السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القيامة البيولوجية

القيامة البيولوجية
15 أغسطس 2017 21:41
كان الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك من أهم من أثاروا الانتباه إلى موضوعة مصير الإنسان في ظل الثورة البيوتكنولوجية، وذلك في محاضرته: «قواعد من أجل الحظيرة البشرية» التي ألقاها في يوليو سنة 1999 في أحد الاحتفالات المخصصة لفلسفة هيدغر، وكرد على الرسالة الشهيرة التي كتبها هذا الأخير: رسالة في النزعة الإنسانية، ليؤكد أنه من اللازم اليوم أن تتضافر كل جهود العلم والتكنولوجيا من أجل ضمان استمرارية الكائن البشري في المستقبل، عن طريق اعتماد ما توفره هذه التكنولوجيات وبالخصوص الهندسة الجينية. وهي العلوم التي يتجاهل هابرماس أهميتها وقدرتها على تحسين الوضع البشري مستقبلاً. هذا الموقف سرعان ما أثار حفيظة المثقفين في أوروبا بأجمعها وأصبحت المسألة بمثابة فضيحة فكرية اصطلح عليها بـ«قضية سلوتردايك - l’affaire Sloterdijk». أما في كتابه: «تدجين الوجود» فحاول سلوتردايك تسليط المزيد من الضوء على الأطروحة التي عرضها في مقاله السابق بطريقة فلسفية أعمق، وهو الموقف الذي جعل هابرماس يتدخل من أجل الدفاع عن حصن الإنسانية، حيث رفض بشكل قاطع موقف سلوتردايك الذي يبدو كما لو أنه يعود بنا في نظره إلى النازية، التي انتهجت سياسة تطهيرية من أجل انتقاء العرق الأفضل، وتحسينه بوساطة الرياضة والتغذية الجيدة والتناسل المتحكم فيه L’eugénisme. ------------ يدافع هابرماس منذ مقاله الشهير: «الحداثة مشروع لم ينتهِ» والذي طوره في كتابه: «الخطاب الفلسفي للحداثة» عن المشروع الأنواري وعن مثله الشهيرة: الإنسان، العقل، الحقيقة. في نظر هابرماس هذه المثل لم تنتهِ بعد، وإذا كانت اليوم تعيش أزمة فذلك بسبب كوننا لم نستكمل المشروع الأنواري بعد. هذا معناه أن الأزمة الحضارية التي نعيشها ليست بسبب الأنوار ذاتها، بل بسبب الانحراف الذي عرفه التاريخ المعاصر عن مثلها الجليلة. هل نحن مع ما بعد الإنسانية أمام نازية خفية تستهدف خلق عرق متفوق، الإنسان الأعلى كما كان يسميه نيتشه أو السيبورغ بلغة ما بعد الإنسانية؟ هل نحن أمام فكر جامح خضع من دون شروط لإغراءات التكنولوجيا، أم أننا أمام فكر تقليدي يعيش اندحاره أمام الوعود التي توفرها لنا البيوتكنولوجيا؟ ألا يمكن أن يكون موقف هابرماس موقفاً محافظاً وهو يدافع عن القلعة الأخيرة للنزعة الإنسانية البائدة؟ كيف يمكن إذن الدفاع عن النزعة الإنسانية بعد موت الإنسان؟ هل سيكون مستقبل الإنسان هو ما بعد الإنسان؟ الغرابة والخوف في كتابه تدجين الوجود (1) يؤكد سلوتردايك أن الفلسفة تأسست منذ ظهورها مع اليونان على مواجهة واضحة للفكر العادي، فالحقيقة الفلسفية تختلف عن الحقيقة المتداولة لدى عامة الناس، وقد تأكد هذا الموقف على سبيل المثال لا الحصر مع هوسرل من خلال فكرة (الإبوخي - l’épochè)، أي تعليق الحكم، كموقف ذهني يجب أن يتخذه الإنسان كي يفتح عينيه جيداً على العالم. إن كل هذا معناه أن عملية التفكير عليها دوماً أن تتخلص من الأحكام المسبقة والتمثلات الشائعة والتصورات السائدة عن الموضوع المراد بحثه، بل إن الفلسفة في نظر سلوتردايك تتعارض مع «القواعد الخطابية» المتداولة، عكس ما يدافع عنه هابرماس الذي يرى أن الحقيقة ما هي إلا فضيلة الحوار. إن الخطاب في نظر سلوتردايك دائماً يظل ممارسة عادية للفكر، بينما الفلسفة تجسد «حالة الاستثناء» التي يمكن أن يبلغها الفكر البشري. يعود بنا هنا سلوتردايك إلى تعريف جوهر التفكير الفلسفي، باعتباره فكراً قائماً على المغامرة والمخاطرة وليس على البحث عن التسويات والمهادنة. ارتباطاً بما سبق يقدم سلوتردايك تأويلاً وفهماً خاصاً لهيدغر. إن الدرس الأساسي الذي يمكن أن نتعلمه من هذا الأخير هو أن الفلسفة ما هي إلا بحث عن الحقيقة المستعصية، سواء على الإدراك ولا سواء على القول. قد يكون سلوتردايك على حق في هذه النقطة على الأقل، ما دام أن هيدغر فضل الخروج من دائرة الميتافيزيقا المغلقة، التي حاولت دائماً أن تقدم لنا حقيقة قابلة للتمثل والتحديد، نحو الشعر كأفق رحب ليس فقط للتعبير، بل أيضاً لطرح ممكنات فكرية لم تستطع الميتافيزيقا الإحاطة بها. يؤكد سلوتردايك إذن أن الوصول إلى حالات النشوة والانخطاف والتوثب الفكري L’extase هو ما يشكل جوهر التفكير الفلسفي، باعتباره تفكيراً تحدد منذ اليونان كدهشة إزاء العالم. إن عمل هيدغر ما هو إلا محاولة: «لتحديث هذه الدهشة بتوجيهها في اتجاه الغرابة والخوف»، ولكن على عكس هيدغر الذي ربما اعتقد أن الإحساس بمثل هكذا غرابة، ربما هو ما ميز التفكير الفلسفي اليوناني وبالخصوص الماقبل سقراطي، فإنه في نظر سلوتردايك يمكن القول إن الإنسان المعاصر جرب هذا الشعور في مجالات أخرى، مثل الحربين العالميتين والقنابل النووية والهولوكوست والتكنولوجيات البيولوجية، كل هذا وضعنا مباشرة رهينين للغرابة والخوف. إن ما نعيشه اليوم في نظر الكاتب هو تدخل مباشر من الإنسان على الإنسان من أجل تحديد طبيعته البيولوجية، وهذا هو ما يطلق عليه (الأنثروبوتقنية - L’anthropotechnique)، أي نظرية حول الإنسان منبثقة من التطبيقات البيوتكنولوجية. إن «القيامة البيولوجية»- كما يسميها سلوتردايك - التي نعيشها اليوم، ستفرض على الإنسان ضرورة تطوير ذاته بالاستفادة من التقنيات التي توفرها الهندسة الجينية والثورة البيولوجية، وبعيداً عن الأخلاق الجماعية المألوفة، يمكن للأجيال القادمة أن تقرر مصيرها وشروط وجودها التي ستتحدد منذ الآن هنا على هذه الأرض، فالإنسان إذا ما أراد أن ينقذ نفسه عليه أن يعمل على الخروج من محيطه الطبيعي أو ما يطلق عليه سلوتردايك «القفص الأنطولوجي»، ذلك أن الحضارة البشرية برمتها ما هي إلا حظائر أقيمت عبر التاريخ لتدجين الكائن البشري. هل يقودنا هذا الموقف كما يقول هابرماس إلى السقوط في الطروحات النازية البائدة، بضرورة تحسين النوع البشري عبر الاصطفاء البيولوجي؟ وإذا كان لا مفر من أن يتجاوز الإنسان ذاته عبر البيوتكنولوجيا، فأية نزعة إنسانية هذه يمكن قيامها بعد نهاية الإنسان؟ أخلاقية جديدة يعترف هابرماس أن الثورة الجينية التي نعيش نتائجها اليوم، قد قلبت مجمل المفاهيم الأخلاقية التي كنا نعرفها عن أنفسنا، وهو يتساءل: «هل علينا ببساطة أن نفهم أنفسنا بوصفنا كائنات معيارية؟». إن معنى هذا السؤال هو أن الإنسان قد اعتاد دوماً ليس فقط في الفلسفة، بل أيضاً في الدين وفي باقي التعبيرات الثقافية النظر إلى نفسه باعتباره قيمة مطلقة، تستوجب من الآخرين احترامه كشخص يمتلك قيمة في ذاته، والحال أن العلوم البيولوجية الجديدة تجبرنا اليوم على النظر إلى أنفسنا كمجرد مواضيع مادية معطاة في عالم الطبيعة الخارجي، مع ذلك يصر هابرماس كأنواري جديد، على أن الفلسفة ما زالت تملك أحقية القول في هذا الموضوع، وعليها أن لا تخلي السبيل للعلوم كي تحدد مصير الإنسان لوحدها، كما أنه يقلل من حجم هؤلاء المثقفين، الذين يدعون إلى الاستفادة من الإمكانات التي توفرها الهندسة البيولوجية لتطوير الإنسان، ناعتاً إياهم باعتبارهم: «حفنة من المثقفين المهووسين يسعون متكهنين بوساطة ثفل القهوة إلى تأليه ما بعد الإنسانية» (ص 31). بالنسبة لهابرماس لا يمكن ترك العلوم البيولوجية لوحدها في الميدان، بل ينبغي إخضاعها للنقاش العمومي، ما دام أن نتائجها تمس القواعد الأخلاقية للمجتمع، تلكم القواعد التي وجب أن تكون ناتجة عن اتفاقية العقل التواصلي، وبالتالي فهو يرفض أن تنال البيولوجيا من الصورة العادية التي كونها الإنسان عن نفسه. إن الأخلاق الجديدة المجهولة تطالبنا باستبدال صورة بصورة أخرى، وهذا غير ممكن. نعلم جميعاً أن النظام الاقتصادي الليبرالي مندفع بحماس كبير اتجاه هذا الموضوع، لأنه يشكل بالنسبة له سوقاً كبيراً للتعاملات الاقتصادية، غير أن هذه الليبرالية المتطرفة L’ultralibéral قد تنطوي على نتائج خطيرة فيما يتعلق بالانتقاء الاجتماعي، الذي سيؤدي إلى خلق شريحة من المتفوقين الذين يمتلكون قدرات خارقة لا نجدها عند الكل. تساؤلات لماذا التخوف إذن من هذه الثورة الجديدة والوقوف ضدها، ألا يمكن أن يكون هكذا موقف، رجعياً ومعادياً للفضائل التي يعدنا بها التقدم العلمي؟ ألا يمكن أن نقول إننا مع ما بعد الإنسانية أمام إنسانية موسعة، إنسانية جديدة تعيش فجر ولادتها مع هذه الثورات التكنولوجية الحاسمة؟ أكيد أننا أمام متاهة كونية تثير رعبنا، وقد لا يتمكن فكرنا العادي من استيعاب وتقبل اكتشافاتها الباهرة والمخيفة في الآن ذاته. ثمة حتمية تاريخية تقودنا اليوم نحو (المفردة - La singularité) كما يسميها تيار ما بعد الإنسانية. من هذا الذي سيعارض اليوم الاستفادة مما تقدمه البيوتكنولوجيا من أجل التغلب على مرض الزهايمر أو السرطان أو أمراض الدماغ والشيخوخة. من سيرفض إطالة مدة حياته والعيش بصحة جيدة. كلنا نعلم كيف تمت معارضة أطفال الأنابيب، والأرحام المستأجرة وبنوك الحيوانات المنوية، غير أنها اليوم باتت عادية جداً ولا تثير حفيظة أحد. العديد من الكوارث التي تهدد الإنسان اليوم، سواء نتيجة التدهور البيئي أو نتيجة الأخطار الفلكية التي يمكنها أن تلحق خسائر فادحة بالجنس البشري، كما أن هناك مخاطر أخرى جادة يوجهها لنا الذكاء الصناعي، الذي يتقدم باستمرار مهدداً الذكاء البشري للإطاحة به من عرشه. كل هذا يدعو الإنسان اليوم، في هذا المنعطف الشائك للألفية الثالثة إلى ضرورة القيام باختيارات صعبة وعسيرة. تقودنا أطروحات سلوتردايك إلى التأكيد أنه على أنقاض النزعات الإنسانية التقليدية، التي على ما يبدو قد فشلت عبر التاريخ في أنسنة الإنسان، من الواجب علينا اليوم التفكير في طرق الأنسنة الجديدة التي تقترحها علينا تقنيات البيوتكنولوجيا. نحن نعيش حالياً ما بين أرض قديمة وسماء جديدة، وعلينا أن نستميت في البقاء كي نكون حاضرين عندما تشرق الشمس غداً.   حفنة من المهووسين العلوم البيولوجية الجديدة تجبرنا اليوم على النظر إلى أنفسنا كمجرد مواضيع مادية معطاة في عالم الطبيعة الخارجي. مع ذلك يصر هابرماز كأنواري جديد، على أن الفلسفة ما زالت تملك أحقية القول في هذا الموضوع، وعليها أن لا تخلي السبيل للعلوم كي تحدد مصير الإنسان لوحدها. كما أنه يقلل من حجم هؤلاء المثقفين، الذين يدعون إلى الاستفادة من الإمكانات التي توفرها الهندسة البيولوجية لتطوير الإنسان ناعتا إياهم باعتبارهم:«حفنة من المثقفين المهووسين يسعون متكهنين بوساطة ثفل القهوة إلى تأليه ما بعد الإنسانية». ليبرالية متطرفة يرفض هابرماس أن تنال البيولوجيا من الصورة العادية التي كونها الإنسان عن نفسه. إن الأخلاق الجديدة المجهولة تطالبنا باستبدال صورة بصورة أخرى وهذا غير ممكن. نعلم جميعا أن النظام الاقتصادي الليبرالي مندفع بحماس كبير اتجاه هذا الموضوع، لأنه يشكل بالنسبة له سوقا كبيرة للتعاملات الاقتصادية، غير أن هذه الليبرالية المتطرفة L’ultralibéral قد تنطوي على نتائج خطيرة فيما يتعلق بالانتقاء الاجتماعي، الذي سيؤدي إلى خلق شريحة من المتفوقين الذين يمتلكون قدرات خارقة لا نجدها عند الكل. -------------- الهوامش 1- LA domestication de l’être traduction de Olivier Mannoni ED mille et une nuits_ Peter Sloterdijk 2- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانية، نحو نسالة ليبرالية. ترجمة جورج كتورة. المكتبة الشرقية، الطبعة الأولى 2006
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©