السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جريمة في المقابر

جريمة في المقابر
16 يناير 2014 22:09
عقارب الساعة تشير إلى ما بعد الواحدة صباحا بقليل.. المكان هادئ وكل شيء ساكن بلا حراك ولا تسمع إلا صوت الريح العاصف خاصة في برد الشتاء الزمهرير. سكان هذا المكان لا يأكلون ولا يشربون ولا يتحركون ولا يشتكون، فهذه المنطقة هي منطقة المقابر، وجاءت سيارة الشرطة التي اعتادت أن تمر بشكل عادي لتفقد حالة الأمن، ووجدوا سيارة متوقفة لكن قائدها بعيد عنها ويبدو أنه يبحث عن شيء اقتربوا منه يستفسرون عن سبب توقفه في هذا المكان في هذا الوقت، فقال إن السيارة معطلة ويقوم بإصلاحها، وسألوه إن كان بحاجة إلى مساعدة فلديهم كل المعدات والأدوات، وخلاف ذلك يمكنهم استدعاء فني لإصلاح السيارة فورا أو على الأقل سحبها إلى مكان آمن، لكن الرجل لم يعرف كيف يشكرهم وهو يرتعد من البرد، وأخبرهم أن الأمر بسيط ولا يحتاج لشيء من ذلك كله، ثم إن لديه خبرة واسعة في إصلاح السيارات وإلا فلديه هاتفه المحمول ولو كان يحتاج لمساعدة لاتصل بأحد أصدقائه. شك في محله دقيقتان أو أقل استغرقهما هذا الحوار السريع لكن رجال الشرطة بخبرتهم استشعروا أنه يكذب ولا يقول الحقيقة، فمن الطبيعي أن يستغيث أي شخص في هذا المكان حتى لو لم يكن يحتاج إلى شيء لأنه موحش ومخيف والظلام دامس، فكيف له وهو بمفرده أن يكون بهذا الجلد؟ وهم لولا عملهم وأنهم مجموعة مسلحة ما جاءوا ولا مروا من هنا أصلا، ومما جعلهم يرتابون فيه أنه يحاول جاهداً أن يجعلهم يتركون المكان، ويقنعهم بأن الأمر عادي وكل شيء على ما يرام، ثم إن السيارة التي يتعلل بأنها معطلة تعمل وأنوارها مضاءة، وعلاوة على ذلك لم يكن يقوم بإصلاحها إنما يجوب بالقرب منها بين القبور بما يؤكد أنه يكذب بوضوح، وحتى لو قال لهم إنه جاء لزيارة الموتى لكان أقرب إلى الإقناع نسبيا مع أنه يتنافى مع المنطق والظروف والأجواء المرعبة، والمؤكد أن هناك أمرا مهما يخفيه. نظر الضابط إلى أفراد الشرطة الذين معه ففهموا مقصده ونزلوا جميعاً بأسلحتهم التي كان يبدو من طريقة حملها في أيديهم أنهم في وضع استعداد تام لإطلاق النار لو فعل أي حركة مخالفة وطوقوه هو والسيارة وطلبوا منه أن يفتح “الصندوق” الخلفي فاستنكر الرجل طلبهم وهو يشير إلى وجهه ولحيته غير الحليقة التي تتخللها شعيرات بيضاء وقال إنه خال إلا من أشياء عادية مما يتم الاحتفاظ به ومعظمها “كراكيب” قديمة فهي تكاد تكون أقرب إلى مقلب القمامة وحاول أن يؤثر فيهم بكلمات رقيقة لكي يتركوه لأنه يكاد يموت من البرد لكن تصرفاته وكلماته توحي بأنه يحاول أن يخفي شيئا ما، فأصروا على مطلبهم الذي يفرضه عليهم عملهم والقانون لأنهم ارتابوا فيه بشكل كبير ولو كان بريئا ما تردد ولا ضيع الوقت في هذا الجدال العقيم. جثة مضرجة بدمائها اعتقد الضابط ومن معه أن الرجل تاجر مخدرات، ويخفي في صندوق السيارة كمية من السموم يظنون أنها كبيرة ومن المحتمل أيضاً أنه هنا في هذا المكان انتظاراً للتسليم والتسلم، فالوقت متأخر ولا يأتي أحد إلى هنا وحتى لو جاءت سيارة، فإنه سيكتشفها من خلال أضوائها، لكن يبدو أنهم باغتوه ولم يشعر بهم إلا وهم بجواره، وتخاذل الرجل قليلا محاولا كسب المزيد من الوقت من قبيل مراعاة سنه وظروف الطقس السيئ لعلهم يتراجعون عن أمرهم، الذي أصدروه، لكن لم يجد إلا المزيد من الإصرار فكان يقدم رجلا ويؤخر الثانية ولم يقطع الأمل في النجاة فهو يعرف ما بداخل الصندوق، وأخيرا اضطر رغم أنفه بعد أن جاءه الأمر مباشرا من الضابط بكل جدية وصرامة أن يفتحه وإلا سيتم إطلاق النار عليه، وكانت المفاجأة فقد صدق إحساسهم أنهم أمام جثة بدمائها ملفوفة في غطاء السيارة إنها جريمة قتل تمت وانتهت وكاد يفلت من العقاب. أوثقوه بالقيود خشية أن يحاول الهرب في هذا الظلام فلو اختفى في مقبرة فلن يكون العثور عليه سهلا، وفتشوا في المكان ربما يكون معه شركاء آخرون لكن لم يجدوا أحدا واصطحبوه والجثة والسيارة إلى القسم لم ينطق طوال الطريق بكلمة واحدة، ولاذ بالصمت الرهيب، ولو كان معه مال قارون في تلك اللحظة لضحى به لأنه فكر أن يقدم لهم رشوة في محاولة يائسة للإفلات من العقاب، لكنه تراجع لسببين الأول والأهم أنه يخشى أن تضاف له تهمة جديدة لأنهم قطعا سيرفضون، والثاني أنه ليس معه المال الكافي المغري لتنفيذ ما يفكر فيه يريد أن ينجو لكن سبق السيف العذل وألجمته المفاجأة القاسية، التي لم يحسب لها حسابا بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من أن ينتهي من مهمته، وتم تحرير محضر بالواقعة وملابساتها، كما حدثت بالضبط وإخطار قياداتهم بالحادث وظروفه وقامت الأدلة الجنائية برفع بصمات القاتل والقتيل، كإجراء معتاد في التحقيق في مثل هذه الجرائم. تم إخطار النيابة وبدأ التحقيق معه ليعترف طواعية ويجيب عن كل الأسئلة باستفاضة فقد كانت البداية عندما استأجر فيلا في منطقة حديثة يقيم فيها هو وأولاده ولأن المكان جديد فالإيجارات فيه رخيصة نسبيا عن المناطق القديمة القريبة من وسط المدينة، ولكن المكان ليس بالبعد الذي يجعله يتردد في الإقامة فيه فيمكنه الوصول إلى أي منطقة بسيارته خلال ثلاثين دقيقة، واستقر به المقام وتآلف أبناؤه على المكان وتغيرت معالمه خلال عدة سنوات قضوها هنا. سيدة الفيل صاحبة الفيلا سيدة تقيم في مكان آخر فكان يذهب إليها لتوصيل مبلغ الإيجار المتفق عليه، وتشكره على صنيعه لكنه خلال فترة عانى كسادا في تجارته، فلم يلتزم مثل ذي قبل وراح يتهرب منها وهي تتصل به هاتفيا أو يختلق الأعذار ويقطع الوعود ثم لا يفي بها حتى تضطر المرأة إلى أن تذهب إليه في بيته أو في عمله فيعطيها جزءا من المبلغ المستحق، والذي بدأ يتراكم مع المزيد من الوعود التي اعتادها ويعرف أنها تتقبلها وتتساهل معه وتنظره إلى حين ميسرة. وهكذا أصبح التعامل معه صعبا، وتكابد المرأة المشقة حتى تتوصل إليه ولم يغير طريقة تعامله، وكما يقول فقد استضعفها ولعب الطمع برأسه، وتساءل ولماذا تريد هذه المرأة المال وهي وحيدة وأبناؤها كلهم قد هاجروا إلى بلاد الغرب وتركوها؟ لم يكن حولها ولا معها أحد يساندها ضده، ويطالب لها بحقها المشروع عرض عليها أن يشتري الفيلا فرفضت لأنها تحتفظ بها لأولادها أو أحفادها أو أي منها ليقيموا فيها بعد عودتهم وهو يرى انهم لن يعودوا مرة أخرى، وتضاعفت المبالغ المستحقة عليه وهو يماطل ويضيع الوقت فأنذرته بأنها ستتخذ إجراءات طرده بالقانون إذا لم يقم بسداد كل ما عليه. هنا أسقط في يده فلم يكن يتوقع أن يصل تفكير المرأة إلى هذا الحد، والمؤكد كما يعلن أنها ستكسب القضية لا محالة، وبكل بساطة حاول أن يخدعها مرة أخرى بالتسويف والمماطلة، لكنها تعرف أنه غير صادق في وعوده وقد تعاملت معه أكثر من خمس سنوات، وهي على هذه الحال وفي تلك المعاناة وبالفعل بعد عدة أيام تلقي إنذارا على يد محضر بأن يمثل أمام المحكمة، ومطالبته بإخلاء الفيلا، وتسليمها خالية فورا بجانب المبالغ المستحقة والمتراكمة عليه فوجد نفسه في حيص بيص لا يدري كيف يتصرف. هو يملك قيمة الإيجار لكنه لا يريد أن يدفع ثانيا وطمع في الاستيلاء على الفيلا ظلما وعدوانا لا يستطيع أن يفرط فيها كأنها حق مكتسب وتحدد موعد جلسة نظر القضية، ولم يبق سوى أيام معدودة على أصابع اليد الواحدة، وليس في يده أي شيء يمكنه أن يتشبث به فنصحه أحد أصدقائه بتزوير عقد ملكية عساه أن ينفعه في لعبته القذرة، لكنه تراجع لأنه سيتم اكتشاف التزوير بكل بساطة. كلما مر الوقت ومضى يوم تأكله النار وهو لا يصدق أنه سيخرج من هنا صفر اليدين فجاءته الفكرة الشيطانية بأنه إذا تخلص من المرأة فكل شيء سينتهي لصالحه، توجه إليها في المساء وهو يذرف دموع التماسيح يشكو حاله وظروفه وما يعاني من عثرات في تجارته، وهذه المرة لن يعدها ولن يسوّف ولكن يستعطفها بأن تتنازل عن الدعوى وبعض المبلغ المطلوب منه، ويترك الفيلا بسلام وبالتراضي بعيدا عن التقاضي، وصدقته المرأة ببراءتها وهي لا تريد أن تؤذيه بل تطالب بحقها، ولو تنازلت عن شيء منه فهو كرم منها وتوجهت معه بعد أن أقنعها بضرورة تحرير محضر اتفاق بينهما يتم تقديمه إلى المحكمة. كان المجرم قد أعد عدته وتوجه بها إلى منطقة نائية بها مخازن لبضائعه وهو يعلم أنها مغلقة ولا يوجد أحد من العمال في هذا الوقت، وقام بضربها على رأسها ضربة واحدة أفقدتها الوعي، ثم واصل الضربات حتى تأكد من أنها فارقت الحياة، ولفظت آخر أنفاسها وقام بلف الجثة في غطاء السيارة، وانتظر حتى انتصف الليل وتوجه إلى المقابر ليتخلص من الجثة، ويدفن معها سر جريمته لكن ما حدث بعد ذلك خيب كل ظنونه.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©