الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المشهد الدولي الراهن.. مناطق متأزمة ومخاطر مؤجلة

المشهد الدولي الراهن.. مناطق متأزمة ومخاطر مؤجلة
28 مايو 2014 11:35
بول كندي أستاذ التاريخ ومدير الدراسات الأمنية بجامعة «يل» الأميركية فيما كانت الأمور تنذر بالأسوأ، ويلفها الغموض صرخ «هاملت» في مسرحية شكسبير الشهيرة مصارحاً صديقه، هوراشيو، أن العالم «اختل توازنه»، وهي العبارة التي تعني في الأصل أن بناء ما يعتري هيكله اختلال يهدد بتقويضه، وانتقالاً إلى ما يعيشه عالمنا اليوم يمكن أيضاً القول إنه في تجلياته السياسية والاجتماعية ما عاد قادراً على تحمل مشاكله المتكاثرة، وبأن بناءه يتعرض للاهتزاز كل يوم، بل إن أجزاء من الصرح العتيد الذي يمثله العالم باتت تتداعى أمام أعيننا، وقد كان «هاملت» في المسرحية أول من تنبه إلى هذا الوضع المختل في بلده الدنمارك، وهو وضع مرشح للتدهور أكثر، ويكاد يجتاح العالم بأسره، فإلى أي مدى ينطبق هذا الاختلال العام الذي اشتكى منه هاملت على عالمنا المعاصر؟ وقبل الإجابة، لنتخيل فقط الانشغالات العديدة والمتنوعة التي تؤرق بال مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية هذه الأيام، ومع أن الصورة تختزل العام في النظرة الأميركية إليه، وقد لا تكون متوازنة، إلا أنها تسعفنا في التحليل، كما أن الهموم والمشاكل التي تشغل بال الأميركيين لربما كانت نفسها التي تقلق بقية المراقبين والحكومات، هذا الاستعراض للهواجس العالمية والاختلالات الكثيرة التي تعتري مفاصله، وتهدد بانهيارها تبدأ من الجزء الغربي من كوكب الأرض، وتنتقل شرقاً إلى أوروبا وأفريقيا، ثم عبر الشرق الأوسط والخليج وجنوب شرق آسيا قبل الوصول إلى منطقة شرق آسيا الفسيحة، وانتهاء بالجزء الغربي من المحيط الهادي المحاذي للشواطئ الأميركية. تخبط «لاتيني» ففي أميركا اللاتينية مثلاً، تواجه المجتمعات تحديات جمة تطرحها الإشكالات البيئية الخطيرة وتدهورها المتواصل، إضافة إلى الضغوط القوية للسكان على الحكومات، والنقص الخطير في الخدمات الصحية والتعليمية، والنمو الاقتصادي غير المتوازن الذي يفيد البعض ويقصي آخرين، ناهيك عن الانتشار الواسع للجريمة والفساد، وهي مشاكل وصعوبات لا تبدو الحكومات الضعيفة في المنطقة مهيئة لمعالجتها في المدى المنظور على الأقل، لكن المشكلة الأكبر في أميركا اللاتينية تكمن في انزلاق فنزويلا المريع نحو الكارثة، وهو انزلاق سببته لنفسها، متجسداً في الهشاشة الاقتصادية والاستقطاب السياسي والاضطرابات الاجتماعية، ولعل النموذج الأوضح الذي تقدمه فنزويلا اليوم هو كيف يمكن لرجل واحد، هوجو شافيز، أن يدمر بلداً كاملاً. مشاكل أفريقية بيد أن أميركا اللاتينية ليست المنطقة الوحيدة المتخبطة في مشكلاتها المتعددة، بل هناك قارة بأكملها، مثل أفريقيا تبدو أوضاعها أسوأ بكثير، وهنا يبرز حزامان يضغطان على القارة، أولها الشريط الساحلي المطل على البحر الأبيض المتوسط والممتد من الجزائر وحتى مصر، فيما يتسع الحزام الثاني لمساحة شاسعة تشمل منطقة الساحل جنوب الصحراء وصولاً إلى هضبة النيل، بحيث تعاني المجتمعات في هذه المناطق الإرهاب المزمن، والاضطرابات الناجمة عن الصراعات الحدودية، فضلاً عن التدهور البيئي الخطير. ومع أن الحزامين في أفريقيا يمران عبر خطين متوازيين يوحيان بعدم الالتقاء، إلا أن الأمر ليس على هذا النحو، حيث تنتقل العناصر «الجهادية» من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى سواحل الصومال دون أن يردعها رادع، بل يعبر التطرف أفريقيا غرباً وشرقاً، لكن رغم هذه الإشكالات ليس مرجحاً أن ينتبه العالم لما يجري في أفريقيا ما لم يتدهور الوضع أكثر في بلد كبير مثل نيجيريا، أو تسوء الأمور في دولة بحجم مصر. صراعات الشرق الأوسط وفي حمأة الحديث عن أفريقيا وهمومها لا بد من الإشارة إلى مصر وتداعياتها الإقليمية بطرح السؤال: ألن يؤثر الوضع المصري في حال تدهوره على التنافس الجاري في الشرق الأوسط ليتعمق الانقسام بين السنة والشيعة؟ بل من سيتهم في حال استحكمت الأزمة بمصير الملايين من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين والكشميريين؟ لكن الأمر يتعدى بلداً بعينه مثل مصر، أو غيرها ليعم الشرق الأوسط برمته، لا سيما في ظل ما نراه من صراع ديني واضطرابات سياسية ونزاعات حدودية، ومصير قاتم للاجئين، فضلاً عن الجرح الفلسطيني النازف، والعزلة الإسرائيلية المتعمقة، وإن كانت الدولة العبرية تظل مع ذلك الأقوى في المنطقة، وفيما تروج أميركا لنفسها كراعية للسلام، إلا أنها لم تنجح قط في تكريس حيادها ونزاهتها، بسبب تعقيدات الحرب الباردة، وما رسخته من خصومات، وأيضاً لتداعيات «الربيع العربي» الذي بدأت مشاكله في الظهور. ومن دون قوة تدعم الاستقرار في الشرق الأوسط سيظل السلام حلماً بعيد المنال، وبمعنى آخر تبقى المنطقة الشاسعة بمثابة برميل بارود مرشح للانفجار في أي وقت، فضلاً عن كونه أرضاً يتوق الملايين من سكانها للتغيير، لذا لا تلتقط عبارة «الاختلال» سوى جزء بسيط من إشكالات الشرق الأوسط المتعاظمة. وارتباطاً بالشرق الأوسط لا تستطيع وزارة الخارجية الأميركية الإشاحة بوجهها عن إيران بالنظر إلى احتمالات عدم الاستقرار في الداخل، ومواقفها العدوانية في الخارج، وهي وإن كانت مصدر إزعاج للغرب بنفوذها في الإقليم، إلا أنه يمكن الاستفادة منها لو سيطرت على شبح الانقسامات الطائفية والعرقية التي قد تعصف بها. ولعل ما يجعل من إيران مهمة في المنطقة أنها تجاور إحدى الدول الأكثر اضطراباً في الإقليم والأقل استقراراً في العالم، متمثلة في أفغانستان التي ضعفت قابلية حكمها بسبب الصراعات الداخلية، والتخريب الذي يتم عبر الحدود، ثم تدخل القوى الكبرى، وفشل ذريع في سجل حقوق الإنسان، ولا يبدو أن التدخل الأميركي أفاد البلاد كثيراً عدا مد النظام الذي سيخلفها فرصة ولو ضئيلة للنجاح والتوصل إلى توافق بين أطراف الصراع الداخلي. ومع أن الانتخابات الرئاسية تشكل نقطة ضوء لا يستهان بها، إلا أنه علينا التساؤل باستمرار عن مصير باكستان المجاورة والهند القريبة في حال انزلقت أفغانستان إلى العنف، علماً أن البلدين المجاورين نوويان، وقد يلهبان الوضع في جنوب آسيا. اضطرابات الشرق الآسيوي بيد أن هذه الإشكالات المهولة التي تعم الشرق الأوسط ليست الوحيدة التي تسترعي الاهتمام الأميركي لأن هناك منطقة لا تقل اضطراباً، وإن كانت أقل عنفاً، تمثلها شرق آسيا، وبالطبع لا يمكن الحديث عن المنطقة دون الوقوف عند الصين بقوتها الاقتصادية الصاعدة، وإنفاقها العسكري المتنامي، ووزنها السياسي المتزايد مع تداعيات هذا الأمر على الدول المجاورة وتسابقها للتكيف مع وضع تغدو فيه الصين القوة الإقليمية الأولى في آسيا، والمشكلة في صعود الصين أنه من الصعب الجزم بطابعه السلمي البعيد عن إثارة المشاكل، لذا تبرز أسئلة حقيقية مثل ماذا سيحل بتايوان، وكيف سيلقي المعطى الجديد بظلاله على النزاع الحالي في بحر جنوب الصين؟ وفي شمال آسيا يظهر النظام الأرعن في كوريا الشمالية وخطورته المحدقة بجيرانه، علاوة على النزاعات الحدودية الهادئة حتى الآن بين اليابان وكوريا الشمالية حول بعض الجزر، والنتيجة هي ما تشهده حالياً المنطقة من سباق للتسلح يتجسد في مستويات الإنفاق العسكري العالية التي تعد الأكبر في العالم، وهي أيضاً المنطقة التي كانت حتى وقت قريب مسرحاً للهيمنة الأميركية المتفردة فقط لتتراجع اليوم، وتكتفي بدور أقل مع ما لذلك من ارتدادات ستنعكس على سباق التسلح، والتنافس لملء الفراغ في حالة استكمال أميركا لمغادرتها. التمدد الروسي وكأن هذه الإشكالات التي ينوء بحملها النظام العالمي لا تكفي ينصرف انتباه المراقبين أيضاً إلى الصراع المندلع مؤخراً على الحدود الروسية، وتمدد موسكو في القرم، وارتعاب دول البلطيق من أن يأتي الدور عليها في مرحلة لاحقة، وفي أقل من ستة أشهر انتقل الوضع في أوكرانيا من بلد لا يكاد يذكره أحد إلى إحدى بؤر التوتر الملتهبة في العالم التي يلفها مستقبل غامض، في ظل التمدد الروسي، وهو الأمر الذي يستدعي يقظة دولية، وبالأخص من الولايات المتحدة، وهنا أيضاً وعلى غرار مناطق أخرى تبدو الظروف مهيأة لمزيد من الاضطراب، مثل العنف السياسي، والحدود المتنازع عيها، والاختلافات الأيديولوجية واللغوية، فضلاً عن وضع اقتصادي غير متوازن، وضعف الحكامة، وأخيراً غياب لاعب خارجي يتمتع بالمصداقية، ويمكنه التوسط لإيجاد الحل، بل بالعكس من ذلك يلعب الفاعلون الخارجيون، مثل بوتين المتباهي بقوته، دوراً سلبياً يؤدي إلى تأجيج الوضع بدل تهدئته. وبالاستناد إلى هذا العرض للإشكالات العالمية وتفاعلاتها الإقليمية تبدو هناك ثلاث مناطق متأزمة تستدعي الانتباه العاجل، وهي الشرق الأوسط والشرق الأقصى، وأوكرانيا، وإلى جانبها ثلاث مناطق تطرح مخاطر مؤجلة على النظام العالمي، وهي شمال شرق أفريقيا، وإيران وأفغانستان، وبالطبع يشتكي البعض في الغرب من أن المناطق البعيدة ليست من أولوياتهم، متسائلين عن السبب الذي يدفعهم للاهتمام بأصقاع نائية، بدل التركيز على محيطهم القريب، فهل الكوريون مثلاً يكترثون لأخطار الحركات «الجهادية» في الساحل؟ بالتأكيد لا، وهل يحشد اللوبي اليهودي في واشنطن الدعم للفت الاهتمام بالنزاعات الكامنة في بحر الصين الجنوبي؟ أيضاً لا. تباطؤ النمو العالمي هذه التساؤلات نفسها تطارد رئيساً مثل أوباما، فهل يركز على الشرق الأوسط أولاً، ثم يستدير إلى مشاكل أوكرانيا وآسيا؟ الحقيقة أن مثل هذا الارتباك في تحديد الأولويات والتشكيك في جدوى الانخراط الغربي والأميركي في العالم ،إنما يكشف عن الضعف الذي باتت عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها في العالم، وتراجع نفوذها الدولي، ولئن كانت المشاكل المستعرضة حتى الآن ذات طبيعية جيوسياسية تؤرق المسؤولين في العالم، فإن هناك إشكالات أخرى بعيدة عن السياسة تزيد من تعقيد الوضع العالمي والإخلال بتوازنه، فعلى سبيل المثال لا أحد يختلف على أن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة تباطؤ واضحة في عجلة النمو، بل وصل إلى فترة الركود التام في بعض البلدان، ولا يوجد حتى الآن ما يدل على أن تنامي الاستهلاك الداخلي في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان سينعش الإنتاج في اقتصادات أخرى. والأكثر من ذلك أن الصين نفسها التي كانت دائماً المصدر الأول للطلب العالمي على السلع تعيش بدورها على وقع التباطؤ الاقتصادي، ولا يمكن التعويل عليها في تنشيط الصناعات العالمية، وكما هو الحال في أغلب الأزمات الاقتصادية وحالات الركود العالمية، تعاني الدول الفقيرة المعتمدة على تصدير مواردها الأولية أكثر من غيرها، وحتى لو عبرت تلك الدول الجسر من الإنتاج الزراعي إلى النشاط الصناعي، فإن ذلك لم يعد مفيداً بنفس الدرجة في ظل ذيوع صناعات، مثل النسيج والفولاذ والصناعة الغذائية، ما يجعل المنافسة محتدمة بين المجموعة نفسها من الدول لتقل الفائدة، لا سيما وأن الغرب يفرض قيوداً على دخول سلع تلك الدول الفقيرة إلى أراضيه. وعندما يدعي مناصرو اقتصاد السوق والمتحمسون له أن السياسات الليبرالية انتشلت الملايين من سكان العالم من وهدة الفقر، فإن عليهم مراجعة ما آل إليه مؤشر الفقر وصعود مقياسه ليعرفوا أن حماسهم مبالغ فيه، وأن الفقر ما زال منتشراً على نطاق واسع. كوكب يتآكل ومن جهة أخرى، ما فتئت الأنشطة البشرية، التي يفترض أن تصب في تطوير وتحسين ظروف الإنسان على الكوكب، تلحق أفدح الضرر بالبيئة، فالتزايد السكاني المنفلت في البلدان الفقيرة، والاستهلاك المفرط، وانبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري في البلدان الغنية لا يبشر بمستقبل واعد للإنسانية. وإذا صحت التوقعات الأخيرة للجنة الدولية حول التغير المناخي التابعة للأمم المتحدة، فإن تصاعد مستويات البحار والمحيطات يضغط على المدن والمجتمعات القريبة من الماء، فيما سيؤدي تناقص الإمدادات الغذائية إلى معاناة السكان الأقل قدرة على دفع ثمنها، ورغم ما تحظى به الأحداث الدراماتيكية من تغطية إعلامية، مثل الحروب الأهلية والهجمات الإرهابية، إلا أن التآكل التدريجي لكوكب الأرض، وتردي وضعه البيئي، وتأثير ذلك على المجتمعات وتماسك نسيجها عادة ما لا يحظى بالاهتمام اللازم، ويظل غائباً عن بؤرة الانتباه، وذلك حتى تنهار إحدى الدول الفقيرة، وتتعرض لمشكلات كبرى تجبرها على طلب المساعدة الدولية. وإذا كانت وكالات الإغاثة الأممية، وغيرها من المنظمات تهب في حالات الكوارث الطبيعية، أو تلك التي يتسبب فيها الإنسان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتقديم العون للسكان المنكوبين، إلا أن هذا النجاح النسبي لا ينطبق على مؤسسات دولية أخرى يفترض أنها تمتلك من الموارد ما يؤهلها للتدخل، وأعني هنا مجلس الأمن الدولي الذي يظل عاجزاً عن الاضطلاع بدوره المنصوص عليه من حفاظ على السلام والأمن الدوليين، وتجنب الصراعات، والتوسط لفض الحروب والنزاعات المسلحة. ورغم الطابع الاستعجالي للمهام الموكلة لمجلس الأمن الدولي في ظل المشكلات الحادة التي يواجهها العالم، وتتطلب تدخله، إلا أن عمله يظل معطلاً في نواح كثيرة بسبب الخلافات التي تخترق أعضاءه الدائمين، فتنازعهم المستمر حول قضايا مختلفة، ومسارعتهم لاستخدام الفيتو، أو التهديد به لنسف مقترحات الطرف الآخر، عطلت واشنطن وموسكو وبكين النظام العالمي وأدخلت مجلس الأمن في مرحلة من الجمود والتخبط، فيما تظل الجمعية العامة عاجزة عن معالجة قضايا الحرب والسلام التي هي من اختصاص مجلس الأمن، وحتى الأمين العام للأمم المتحدة غير قادر على التدخل خارج الإطار الذي ترسمه له القوى الكبرى الدائمة في مجلس الأمن، وفيما تفيد هذه الحالة غير الصحية التي تسيطر على مجلس الأمن بعض القوى، مثل بوتين الذي يروق له تشرذم المجتمع الدولي لتمرير سياساته، فإن أطرافاً أخرى، مثل الأقليات والدول الصغيرة تظل في أمس الحاجة لدور فاعل لمجلس الأمن ولحماية النظام الدولي لسيادتها، والنتيجة أن البند السابع لميثاق الأمم المتحدة والمسؤول عن فرض السلام بالقوة نادراً ما يتم اللجوء إليه، لا سيما وأن الأعضاء الدائمين جاهزون في كل وقت لاستخدام «الفيتو» وإبطال البند. ولعل المثال السوري خير دليل على تعثر القرارات الدولية بسبب الخلافات بين الأطراف المختلفة وتعطيلهم لمجلس الأمن الدولي، ولحسن الحظ لم يصل التعطيل إلى مؤسسات دولية أخرى تعمل في الجانب الاقتصادي، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وإن كانا يعانيان اتساع المهام، وضعف الموارد المتاحة لهما. مطلوب رؤية وشجاعة ولتغيير هذه الصورة القاتمة حول الوضع العالمي، وإصلاح اعتلالاته الكثيرة لا بد من وجود قيادة عالمية على مستوى رفيع من الكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية، وهي قيادة يجسدها سياسيون يمتلكون الرؤية والشجاعة لاتخاذ مسافة من القضايا الداخلية والاتفاق على خطوات تشمل تقديم التنازلات، وبذل التضحيات لاستبدال الوضع الحالي المتردي بآخر أفضل منه، والمقصود بالتنازلات هنا أن توافق الدول المحظوظة والغنية في العالم بتخصيص موارد أكثر لتلبية الاحتياجات العالمية، وأن تؤسس القوى الكبرى جيوشاً أكثر فاعلية قادرة على فرض السلام، حتى لو تطلب الأمر تدخلا قوياً في إحدى المناطق المتوترة، لكن أين يمكن العثور على قيادة عالمية بهذه المواصفات تتجاوز المحلي والضيق، وتنفتح على قضايا العالم الأكثر تعقيداً؟ فبرلين تبدو غارقة في الأزمة الأوكرانية القريبة منها، وفي لندن ينصب اهتمام ساستها على تقليص حضورهم في هياكل الاتحاد الأوروبي والتفكير في الانسحاب نهائياً، أما طوكيو فهي متوجسة من الصعود الصيني، ولا اهتمامات لها عدا هذا الأمر، والمشكلة ذاتها تنسحب أيضاً على بكين وموسكو، لتبقى الولايات المتحدة باعتبارها القوة الوحيدة التي لعبت في السابق دوراً ريادياً على الساحة الدولية، وانخرطت بقوة في القضايا العالمية، وهو أمر لم يعد قائماً اليوم، حيث تتصاعد الضغوط الداخلية المعارضة لتدخل أميركا في الخارج، وإلى جانبها تبرز الميول الانعزالية التي تعد اليوم الأوضح منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولا أحد داخل البيت الأبيض، أو الكونجرس مستعد للوقوف في وجه الميول الشعبية ومواجهتها، بل إن مجاراتها والتودد لها هو ما يتسابق من أجله السياسيون الأميركيون علهم يفوزون بأصوات الناخبين. وعندما يشتكي منتقدو أوباما من أنه يفتقد لاستراتيجية متماسكة في العراق وأفغانستان وسوريا وإيران وأوكرانيا وليبيا، فقد لا تستقيم الشكوى، لأن النفور من التدخل وتقليص القدرات الأميركية باتت في حد ذاتها استراتيجية أميركا في الوقت الراهن، يضاف إليها ما يقوم به «البنتاجون» من تقليص لنفقاته الدفاعية وخفض عدد جنوده سواء في القوات البرية، أو البحرية، وبما أن هذا التقليص جار على قدم وساق، وبموافقة جميع الأطراف، فأن الأمر يدعو فعلاً إلى الاستنتاج بأن الاستراتيجية الأميركية لهذه المرحلة هي الانسحاب وخفض وجودها، وربما التخلي عن دورها القيادي، ما يعني أنه حتى لو أراد رئيس وكونجرس آخران تغيير هذه الاستراتيجية فلن يجدا أمامهم ما يكفي من إمكانات تسعفهم لتحقيق هذا الغرض. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©