الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أبوظبي.. سيرة الماء

أبوظبي.. سيرة الماء
29 سبتمبر 2016 13:06
لولوة المنصوري يحدث مراراً أن تشم طين الضفاف في الرمل، وأعشاب غرين نهر قديم، تقف على حافة الشك والمتاهة وتشعر بشيء علوي باذخ داخل الأرض، شعور يشبه النبوءة العالية في النقطة التي تسبق السطر الأول، أو طعم بداية تكون الغيمة، أو نكهة إعادة تزاوج الينابيع الجافة في غيب مجهول، شعور شممتَ فيه رائحة العودة إلى رحم أمك، رحم نهر لم تُعثَر له على خريطة، ولن يعبأ الجميع إن حدثتهم عن نهرك الأحفوري المطمور بين كنوز الصحراء منذ آلاف السنين. ولأن النهر حقيقة قديمة، غاية لا منطقية في الصحارى، ستكتب عنه بمداد الخيال والحنين ودمعة الباحث، بالمسافة والخطوات والبُعد، أشبه باحتواء أزلي لحزن غامض، لا أدري، لكني على يقين بأنك سترتفع في غيمات السؤال والفضول والمحبة، ولن تصدق حين تبدأ بطرح الشك، وتسأل من أي بئر في العالم اندلق ماء أبوظبي القديم؟ حلم زايد حدثوك عن حكاية ميلاد أبوظبي وحلم قائدنا زايد، حلم رجل واحد، أتى في زمن العطش المناسب، وصار أسطورة الماء والشجر والقلب الواحد، حين جلس على الرمل قرب واحة بعيدة، في صحراء قاحلة، مترامية العطش، يتأمل أبراج الرمل، في يده اليمنى عصا، يخطّ بها أحلامه على التراب، يرسم مسارات ومدناً من ماء وشجر وأطفال وبهجة، يرسم مصيراً وبداية جديدة تتحدى الريح والنسيان وتيه البقعة المجهولة في العالم.. أفكاراً خضراء على الرّمل... يرسمها، وحين سأله أحد الصحفيين: ماذا ترسم بعصاك على التراب؟ سافرت عيناه طويلاً في لُجة الصحراء، دخلت في عمق الأرض. أتراه شعر حينها بتلك الأمواج المفقودة منذ آلاف السنين، أحافير مائنا المدفون، ممالك وحضارات خشعت قرب غابات النهر؟ بحدس الشاعر والقائد الحكيم، اخترق الأفق الهائج بالكثبان، وتبصّر بالمصير المشرق، فأجاب عن سؤال الصحفيين بهتافه الخالد: (أرسم الاتحاد). إنه الحلم إذن. حدثوك كثيراً عن قصة الآبار وسيرة عرّاف الماء (1)، وآثار الأفلاج الأولى، عن حكاية التنقيب وغريزة الاندماج البدائي الأول مع ماء الصحراء الشحيح، حدثوك عن منابت الحضارة التي قامت حول الماء بعد مسيرة شقاء ومعاناة وصبر وحروب، وعن أرضك التي كانت موطن التقاء مع الحياة والنور ومرفأ التواصل الحر مع بلاد الرافدين والسند وشرق آسيا، حدثوك عن حكاية ميلاد أبوظبي وحلم قائدنا زايد، حلم رجل واحد، أتى في زمن العطش المناسب، وصار أسطورة الماء والشجر والقلب الواحد، حين جلس على الرمل قرب واحة بعيدة، في صحراء قاحلة، مترامية العطش، يتأمل أبراج الرمل، في يده اليمنى عصا، يخطّ بها أحلامه على التراب، يرسم مسارات ومدناً من ماء وشجر وأطفال وبهجة، يرسم مصيراً وبداية جديدة تتحدى الريح والنسيان وتيه البقعة المجهولة في العالم.. أفكاراً خضراء على الرّمل... يرسمها، وحين سأله أحد الصحفيين: ماذا ترسم بعصاك على التراب؟ سافرت عيناه طويلاً في لُجة الصحراء، دخلت في عمق الأرض. أتراه شعر حينها بتلك الأمواج المفقودة منذ آلاف السنين، أحافير مائنا المدفون، ممالك وحضارات خشعت قرب غابات النهر؟ بحدس الشاعر والقائد الحكيم اخترق الأفق الهائج بالكثبان، وتبصّر بالمصير المشرق، فأجاب عن سؤال الصحفيين بهتافه الخالد: (أرسم الاتحاد). إنه الحلم إذن.. حدثوك عن حلم الماء الذي أنطَق الرمال بأبجدية التحدي، الحلم الذي انبثق من العطش والسراب اللامع، حلم والدنا الشيخ زايد بن سلطان (طيب الله ثراه). والأحلام التي تلاحقت في الرمال بعد وفاته، وتجسدت على أرض الواقع بالإنجازات العظيمة وعبر مسيرة سرد الطين والآبار المعجونة بالنخيل والأحلام والقصائد. حدثوك عن كل ذلك، لكنهم نادراً ما حدثوك عن منشأ الماء القديم، سحر ماء التكوين الأول لصخور الأرض، معجزة انفلاق البحيرات والجليد منذ التكوينات الجيولوجية الأولى، ماء عظيم ابتكر عرش شبه الجزيرة العربية التي شعّت بالألغاز والتيجان والرموز وينابيع الوجود، ولأن الماء الأول بقي رمزاً وتاجاً مجهول المكان وسراً تكتمه الطبيعة، فإن مهمة الباحث الصادق المتحرر من الهوى والأطماع والانحيازات الشخصية منوطة بك وبكل أبناء الإمارات. التفت إلى مواردك وتودد إلى الطبيعة، أنت المسؤول عن تجاهل رمزك وإرثك العريق في الرمال، وهم ليسوا مضطرين إلى أن يحكوا لنا كل ما رأوه وما أسفرت عنه رحلاتهم ومكتشفاتهم. تودد إلى الطبيعة لتغدق عليك بإشاراتها البريئة، الإشارة الأولى هي أن تبحث عن سر ولادة ماء أبوظبي في الخرائط القديمة أو المعاجم البيئية والجيولوجية التي تسرد أصول المياه وتجمعاتها المدهشة في طبقات الصخر وترسبات الرمل وتحولات القاع والقوى التكوينية لتضاريس شبه الجزيرة العربية، والتي مثلت لقرون زائلة الوعاء التحضيري لتقلبات المناخ والأنهار وزحزحة الثقافات القديمة. أبوظبي وأنهارها باختصار تقول الحكاية الإيكولوجية للماء، أنه منذ ما يزيد على ملايين السنين، كونت الأرض حوضاً كبيراً تحت الموقع الذي تحتله إمارة أبوظبي اليوم، كان الحوض يغطيه بحر ضحل لفترات طويلة، وفي أحيان أخرى كان مكشوفاً فوق مستوى سطح البحر، فترسبت المعادن وملايين أصداف المخلوقات البحرية التي تتكون من الحجر الجيري، بالإضافة إلى الرمال والغرين والطّفل الطيني المجروف بواسطة المد، خلال الفترات التي يرتفع فيها الحوض فوق مستوى البحر، تعجلت الروافد والأنهار القديمة في ترسيب مزيد من الحصى والرمال وطبقات الغرين. وعلى امتداد آلاف السنين تراكمت الأمتار من طبقات متعددة من الرواسب، واليوم تشكل هذه الصخور المائية والمواد المتناثرة في مختلف الأعماق شبكة واسعة من طبقات صخرية مائية مترابطة وخزانات تقوم بنقل وتخزين موارد المياه الجوفية العالية القيمة في الإمارة. بين ستة آلاف إلى تسعة آلاف سنة مضت، كانت أبوظبي من شرقها إلى غربها مطيرة بشكل أكبر بكثير، فوصلت معدلات التغذية إلى مستويات كفيلة بدعم خزانات المياه الجوفية العميقة إلى جانب البرك السطحية. ومن المبهج جداً أن الكميات الكبيرة من المياه التي سقطت كأمطار منذ آلاف السنين، لا تزال تجري عبر الخزانات الجوفية في أبوظبي، موفرة اليوم مورداً مهماً وطاقة للحياة والحضارة والجمال والأمل. أنهار تعبر الخليج قبل 14000 إلى 12000 سنة فقط بدأ حوض الخليج العربي ينغمر بالماء، برغم من تحديد عمر الكثبان الرملية، لذا يعتبر الخليج العربي ثاني أحدث بحر في العالم من حيث التكوين. كان الخليج في حالة بحر خلال ثلاثة عصور بين جليدية سابقة على أقل تقدير، عندما وصلت مستويات البحر إلى ذروتها قبل حوالي 120000 و200000 و330000 سنة. وعلى مر الزمن الجيولوجي الحديث شهد الخليج تحولات هائلة شملت بيئات صحراوية وأودية وأنهار قديمة ومستويات بحر متذبذبة. حين تتأمل في الخرائط الجيولوجية التي تحكي سيرة تكون الخليج العربي القديم ستلحظ ذلك السهل المنحدر بصورة تدريجية شمالاً وقد مرّ بظروف صحراوية وكثبان رملية تدفعها الرياح الشمالية القوية جنوباً، بينما يخترق النظام النهري لدجلة والفرات (من جبال جنوب تركيا) ونهر قارون والكرخة (من جبال زاجروس في إيران) حوض الخليج، بعد مروره بعدد من البحيرات، ومن الخليج الشمالي تتدفق المياه في الاتجاه الجنوبي الشرقي حتى تصل إلى قطر، حيث تعدل مسارها لتقترب من الجانب الإيراني للخليج قبل أن تصب في نهاية الأمر في خليج عمان عبر مضيق هرمز. إن هذه الأنهار غمرت فيما بعد بنهاية آخر عصر جليدي بدخول مياه المحيط الهندي عبر بحر العرب إلى منخفض الخليج العربي وتراجع مصب هذه الأنهار إلى رأس الخليج وشط العرب في الألف الخامسة قبل الميلاد، كما أن أحد الأنهار التي تكونت في المنطقة الشرقية كان ناتج مياه الينابيع الغزيرة في منطقة الإحساء والذي قد يكون النهر المعروف محلياً بنهر محلم، أو أنه تكون من عدة مسارات لعدة عيون لتكون مجرى مائياً واحداً كالنهر ليصب في الخليج العربي. تباركت هذه الأنهار وكانت مبعث الخير والسعادة لسكان أرض الجزيرة العربية في تلك الحقب التاريخية الموغلة بالقدم. وربما لشدة تقديسها اتخذها سكان شبه الجزيرة آلهة وخصصوا لها كهنة ومعابد كما حدث في الحضارة التي أعقبت عصر أنهار الجزيرة العربية بآلاف السنين وهي حضارة نهر السند في باكستان وشمال الهند قبل 4500 سنة فقط. وعلى ذلك فإن أغلب الظن هو أن العبادات الأولى التي قامت على أرض شبه الجزيرة العربية والتي رافقت بداية العصر الجليدي المتأخر كانت عبادة البشر للأنهار والروافد، وعليه - من باب الفرضية - مثلت أنهار الخليج قبل آلاف السنين المعبود الأول لسكانها، وشغلت أهمية دينية وقداسية وطهارة روحية ومغسلاً للذنوب، وحول منابعها تأججت الملاحم والأساطير والسرديات والثقافات. خرائط الماء العتيق في القرن الثاني للميلاد يرسم الجغرافي اليوناني الشهير بطليموس الإسكندري - وهو أحد أعلام الجغرافيين والفلكيين القُدامى - في جغرافيته المسماة (جغرافية بطليموس) منابع خمسة لأنهار مخصوصة، ومصبات ثلاثة تخترق جزيرة العرب وتصب في الخليج العربي، وعلى ضفاف هذه الأنهار الكبيرة وروافدها وجداولها المتفرعة تنهض الغابات والزراعة والحقول والحراك البشري الذي يعتمد على الري الدائم والتجارة. في عام 1930م قطع الرّحالة الإنجليزي (هاري سانت جون فيلبي) الربع الخالي، - وكان ثالث رجل إنجليزي يخترق جزيرة العرب لاستكشافها بعد تشيزمان وبرترام توماس – غير أن الأخير خصص في مذكراته فصلاً كاملاً في الحديث عن الأنهار المنسية في جزيرة العرب والمصبات الخليجية مبرراً بذلك عثوره في طريق الرحلة على الكثير من مسايل السيول والسهول الحصبائية والتربة الغرينية التي يرجح أنها من نهر قديم أو بحيرة قديمة، كما تم العثور على ترسبات نهرية وقواقع يرجح أنها من أصل ماء عذب. وأطلق العثور على الأدوات الصوانية والقواقع العنان لخيال جون فيلبي، وراح يتصور الإنسان القديم وهو يقيم حضارة عظيمة على ضفاف نهر قديم يأتي ليصطاد بالرمح والسهام الحيوانات التي كانت ترتوي بالماء. درس فريق بحثي تحت إشراف بارتون مجاري الأنهار الجافة جنوب شرقي الجزيرة العربية، وعثروا على آثار طين وحجارة من قاع النهر تعود إلى 160 ألف عام. وقد عثروا على دلائل بوجود خمس فترات مطيرة مرت بها تلك المنطقة، والتي تدفقت خلالها الأنهار وجرفت معها هذه الحجارة والحصى، بينما استقرت هذه الحجارة عندما جفت الأنهار وانحسرت مياهها. فبعد انتهاء الدورة الجليدية الرابعة أخذ عصر الأمطار بالتراجع التدريجي حيث أخذت الدورة الدفيئة الجافة الثالثة بالزحف على المناخ حتى تغير وساد عصر الجفاف والحرارة، فجفت مياه هذه الأنهار والبحيرات المتصلة بها وبالبحار، وبقيت وديان هذه الأنهار الجافة وأحواضها ودلتاواتها وقيعان البحيرات التي تبخرت مياهها شاهدة على الماضي الخالد المطمور في أعماق التاريخ البكر للإنسانية في بداياتها الأولى. دلما والينابيع البحرية على امتداد الحزام الساحلي لدولة الإمارات العربية المتحدة ثمة ينابيع مياه عذبة ومعظمها في إمارة أبوظبي ودبي والفجيرة، إنها أخوات ينابيع دلمون في الخليج (كواكب البحر) التي حدثتك عنها ذات يوم وكان مصدرها نهر أفتان أو عفتان الواضح على الخرائط القديمة لشبه الجزيرة العربية كخريطة بطليموس. وكأن الينابيع آية في البحر مرتَلة لقرون عدة، ولكن ينابيع دبي والفجيرة كانت أقل شهرة من ينابيع دلمون الأسطورية، وارتبطت لفترة طويلة بأنشطة الغوص على اللؤلؤ. أما الينابيع البحرية في جزيرة دلما فلها تاريخ طويل خاص وأهمية تراثية كبيرة، وحولها يتحدث الراوي الراحل خميس بن زعل الرميثي في كتاب «ذكريات الإمارات»، عن مصادر المياه قديماً، قائلاً: (أدت جزر أبوظبي دوراً رئيساً في استمرار الحياة وتنوع مصادر الرزق، فجزيرة دلما كانت في أوج ازدهارها قبل انهيار تجارة اللؤلؤ، حتى أطلق عليها البحارة اسم مومبي الصغيرة، كناية عن الأضواء والحياة الاقتصادية المفعمة بالنشاط آنذاك. والبزوم كذلك، فهي تنقسم إلى قسمين: البزم الشرقي، والبزم الغربي، وفي البزم الغربي (كوكب) (ماء الينابيع العذب وسط ماء البحر المالح)، ويذهب الناس على ظهور الحمير لجلب الماء العذب عند الجزر، وتقصدها أيضاً سفن الغوص التي تتزود بالماء العذب لرحلات الغوص الطويلة. وكنا نسكن في البزم الشرقي الذي يتكون من أربع مناطق: الفيي، اللبة، والغبة، ومروّح. وسميت الفيي كذلك لوجود فجوة يتخللها ماء البحر فيفصلها جزأين. ويستطيع المشاة السير بينهما بأوقات الجزر، ويتعسر عليهم في أوقات المد حينما يطغى الماء ويدخل بغزارة). ستتساءل عن المصدر الأول لتلك الينابيع البحرية في جزيرة دلما. وفي بحثك سيتضح بأن منبع هذه المياه العذبة يقع في سلسلة جبال زاجروس في جنوب إيران، وتصل هذه المياه إلى دولة الإمارات العربية المتحدة عبر تحركها تحت الخليج العربي، ويذهب الظن أيضاً إلى أن مصدر هذه المياه العذبة هما نهرا قارون والكرخة المتدفقان عبر جبال زاجروس في جنوب إيران ويصبان في بحر الخليج. ونظراً إلى أن المياه العذبة أقل كثافة من مياه البحر، فإنها ترتفع طبيعياً إلى السطح، حيث يمكن رؤية لونها الفاتح، وتقليدياً كان يتم جمع مياه الينابيع البحرية باستخدام الدلو أو يقوم الغواصون بجمع المياه على مقربة من الينبوع، باستخدام جرار معكوسة أو أكياس مصنوعة من جلود الحيوانات. ليوا.. موطن المياه الأحفورية في المنطقة الغربية المتمثلة بواحة ليوا وحوض الربع الخالي الذي تشترك فيه أبوظبي مع المملكة العربية السعودية، يطرأ السؤال البديهي من أين ينبع الماء في هذا الخلاء الموحش؟ لن أتطرق إلى الحديث عن ينابيع الربع الخالي في هذا البحث، فهو مبحث عميق وشائك وعجائبي. وإنما أكتفي بالكتابة عن قوس المزارع الموجودة في الجزء الجنوبي الأوسط من إمارة أبوظبي (هلال ليوا)، حيث يتطابق هذا الهلال مع بعض الخزانات الجوفية الأكثر إنتاجية في الإمارة، مكوناً منحدراً مائياً يسمح بقيام الإنسان بتعمير هذه المنطقة، وإلا لكانت جرداء لآلاف السنين. لحسن الحظ أن الماء العذب في ليوا تختزنه طبقات الرمل المكون من ذرات متوسطة إلى دقيقة ومسامية بدرجة كبيرة وخالية من الطفل والغرين الذي يحد في العادة من حركة الماء. وتعتبر هذه الظروف مثالية لامتصاص وتخزين مياه الأمطار التي كانت في أوقات سابقة أكثر بكثير مما هي عليه اليوم. أما سوء حظ ليوا فيتمثل بكون معظم المياه التي تكوّن هذا الخزان الرائع تحت الأرض هي مياه أحفورية قديمة وعقيمة لأبعد تصوّر، وتوجد اليوم رواسب قليلة جداً في هذا المنحدر، بسبب عدم وجود أمطار أو مصدر طبيعي آخر للمياه العذبة. فما هي حقيقة المياه الأحفورية القديمة في ليوا؟ باعتبار أن ليوا تشرف على عتبة الربع الخالي العامر بالأنهار القديمة المفقودة، أليس من البديهي أن تكون ليوا نقطة انعطاف نهري قبل أن يختم النهر مطافه في مصب حوض الخليج العربي؟ كانت ليوا مركزاً حيوياً نشطاً يجري من تحته النهر الكبير العظيم في شبه الجزيرة العربية والمسمى بنهر الصهباء والذي بدا واضحاً في خرائط الأنهار القديمة. هذا النهر ينبع من الدوادمي، ويمر بملتقى الطرق التجارية (وبار) (يبرين) ويصب في بحيرة ليوا الواقعة شرق الربع الخالي بمنطقة بني ياس والمدفونة تحت الرمال بعمق 100 متر. وقديماً كانت هذه البحيرة عظيمة بحيث شملت كل مساحة الربع الخالي، وسميت أيضاً (ببحر الصافي العظيم). ومن بحيرة ليوا يمر نهر الصهباء إلى دلتا عُمان، وينتج عن هذا النهر سباخ من أشهرها: أم السميم ومطي والحمر والمنادر. ومن أهم كثبان هذه البحيرة المندثرة: عروق الشيبة والعروق المعترضة. المنطقة الشرقية يسرد لنا عبدالحفيظ خان، أول مستشار زراعي للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيب الله ثراه)، في كتابه «خمسون عاماً في واحة العين»، الصادر عن الأرشيف الوطني بأبوظبي، ذاكرة صعوبة الحياة ومشقة جلب الماء في العين قديماً، فحين تأتي الأخبار السارة بوجود بئر للماء العذب هنا أو هناك تهرع النسوة إليه، ومعهن كل ما يستطعن حمله من القِرب للحصول على أكبر قدر من الماء، وكانت النسوة يدركن ضرورة استخراج الماء سريعاً، قبل أن ترتفع نسبة الملوحة فيه، نظراً إلى قرب المنطقة من الساحل، وهو ما كان يحول دون الحفر العميق في بعض الأحيان، ولم يكن ثمة إسمنت لتبطن به جدران الآبار للحيلولة دون تسرب الملوحة إلى مياهها فتصبح عديمة الفائدة، لذلك كانت النسوة يحملن القدور الفخارية ويملأنها بالماء للاستهلاك المنزلي إلى أن يتم العثور على مصدر جديد للماء. ويسترسل عبدالحفيظ خان في سرد ذكرياته عن ماء العين قائلاً: لاحظ العمال أن الحمير الضالة تغوص في ما يشبه الأدغال في منطقة بسفح جبل حفيت، فأمر الشيخ زايد بالحفر في موقع صوت الغثاء الذي علا وسط البراري، وكان الأمل يحدونا جميعاً لاكتشاف مصدر جديد للماء الارتوازي العذب، يضاف إلى الفلج الذي كان يجري من تحت ذلك الجبل نفسه ربما لقرون وكان مصدر الحياة في العين. وأسفر الحفر عن مصدر ماء شبه مالح تحت الأرض، وهو ما جعل الحشائش تنمو بغزارة. واعتقد كثيرون أن الحفر إذا تواصل بالموقع وانبثق الماء فسوف يتوافر مصدر جديد للماء العذب سيأتي بمعجزات في تلك الصحراء. رحّب الشيخ زايد بالفكرة، وحفرت القناة، فتدفق فيها ذلك الماء شبه المالح، حتى وصلت الصحراء المجاورة. وتلك كانت بداية الموقع الترفيهي الذي يعرف الآن باسم «العين الفايضة»، وكان اسمه الأول عين أبوسخنة (عين المياه الساخنة شبه المالحة). استمر استخراج الماء من «العين الفايضة» شهوراً وسنوات، على أمل أن يتبع المياه شبه المالحة مياه عذبة، لكن ذلك لم يحدث. واستمر الحفر مدة طويلة، وحوّل التدفق صوب الصحراء حيث كوّن بحيرة هناك يتبخر ماؤها تبخراً طبيعياً، وتلك هي البحيرة الموجودة حالياً. لقد وجدنا مصدراً آخر للماء العذب بعد ذلك بسنوات عدة عند سفح جبل حفيت، ولم يكن بعيداً عن (العين الفايضة)، وتلك منطقة تم تطويرها تماماً، وتعرف باسم (المبزرة الخضراء). المداد القديم لماء العين لنعد الآن إلى الفرز الأول، وهو أصل تكوّن وتفجّر الماء في العين، فمن الطبيعي جداً أن يكون لماء البئر أصل ومنبت وروح انبثق منها إلى الضوء، ولا بد أن لمنبت ماء العين قوة دفع صخرية تخترق مشقة الصحراء وتندلع من طاقة جبل عظيم وعتيق التكوين في الصفيحة العربية والتي يبلغ عمر صخورها 450 مليون سنة، إنه جبل راعان المتصل بسلسلة جبال الحجر في رأس الخيمة وسلطنة عمان، والذي تتألف معظم صخوره المسامية من الحجر الرملي والصلصال الصخري. تشير الدراسات والخرائط الجيولوجية إلى أن المنطقة الشرقية المتمثلة بواحة العين تقع تحديداً تحت الحافة الشرقية للجرف القاري العربي وما يسمى بحوض جبل عمان، وتشمل الأنظمة المحلية في هذه المنطقة بالقرب من الحدود العمانية الينابيع الطبيعية وإمدادات المياه التي ظهرت تقليدياً في الآبار الضحلة المحفورة يدوياً وأنظمة الري بالأفلاج، وعلى نحو منتظم يتم تجديد مخزون هذه المياه الجوفية العذبة الباردة باعتدال، عن طريق الأمطار في جبال الحجر المجاورة، وتقضي وقتاً قصيراً نسبياً تحت الأرض، يتراوح بين 12 إلى 45 سنة. ولقد حافظ هذا النظام على استدامة واحات العين المشهورة والحدائق ومزارع نخيل التمور المحيطة بها للعديد من الأجيال. في المنطقة الشرقية المتمثلة بمدينة العين يتم تجديد مخزون الطبقات الصخرية المائية على نحو أكثر تكراراً بواسطة الأمطار في جبال الحجر المجاورة، كما أن طبقة الحصى والرمال غير المتماسكة المكونة للخزانات الجوفية تتميز بأنها منفذة للماء بدرجة عالية، سواء أكانت تلك المياه من أمطار مباشرة أم نتيجة جريان سطحي من المنحدرات المجاورة. عرّاف الماء يذكر أنتوني رندل، وهو نقيب حامل وسام الإمبراطورية البريطانية، في كتابه «الإماراتيون كل أيامنا الخوالي.. الإمارات المتصالحة 1960 1962» أن عراف الماء هو الرجل الذي يحفر الآبار، ويمتلك قدرة غير طبيعية على اكتشاف المياه الجوفية، وإن لم توجد أي علامات تدل عليها فوق الرمال، ويقوم بتحديد البقعة التي ينبغي البدء بالحفر اليدوي فيها، وكان من الصعوبات التي يواجهها منع جوانب الحفرة من الانهيار، ويمكن أن يبدأ الماء في الظهور بعدما يقارب ساعة من الحفر بالجاروف. الأنهار المنسية في عام 1930م، قطع الرّحالة الإنجليزي هاري سانت جون فيلبي، الربع الخالي، وكان ثالث رجل إنجليزي يخترق جزيرة العرب لاستكشافها بعد تشيزمان وبرترام توماس، غير أن الأخير خصص في مذكراته فصلاً كاملاً في الحديث عن الأنهار المنسية في جزيرة العرب والمصبات الخليجية، مبرراً بذلك عثوره في طريق الرحلة على الكثير من مسايل السيول والسهول الحصبائية والتربة الغرينية التي يرجح أنها من نهر قديم أو بحيرة قديمة، وكما تم العثور على ترسبات نهرية وقواقع يرجح أنها من أصل ماء عذب. وأطلق العثور على الأدوات الصوانية والقواقع العنان لخيال جون فيلبي، وراح يتصور الإنسان القديم وهو يقيم حضارة عظيمة على ضفاف نهر قديم يأتي ليصطاد بالرمح والسهام الحيوانات التي كانت ترتوي بالماء. ................................................................ مصادر: 1- عرّاف الماء: هو الرجل الذي يحفر الآبار، ويمتلك قدرة غير طبيعية على اكتشاف المياه الجوفية وإن لم توجد أي علامات تدل عليها فوق الرمال. 2 - (ذكريات الإمارات) الراوي خميس بن زعل الرميثي، المركز الوطني للوثائق والبحوث. 3- عبدالحفيظ خان، «خمسون عاماً في واحة العين»، الأرشيف الوطني. 4- الأطلس البيئي لإمارة أبوظبي، إصدارات هيئة البيئة أبوظبي. 5- ارتياد جزيرة العرب (سيرة كشوف رحالة الغرب ومغامراتهم في أرض الجزيرة) دافيد جورج هوجَرث، إصدارات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. 6- خارطة الخليج العربي في العصر الجليدي الأخير/‏‏‏‏ أرشيف الباحث نبيل يوسف الشيخ يعقوب/‏‏‏‏ ضمن محاضرة في مقر جمعية تاريخ وآثار البحرين 1 نوفمبر 2006م.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©