الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دروس في الوفاء

دروس في الوفاء
29 مايو 2014 20:36
خالي رجل طيب إلى أقصى حد ممكن أن يوصف به إنسان في هذا الزمان، يحب الناس، متصالح مع نفسه، يتفانى في مساعدة الآخرين، شخصية نادرة الوجود ومع بساطته، يمتلك قدرات فائقة على كسب حب من حوله، أنا شخصيا انبهرت به منذ نعومة أظفاري، وقد افتقدته منذ أن غادر للعمل في مدينة تبعد عنا مئات الكيلو مترات، ولظروف عمله واستقراره هناك مع أسرته، أصبحنا لا نلتقي إلا قليلا، أنا لا أستطيع الذهاب إليه، وهو يزورنا على فترات متباعدة، وعندما يأتي في كل مرة يكون محملا بالهدايا لنا جميعا وخاصة لأمي، حيث كان أقرب إخوتها لنفسها وأكثرهم ارتباطا بها، وأيضا الأكثر حرصا على مودتها والاطمئنان عليها، ولذلك كانت تستقبله بدموع الفرح، وتودعه بدموع الألم. ميزة كبرى كان خالي يضرب دائما على الأوتار الحساسة في النفوس، مثلا وأنا صبي صغير يشتري لي الحلوى التي عرف باستشعاره أنني أحبها، ويأتيني بعلب الألوان والقصص والأقلام مختلفة الأنواع، كنت أتباهى بذلك بين أقراني، وأعتبره ميزة كبرى لي أفتخر به وبها، وهذا كله جعلني أرتبط به ويكون بيننا شيء خفي قد لا أستطيع وصفه، لكن مازالت المشكلة قائمة في عدم التلاقي باستمرار، فقد تكون هناك قطيعة غير متعمدة يمكن أن تستمر لعامين أو أكثر، وربما يأتي خالي أحيانا في زيارات خاطفة وسريعة، إما لتقديم التهاني في حالات الأفراح والمناسبات السعيدة، أو لتقديم التعازي في حالات الوفاة، وقد كان حريصا على ذلك أشد الحرص، مهما كانت انشغالاته وظروفه فإنه يتغلب عليها ولا يقصر في هذه الواجبات العائلية، بل إنه كثيرا ما يقطع تلك المسافات الطويلة ليزور مريضا أو يواسي شخصا تعرض لأزمة أو مكروه. وكما قال ربنا، الطيبون للطيبات والطيبات للطيبين، هكذا كانت زوجة خالي فعلا، امرأة طيبة، كان كل منهما هدية من الله للآخر، توافق واتفاق، أسرة متحابة، رزقها الله بخمسة من البنين والبنات، حضروا مرة في زيارة جماعية لنا، احتفينا بهم، كان أجمل أسبوع في حياتي، الإبن الأكبر لخالي يكبرني بسبع سنوات، علمني كيف أضبط رابطة العنق، وعلمني أسس لعبة الشطرنج، وأهداني رقعة حديثة من الخشب، لم يكن لأحد من أصدقائي مثلها، يأتون كلهم ليشاركونني اللعب والتنافس بها، وتواصل زوجة خالي هي الأخرى التعامل معنا بنفس الأسلوب فتأتيني بهدايا كنت أعشقها أهمها كرة القدم، وكرات التنس التي كانت في ذاك الزمن شيئا غريبا وعجيبا علينا، أما بنات خالي فقد كن صغيرات، وهن ثلاث تقضين النهار في اللعب مع أخواتي، تردن التعرف على حياة الريف التي يفتقدنها في المدينة، فهنا عندنا في القرية الأجواء مفتوحة، وكلنا نعرف بعضنا، تربطنا صلات القرابة والمصاهرة، ونقيم حول أرضنا الزراعية، وأحلى الأوقات تحت الأشجار الظليلة في الظهيرة، وقد كانت هذه هي المرة الوحيدة والأخيرة التي زارتنا فيها أسرة خالي بشكل جماعي، ومع المزيد من انشغالات الجميع، سواء في الدراسة أو العمل تباعدت أكثر فترات الزيارة، ولم يعد خالي نفسه يأتي كما كان يفعل في الماضي، ليس من باب التقصير ولا التراجع عما اعتاد عليه، وإنما ظروف الحياة وأحكام السن. استقبال حافل انتهيت من الدراسة الجامعية وحصلت على مؤهل عال، يومها كان احتفالا كبيرا ومناسبة عزيزة على نفوس الجميع من أفراد عائلتنا، كلهم كانوا ينتظرون هذا اليوم، وإن كان خالي غائبا عنا بجسده فقد كان حاضرا باتصالاته فقد حرص على الاتصال بأبي وأمي وبي ليقدم لنا التهاني، كانت كلماته رقيقة ساحرة كعادته، جعل دموع أمي تسيل لأنها افتقدته ولم تره منذ ثلاث سنوات، لذلك فقد أنهى اتصاله بدعوتنا لزيارته وقضاء عدة أيام عنده، وشدد على ضرورة التعجيل بهذه الزيارة لأنه اشتاق إلينا كثيرا، وبالفعل تشجعت أمي وقررت أن تكسر الحواجز وتخرج من القرية التي لم تبرحها في حياتها إلا إلى المدينة القريبة للتردد على طبيب أو لأمر غاية في الأهمية كما كانت المرة الأولى التي ترى فيها القطار، كانت تراه في التلفاز لكن الواقع مختلف وظهر عليها الخوف من هذا المخلوق العجيب، ترددت وهي تضع قدمها بداخله، كنت أنا وهي وحدنا نحمل بعض خيرات الريف إلى أسرة خالي. وكان الاستقبال حافلا، وكالعادة بالدموع خاصة من جانب أمي ولم يعد هذا شيئا مستغربا، ولم نتأثر به لأنه تعبير عن المشاعر الأخوية بينهما، أبناء وبنات خالي كبروا هم أيضا، خاصة ابنته الكبرى التي كانت تصغرني بأربع سنوات، وقد حصلت هذا العام على الثانوية العامة، وتستعد للالتحاق بالجامعة، كانت مثل أبيها وأمها، جمعت كل الصفات الطيبة والأخلاق والالتزام، لا أخفي أنني شعرت نحوها بأحاسيس وعواطف غير مسبوقة، وجدت فيها ما لم أجده في جميع الفتيات اللاتي عرفتهن وزاملتهن طوال حياتي، ربما كان هناك بيننا خيط رفيع خفي، كان من الطبيعي أن أخفي هذه المشاعر الوليدة الجديدة التي لم تنضج بعد، والأهم أنني لن أخرج عن قواعد الأدب الصارمة، ولن يكون هناك أي تصرف إلا بما يرتضيه الجميع، لكن الوقت غير مناسب على الإطلاق للحديث عن الزواج والارتباط، فهي مازال أمامها سنوات عدة في الدراسة الجامعية، وأنا لم أحصل على وظيفة بعد، ولا أدري في أي مكان يستقر بي المقام، لذلك لم يكن أمامي إلا الصمت وليكن لكل حادث حديث، وغادرنا أنا وأمي بعد أسبوع، وفي الحقيقة ما كنت أريد الرحيل، وكدت أن أقلد أمي وتسيل دموعي، لكنني تمكنت من السيطرة عليها، حاولت أن أتماسك كي لا تفضحني عيوني. المهمة الأساسية كانت المهمة الأولى والأساسية أمامي هي البحث عن عمل، وقد عانيت كثيرا وأنا أتنقل هنا وهناك بين الدواوين والشركات والمصالح، أحيانا يقابلونني بالاعتذار عن عدم وجود فرص عمل، وفي أحيان أخرى يعلقونني بالوعود والمواعيد، عامان كاملان وأنا على هذه الحال، لكن لم أفقد الأمل ولم أدع اليأس يتسرب إلى نفسي، حتى وفقني الله في العثور على وظيفة في شركة كبرى براتب جيد، في الواقع لم أكن أحلم به، وخلال ثلاثة أعوام اشتريت شقة وأصبح لي رصيد في البنك وتحسنت حالتنا المادية، ولم تكن أسرتي بحاجة إلى مساعدة مني، ودفعوني إلى الاهتمام بنفسي وبمستقبلي وأن أستعد للزواج. لم أكن في حيرة عندما أردت اختيار العروس، فمازالت مشاعري نحو ابنة خالي كما هي، وقد انتهت من دراستها منذ عام، وقد تقدم شاب لخطبتها لكن خالي رفض، وفي الحقيقة لا أعرف سبب الرفض، لكن تسربت معلومات أنه يرغب في تزويجها لي، لكنه ينتظر أن أتخذ الخطوة الأولى، ولهذا السبب ولما بين الأسرتين من ارتباط وثيق، كانت الأمور ميسرة، همست في أذن أمي برغبتي في الارتباط فكانت سعادتها كبيرة، وازدادت أكثر عندما صارحتها بأن العروس ستكون ابنة خالي، ولم يكن هناك داع لكثير من المقدمات، وكذلك لا وجود لأي معوقات، وشددنا الرحال إليهم، في الرحلة الثانية والأهم لطلب يدها رسمياً، وعلى خلاف ما يحدث عند أي خطبة، لم تكن هناك شروط لأي من الأسرتين، ولا حديث عن أي شيء من الناحية المالية، وبعدها انطلقت قدماي أزورهم كل شهر أو يزيد قليلا حسب ظروف العمل، وكانت أجمل وأسعد أيام حياتي على الإطلاق. بعد عام انتهيت من إعداد عش الزوجية، وتم تحديد موعد الزفاف، أسهم كل منا بما يريد برغبته، وانتقلنا إلى بيتنا الذي كان يقع في مدينة ثالثة، بخلاف قريتي التي نشأت فيها، والمدينة التي كان يقيم فيها خالي ونشأت فيها ابنته، كنت في حلم لا أريد أن أستيقظ منه، فزوجتي هادئة الطباع، قليلة الكلام، بلا مطالب أو احتياجات، لكنها فقط منطوية على نفسها، أعتبر نفسي محظوظا ولا أتحدث عن صفاتها تلك مع زملائي في العمل الذين لا يكفون عن الحديث حول زوجاتهم، فهذا يشكو من لسان زوجته ويشبهه بالمذياع الذي لا يتوقف عن الكلام، وكثيرا ما يكون فيما لا يفيد، وذاك أصابه الملل واليأس من كثرة مطالب زوجته التي لا تكف عنها ولا تقدر ظروفه المادية، وثالث ضاق بزوجته من إهمالها في نفسها، وهكذا نماذج لا حصر لها من حولي، لذا كدت أن أحسد نفسي على ما أنا فيه من نعم، فأشكر ربي وأدعوه أن يديم عليّ كل ذلك. المنح الإلهية لم تتوقف المنح الإلهية، وأنا أترقى في عملي وأسير فيه من نجاح إلى نجاح، ومعه يزداد راتبي وتتحسن حياتي المعيشية، وتأتيني الهبة الكبرى، بعد أن رزقني الله بطفلة جميلة، ظهر عليها هدوء أمها منذ أيامها الأولى، فليست كثيرة البكاء مثل الصغار، لكن مع مرور الأيام لم تكن تلك ميزة، بل اكشفنا أنها تعاني من مرض عقلي وتأكد ذلك من خلال الفحوص والأشعات ومن أكثر من طبيب، والسبب هو زواج الأقارب، وارتضيت بذلك وصبرت على أن يكون القادم خيرا، وتكرر الحمل ولم تفارقني المخاوف، بل الرعب من أن يكون الطفل الثاني بنفس الظروف، وبالفعل كانت فتاة وجاءت مثل أختها، واضطرت زوجتي التي كانت تعمل معلمة لأن تترك عملها لتراعي الصغيرتين. معاناتي أنا وزوجتي لا توصف، ونحن نرى الطفلتين تكبران، وتظهر عليهما علامات “التخلف” العقلي أكثر، أخشى عليهما من المستقبل، ولا أدري إلى أي مدى ستصل بنا هذه الأحوال، ووسط هذا كله يظهر معدن شريكه حياتي، فأجدها تطلب مني أن أتزوج كي أنجب طفلا سويا، وتلح في طلبها وهي تتعهد بأن تتحمل مسؤولية البنتين وتتفرغ لهما، وتتحدث بجدية بل وترشح لي عروسا من هنا وعروساً من هناك، تريد أن تثبت لي أنها راضية عما تفعل. لن أكون أقل وفاء من زوجتي، فأقسمت أنني لن أتزوج، ولن أترك أسرتي مهما كانت الظروف. نورا محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©