الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القهوة.. غواية الاسم

القهوة.. غواية الاسم
18 مايو 2011 20:07
في كتاب جديد جاء تحت عنوان “غواية الاسم: سيرة القهوة وخطاب التحريم”، يتطرق الناقد والإعلامي السعودي الدكتور سعيد السريحي إلى سيرة القهوة: المشروب والمكان والدلالة والتاريخ وخطاب التحريم الديني. والكتاب يستعرض سيرة القهوة أولاً، بوصفها مفردة في لغتنا العربية من بين كثير من المفردات التي نستخدمها وتعيش معنا منذ آلاف السنوات دون أن نتوقف قليلا عند دلالاتها وتاريخها، إذ إن القهوة تحمل تأريخاً جدلياً مع الخطاب الديني وفي ثقافة الإنسان العربي، حيث كانت واحدة من أسماء الخمر ومشروباً دارت حوله الكثير من الجدالات حول التحريم والتحليل في الخطاب الديني، وهذا كله ما جعل البعض يتخذ موقفا من القهوة شبيهاً بموقفه من الخمر. كشأن دراسات الخطاب والتحليل النقدي، يتناول السريحي ما دار من روايات حول اكتشاف القهوة ونبتة البن والبلدان التي اشتهرت بها، ثم يتطرق إلى تجليات القهوة بدءاً من تلبس اسمها بالخمر وما وصفه الصوفيون من كرامات تتصل بها، وما يتصل بذلك من عوالم تبدو غريبة ومعلومات ربما يطول بنا الطريق ونحن نبحث عنها، مثل موقف الاحتجاج ضد تحريم القهوة ثم تعرض القهوة حين شاع شربها بين العامة من الناس في القرن العاشر الهجري إلى الاستهجان، وكيف أن ارتباطها بمجالس اللهو واللعب والشطرنج والغناء والرقص واجتماع النساء بالرجال كان يعيد للناس تلك الدلالة الأولى المرتبطة بالتحريم. يقول السريحي متأملا ًوفي فصل ظريف في فكرته ومخرجاته: “وإذا كان التحريم لم يحل دون احتفاء من لم يجدوا ضيراً في التغني بها على اعتبار التغني بها فناً من فنون الشعر وباباً من أبواب الولوج إلى بلاغة القول، فقد تعالت في ديوان الشعر العربي أصوات الخمريات وعرف بهاء شعراء أوشكوا أن يجعلوا شعرهم وقفاً عليها أو زاوجوا بينها وبين ما يدور في مجالسها من لهو وطرب وتغزل بالنساء وبالغلمان ...”، كما يتحدث عن عوالم أخرى كصفاء الذهن الذي رأى فيه المتصوفة مرادهم بالقهوة مثلاً. ويتوقف السريحي عند ما انتهى إليه أمر القهوة من التحريم قارئاً الحقول الدلالية للتصور الذي ربطها بالخمر سواء في (التسمية أو العادات المتبعة عند شربها)، وكذلك ما وصل إليه حالها من خلط الناس لها بالمسكر. كما يتوقف عند الحجج التي قدمها من ينتصرون للقهوة والتي مكنتهم من إصدار فتوى تخالف وتناقض فتوى التحريم، لتعود من ثمَّ إلى بقية أصناف الطعام والشراب مما هو حلال. وفي نفس هذا الفصل (التحريم ولعبة الأسئلة) ينقل السريحي قصة وظروف الفتوى من خلال المنقولات التراثية والتقصي للأوضاع السياسية والاجتماعية آنذاك، ليصل إلى سلسلة من الوقائع التي آلت بها إلى أن تكون حلالاً حسب الخطاب والقيمة الدينية. كانت القهوة تحظى بمنزلة جليلة في المجالس، وتعبر عنها جملة من القيم التي يتوجب مراعاتها في طريقة تناولها وتقديمها ووقتها، والسريحي في كتابه يحكي عن الأطوار التي مرت بها القهوة، واشتقاق اسم المقهى منها وكيف كانت الأعين تحصي الجالسين في المقهى لتحسب ذلك من العيب ومن النقص. يقول السريحي محللاً هذه الأطوار: “صاحب انتقال شرب القهوة من بيئة المتصوفة إلى بيئة العوام ما أسماه الشيخ المزجد اختلاف الأمزجة بين الناس، فكان انتقالها إلى العوام انتقالاً في المقاصد والنوايا التي تبعث إلى شرب القهوة ..”، كل تلك الأنساق الثقافية المتصلة ببعضها من الديني والاجتماعي والتاريخي، في رأيه، يشكل سيرة القهوة وحكايتها، وعليه، يذهب الباحث بنا بعيداً في محاولة اكتشاف لغتنا أكثر وإلى محاولة قراءة ما وراء الاسم من غوايات أو تشظيات أو اشتقاقات، قد تكون قريبة وفي المتناول لكنها تندثر - مثل عبارات ومفردات أخرى - تحت انقاض الاستهلاك اليومي بعيدا عن التأمل والتنقيب في قراءة الأوجه المختلفة. وهذا ما يقوله السريحي: “فهل لي أن أزعم بعد ذلك كله أن هذه الصفحات محاولة لاستعادة ذاكرة الأمة وطرق تفكيرها حين تحب وحين تكره، حين تقبل على ما تقبل عليه أو تصد عما تصد عنه، محاولة لفهم السبب الذي يجعلنا نحث الخطى حين نحاذي قهوة العمال في شارع السيد، محاولة للفهم تتلمس طريقها عبر التعرف على البيئة التي انتشر فيها تعاطي القهوة حن تم اكتشافها في أوائل القرن العاشر الهجري”. وفي إحدى صفحات سيرة القهوة هذه يقول متسائلاً وقارئاً لواقع المفردة وما اتصل بها من عوالم أخرى (القهوة المادة - والقهوة الاسم- والقهوة الغواية): “هل يمكن أن نعيد الاعتقاد الشعبي الذي يرى أن لخطوط بقية القهوة في الفنجان القدرة على استشراف المستقبل ومعرفة “الطالع” إلى تلك الروح الصوفية التي تتوارى خلف تاريخ التعرف على القهوة وما ارتبطت به بعد ذلك مجالس الذكر والعبادة والتأمل، وكأنما القدرة على قراءة المستقبل من خلال ما تتركه بقاياها في قعر الفنجان وحوافه من خطوط استشفاف لروح الولي الكامن فيها واستنطاق لما يمكن أن يفضي به من أسرار”. الكتاب شيق وممتع وذو قيمة معرفية وعلمية، ويستند فيه السريحي على الكثير من المقولات التراثية والحكايات المخبأة في باطن الكتب القديمة ودواوين الشعر العربي، لنفتح نافذة نحو الاسم من جديد ونحو اللغة في اتساعها ومداها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©