وتقع لكل إمارة من إمارات الدولة حصة من أرضها وسكانها في إقليم جبال الحجر. أما جبال الحجر في الإمارات، فتنقسم إلى مرتفعات رؤوس الجبال في رأس الخيمة، والمرتفعات الوسطى ومرتفعات الشميلية والجبال المنعزلة «المنفصلة»، ترتفع جبال الحجر في الإمارات إلى أعلى قمة، ألا وهي قمة جبل جيس، ويطل على منطقة غليلة في القطاع الشمالي من مدينة رأس الخيمة.   تضاريس عنيفة معظم الجبال في الكتلة الوسطى والكتلة الشرقية ومرتفعات الشميلية، عنيفة التضاريس، بسبب تكوينها الصخري، فقيرة من الغطاء النباتي والتنوع البيولوجي، ولهذا فإن سكان البيئة الجبلية ينتشرون في السهول الحصوية والفيضية، وعلى جوانب الأودية، وفي السهول، وحول عيون المياه العذبة، كقرية (العيينة) قرب مدينة دبا الفجيرة والتي سميت بذلك لاشتهارها بالعيون الطبيعية والمياه العذبة التي تروي قرى زراعية واقعة على خط القوافل التجارية القديمة، منها قرية الحلاة وقرية وادي العبادلة وقرية وادي سنا وقرية عشاصة، وينتهي طريق العيينة الجبلي إلى قرية طيبة.   مهد أرضي المقابر التي تملأ السفح والوادي مهد أرضي تتحقق فيه الراحة والسكينة، ووجود القبر في الكهف يضاعف من ذلك الأمان المقدّس، إذ يضفي طابع الخلود على الأموات – (لا يسقط من أعضائهم ولا من شعورهم شيء) – مثلما حُكي في متخيل إقليم الحجر. أن تموت داخل حجر، ما أجمله من موت داخل حياة ! الموت في الكهوف حياة أخرى بين الموت والحياة، حالة ثالثة ليست عدماً ولا وجوداً ولا برزخاً، حياة تجري لمسافات لا تنتهي، في عراء طويل لبياض الكهف، حياة غامضة مثل الخيط الغامض الذي يبشر بالفجر، أو حياة الريح في الحجاب الشفاف الذي يزداد كثافة ويغطي العالم بالبياض.   وعوب وفزعة على السفوح أو في باطن الأودية بين الجبال، يزرعون الحبوب والحنطة والشعير والذرة والدخن، وتسمى القطع الزراعية «وعوب»، جمع وعب، وهو المزرعة. ثم تأتي مواسم الحصاد وتضج الجبال بنداءات الحجريين على بعضهم طلباً للعون (الفزعة)، وهي المساعدة والتعاون في الحصاد، وأيضاً في الحرث أو الزرع الذي تتخلله الأناشيد والتلبيات المنتشية بالعزّة والرجولة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©