الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إعدام.. الثورة

15 مايو 2013 20:21
كثيراً ما تساءلت بيني وبين نفسي بعد الإطلاع على الأدب العراقي خلال السنوات الأخيرة: هل حقيقة أن العنف يشكل جزءاً من الشخصية العراقية؟ أم أنه كان طابع العقود الأخيرة من القرن العشرين التي عاشها تحت قبضة جهاز مخابراتي وبوليسي قمعي؟، وهذا السؤال ألح عليّ في السنوات الأخيرة، نظراً لتكرار مشاهد العنف في الأعمال الروائية لعدد كبير من الكتاب العراقيين الذين عرفتهم عن قرب، وتربطني بهم صداقة طويلة، ولم ألمح فيهم هذه السمة، فالعنف على سبيل المثال يكاد يمتد بطول رواية «حدائق الرئيس» للروائي الدكتور محسن الرملي، الذي يتناول السنوات الأخيرة من عهد صدام حسين، ويتوقف بها في نهاية مفتوحة في زمن بعد الغزو الأميركي قبل عشر سنوات، من دون أن يبدو أن العنف سوف تكون له نهاية، بل هذا التوقف السردي المفاجئ ترك النهاية المفتوحة على فراغ سنوات قادمة لا يبدو لها نهاية حتى بعد سقوط نظام وبداية نظام جديد لا يبدو أن الناس في العراق لاحظوا في قيامه أي تحسن. وأيضا فإن العنف يمثل عصب رواية «مذكرات كلب عراقي» للكاتب عبد الهادي سعدون، الذي حاول التخفيف من العنف بالهروب من سرد أحداث العنف التي أحاطت بالشخصية الرئيسية، وانتهت به إلى موت فاجع، وكتابة هذا العمل الأدبي على لسان كلب عراقي أحب صاحبه وأحبه صاحبه إلى أن شهد نهايته لتضفي مزيدا من العنف، وكاد الكلب نفسه أن يسقط هو الآخر ضحية لعنف امتد حتى إلى الحيوانات في العراق، فكانت النتيجة أن الرواية سردت عنفاً أقسى وأكثر تدميراً مما سرده محسن الرملي في روايته «حدائق الرئيس». وأخيرا وقعت بين يدي رواية «دروب الفقدان» للكاتب العراقي المقيم في منفاه في لندن عبد الله صخي الصادرة عن دار المدى، وتقع في 287 صفحة، لتبدأ بجملة كافية لأن تشي أنها رواية عنيفة تسرد العنف وتجعله مركزها الذي تدور حوله: «في ذلك اليوم ذهب علي سلمان لمشاهدة تنفيذ أول عملية إعدام علنية في مدينة الثورة»، إنها صورة لا تحمل العنف فقط بل تحمل تناقضاً صارخاً، فعمليات الإعدامات تتم في مدينة «الثورة» المفترض أنها تمثل تنفيذ أجمل أحلام الإنسان لا سقوطه ونهايته، فالثورة هي الطريق إلى تنفيذ هذا الحلم، ولكنها تتحول تلك المدينة التي تحمل اسم «الثورة» إلى مكان لتنفيذ أحكام الإعدام، وفي من؟ في الفتى «الخوشي» الذي هو لقب في اللهجة الدارجة العراقية ينم عن الشجاعة الأخلاقية حين تتعانق مع القوة الجسدية، ومن سينفذ فيه حكم الإعدام علنا «نايف الساعدي» من يمثل هذا النموذج الذي يطمح إلى الوصول إليه أي فتى عراقي. المحكوم عليه بالإعدام هو ابن تلك الطبقة الفقيرة التي انتمى إليها، والتي ينتمي إليها غالبية الشعب العراقي، وحاول جهده أن يعمل على إنصافها وبشكل خاص بمواجهاته مع الحكومة عبر جهازها الشرطي، إذن التجمهر لمشاهدة عملية إعدامه ليست تشفياً منه ولكنها تشجيعاً له وتكريماً. وكأن هذا المشهد الأول يشي بالمصير الذي ينتظر بطل الرواية «علي سلمان» في مجتمع الكل يتكاتف فيه من أول رفاق المدرسـة إلى رفاق جلسة المقهى، ونساء الحي مثل شخصية أم إبراهيم» التي اعتقدت أن التجمع في الساحة يمكن أن ينقذ نايف الساعدي من الإعدام، مما يدفع إلى التـساؤل إن كان كل هؤلاء يتكاتفون في مواجهة سلطة القمع فمن أين جاء المخبرون الذين يمارسون القمع باسم السلطة؟ وهو سؤال مشروع كان على الكاتب أن يفكر فيه، وهو يصنع شخصياته، وأن يقدم لنا شخصيات تكشــف عن الجانب الآخــر في هذه المأساة. عندما يتقدم الروائي عبد الله صخي في روايته ينسى البطل مؤقتاً ليرسم لنا ملامح المجتمع الذي نشأ فيه البطل من خلال حديثه عن نايف الساعدي البطل الذي من المفترض أنه خرج من الرواية في أول سطر بتقديم مشهد إعدامه كأول مشهد يكشف عن ما نحن مقبلون عليه من قراءة: «كان نايف الساعدي أبناء جيل طلع من الغضار والأحراش والرماد، إنهم أحفاد رجال تحدروا من أزمنة القصب والأسماك والمياه والقمح والنخيل، هربوا من الاضطهاد والملاحقة وعبودية الأرض ومواسم الأرض التي تضاعف الخسائر والذل والديون». هذه الأرض التي نشأ فيها آباء وأجداد بطل الرواية وأبناء جيله، ومنهم «المعدم» نايف الساعدي، طردتهم بيئتها إلى أراضٍ أخرى بحثاً عن مستقبل أفضل، وأين يمكن أن يكون ذلك، يكون حسب الكاتب: «في بغداد... فسكنوا خاصرتها» إذن الهروب من مجتمع العدم إلى مجتمع عدم آخر ولا بارقة أمل في الخروج من الفقر والذل والديون، فتحولوا إلى «فتية متجهمين نزقين، طباعهم حادة كأسلحتهم، مستلبين مقموعين في البيت والمدرسة والشارع والمقهى والسوق». في هذا المناخ نشأ علي سلمان الذين يعيش مع أمه الفقيرة «مكية الحسن» التي تنام في فناء بيتها ملتحفة السماء، وماذا ننتظر منها غير ذلك، وشقيقته «مديحة سلمان» التي يبدو حظها ليس أحسن حالاً في الدنيا من حال أمها وشقيقها، وإن حاولت الهروب من تلك الحياة إلى ما هو أفضل فإذا بها تسقط في يد «حماتها» التي لا ترى فيها زوجة ابن بل مصدراً للمال حتى لو كان حراماً، وتدفع بها إلى السرقة فتهرب إلى بيت أمها بدلاً من الانزلاق. يرسم عبد الله صخي معالم الحياة في بغداد ما بعد عبدالكريم قاسم من خلال شخصيات لا تلقي سوى مزيداً من الظلال على حياة «علي سلمان»، وتجعلنا ننتظر ماذا يفعل للخروج من كل هذا، وهل ينجح في الهروب من مصير يبدو محتوماً، ولكن الإحباطات التي تتوالي على الشخصيات الأخرى تدفعنا إلى التفكير في مصيرين لا ثالث لهما لعلي سلمان بطل «دروب الفقدان»: أن ينجح في مسيرة حياته فيكون إضاءة لأمل ممكن في حياة مثل هذه أو تفجع فيه أمه ويلحق بمصير الآخرين الذين سبقوه. تأمل شخصيات الرواية الأخرى الفاعلة مثل «عبدالحسين»، زوج شقيقة علي سلمان الكبرى، يشتري سيارة قديمة من الكويت في كفاحه من أجل الخروج إلى عالم أفضل، لكنها سيارة تأخذ منه، إضافة إلى جهده وعرقه، القليل الذي يحصله من النقود من عمله كسائق أو أعمال أخرى فتكون نقمة عليه بدلا من أن تكون معينة له ولأهل بيته. حتى يخرج علي سلمان من مجتمعه الخانق اكتشف موهبته في الغناء، ووجد من يساعده على تطوير موهبته تلك، وفي الوقت ذاته عثر على «خالدية» طاقة الأمل التي انفتحت أمامه لتوقظ فيه مشاعر، مؤكداً أنه يملكها بحكم حبه للموسيقى وإحساس الفنان الذي يملكه، ولكن مسيرة الموسيقى لا تكتمل لأن المجتمع الذي يقطن العراق بشكل عام ومدينة الثورة بشكل خاص لا يسمح لمثل هذه الرفاهية، والحب يجد المصير نفسه بانتقال حبيبته خالدية إلى مكان مجهول، فيدفن علي سلمان موهبته وقلبه ويواصل عمله في مجال البناء المنهك على الرغم من صحته المعلولة، ولم يبق له من طريق أخير للخروج من تلك الحياة سوى الدراسة بعد معاناة العمل. وينجح في استكمال الدراسة ليدخل الثانوية استعداد للجامعة فيكتشف أنه مراقب من الحزب الحاكم الذي يمتلك مفاتيح نهاية الطريق إلى الجامعة، ويرسل بمندوبيه لإغراء الفقراء من الطلاب وشعارهم» «لا يوجد مستقل، إن لم تكن معنا فأنت ضدنا». حتى بعد الوصول إلى الجامعة ينتقل علي سلمان من إحباط إلى آخر، في الدراسة والعمل وفي الحب أيضاً، فلا يجد طريقاً للتعبير عن نفسه سوى بالغناء الذي بدأ يمثل دخلاً مادياً له بالغناء في الحفلات والأفراح التي تقام في مدينة دروبها لا تعرف الفرح الحقيقي، لأنها «دروب الفقدان»، ولكن حتى تلك الأفراح القليلة كانت كثيرة على أحلام فتى مثل علي سلمان، الذي اختفى ذات يوم ولم يعد لبيت أمه التي انتظرته وطال انتظارها حتى مرضت، ومن شدة شوقها تخيلته في «لحظة هاربة من لحظات الخيال الدامي، رفعت مكية الحسن رأسها عن الوسادة فرأت ابنها في ليلة زفافه ببدلة زرقاء وإلى جانبه زوجته بملابس بيض ومن خلفهما مئات الموسيقيين». لقد مضى علي سلمان في «دروب الفقدان»، ولم يترك من خلفه أثراً سوى التساؤلات حول ذلك المجتمع الذي لفه العنف منذ عقود، ويطالعنا كل يوم على شاشات التلفاز بمزيد من العنف والدماء، فنغفر للروائي عبد الله صخي رؤيته السوداوية، لأنه يعبر عن ما يرى، والواقع لا شيء سوى هذا العنف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©