الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خلود الحب

خلود الحب
29 سبتمبر 2016 12:25
هاشم صالح هناك قصص حب شهيرة عديدة في التاريخ الأوروبي، نذكر من بينها قصة أبيلار وهيلويز، ودانتي وبياتريس، وبالطبع روميو وجولييت، هذا دون أن ننسى أراغون وإيلزا. ألا تتذكرون قصة مجنون إيلزا التي تشبه مجنون ليلى حرفياً؟ وهو ما اعترف به أراغون عندما نشر ديوانه «مجنون إيلزا». وهو يعكس إعجابه الهائل بالثقافة العربية الإسلامية والتاريخ المجيد. وعلى مدار صفحاته نشتم رائحة الأندلس وعطر حضارتها الخالدة. وبالتالي فمجنوننا الرائع شهير وأدبنا عالمي. لكن ماذا عن سلفادور دالي؟ هل ذاق طعم الحب؟ دالي يقع في الحب في عام 1929 كان الصيف قائظاً جداً. ولذا دعا الرسام أصدقاءه الباريسيين إلى قضاء العطلة الصيفية في قريته الواقعة على الشواطئ الإسبانية، حيث السباحة والنسيم المنعش والبحر العريض.. ولكن للأسف فإن الضيوف صدموا بأزمات الضحك الجنونية أو الهستيرية التي كانت تصيب صاحب البيت بسبب ومن دون سبب. فقد كان يضحك بشكل متواصل تقريباً. كان جنونه السريالي أقوى منه. وكانوا يضحكون لأنه يضحك فقط من دون أن يعرفوا السبب. وأحياناً كانوا يخافون ويرتعبون من ضحكاته المجلجلة. وفجأة تغيرت الأمور عندما وصل الشاعر بول إيلوار وزوجته «غالا»، تلك الحسناء الروسية الأصل ذات الجمال السلافي الأخاذ. لقد وصلا مساء إلى بيت دالي كمدعوين أيضاً لقضاء بضعة أيام من الصيف على شاطئ البحر. ولم يعجب البيت غالا ولم ترتح لدالي في البداية، بل ارتعبت منه. ولذا قررت المغادرة صباح اليوم التالي حتى لا ترى هذا الشخص الغريب الأطوار. ولو لم تكن متعبة من السفر لربما غادرت المنطقة فوراً، ولكنها نامت بعمق بسبب عناء السفر والرحلة الطويلة. وفي صباح اليوم التالي عندما استيقظت ذهبت فورا إلى البحر برفقة زوجها الشاعر الشهير وبقية الضيوف. أما سلفادور دالي فقد تأخر في الاستيقاظ، كما أنفق الكثير من الوقت في انتقاء الثياب لأنه كان يريد أن يفاجئ الجميع بمظهر سريالي وثياب مزركشة تتجاوز حدود المعقول واللا معقول.. ولكن قبل أن يغادر المنزل، وفي آخر لحظة، ألقى نظرة من الشرفة على جهة البحر لكي يرى ماذا يفعل الضيوف، فوقع بصره فجأة على غالا هذه، وقد رآها واقفة ووجها للبحر، تدير ظهرها للشرفة ولدالي دون أي قصد منها، فوقع في حبها على الفور! من يستطيع تفسير الحب؟. وعندما التحق بهم أصبحت ضحكاته أقل، أو ربما تغيرت نوعية الضحك، فالحب الصاعق يفرض نفسه وجبروته حتى على شخص مجنون، مستهتر مثل سلفادور دالي. وشعرت «غالا» بأنه أحبها، فوقعت هي الأخرى في حبه وقررت على الفور الانفصال عن بول إيلوار على الرغم من أنها كانت زوجته ولها طفلة منه، وهذه الحكاية الواقعية تكشف أيضاً كم هي مجنونة بطريقتها الخاصة، أو لنقل إن الحب يصيب بالجنون بكل بساطة. على أي حال هكذا بدأت إحدى أكبر قصص الحب في القرن العشرين: حب سلفادور دالي وملهمته الحسناء غالا، هذا إذا ما استثنينا حب أراغون وإيلزا الروسية أيضاً. وفي ذلك الوقت لم يكن دالي معروفاً إذ أن شهرته لم تكن قد انطلقت بالقدر الذي صارت عليه مستقبلاً. كان دالي لا يزال رساماً مجهولاً، صحيح أن نار العبقرية كانت تضطرم في داخله ولكنها لم تكن قد تفتحت بعد. فجاء هذا الحب الصاعق في الوقت المناسب لكي يفجر كل طاقاته الإبداعية. وراح يرسم من الصباح وحتى المساء. واخترع عندئذ منهجيته المشهورة باسم: «المنهجية الهذيانية - الجنونية - النقدية»، وهي أعظم منهجية في التاريخ، فلا يمكن أن تبدع إن لم تكن فيك حبة جنون أو حتى حبات! ومع ذلك فإن سلفادور دالي كان يقول:«الفرق الوحيد بيني وبين المجنون هو أنني – أنا- لست مجنوناً». وهذا صحيح وغير صحيح في الوقت نفسه، فالواقع أن جنون العباقرة يختلف عن جنون الناس العاديين لأنه يؤدي إلى إبداع حقيقي في حين أن جنون الآخرين مجاني لا يؤدي إلى شيء. ثم نجح سلفادور دالي بجنونه الصارخ في رسم بعض اللوحات التي ستصبح فيما بعد روائع فنية خالدة. وهكذا خرج من مرحلة الفقر المدقع الذي كان يخجل منه لكي يلتحق بمرتبة الأغنياء الكبار. ويقال بأنه عندما كان يمشي في صالونات الأرستقراطية الفرنسية بباريس كان يتعثر مرتبكاً في السجادات ويكاد يسقط على الأرض خجلاً من عاره وفقره، ولكن بالحب تغير كل شيء. وأصبحوا يتراكضون عليه ويطلبون رضاه. أصبحت كل أمنياتهم أن يلتقطوا صوراً معه، أو أن يحظوا بتوقيعه، وكل ذلك بفضل غالا التي أحبته وأعطته الثقة بنفسه وشجعته على طول الخط. وقد اعترف بذلك لاحقاً وقال بأنها هي السبب في تفتح عبقريته ولولاها لما أصبح شيئاً يذكر. ولكن ماذا حصل لزوجها الشرعي بول إيلوار؟ بين عشية وضحاها أصبح صفراً على الشمال، وعاد إلى باريس بخفي حنين، أي بدون غالا. انتقل دالي وزوجته غالا من حياة الأكواخ الحقيرة إلى حياة القصور الباريسية بعد أن أصبحت لوحاته تباع بعشرات أو مئات الملايين من الدولارات. بل وأصبحت بلا سعر، أي فوق كل سعر ممكن. أصبحت ملكاً للمتاحف الفرنسية والأجنبية الكبرى، ولكن للأسف الشديد فإن نهاية هذا الحب لم تكن على مستوى بدايته. صحيح أن كل حب يضمحل شيئاً فشيئاً بمرور الزمن والعادة والألفة ولكنه لا يتحول إلى حقد أو كره، ومع ذلك فهذا ما حصل بين سلفادور دالي وغالا. ففي المرحلة الأخيرة من حياتهما أصبحا لا يطيقان بعضهما البعض. وراحت غالا تخونه مع كثيرين. راحت تسافر بدونه إلى إيطاليا وتنفصل عنه لشهور طويلة، ولكنها في كل صباح كانت تهاتفه لكي تطمئن على صحته وبالأخص النفسية. ثم اشترى لها دالي قصراً في إسبانيا ولكنها منعته من دخوله إلا بإذن شخصي لكيلا يكتشف وجود عشاقها معها. و الواقع أنها راحت تعيش في هذا القصر قصة حب جديدة مع شاب في عمر ابنها أو حتى حفيدها. وفي نهاية المطاف التحق بها دالي، غير أنها تحولت إلى امرأة غاضبة، كانت تشتمه أحياناً فيضربها بالعصا. وفي إحدى المرات كسر ذراعها وأصابها في عينها، ومع ذلك فقد بكاها بكاء مراً عندما ماتت العام 1982. وكان قد حفر قبرين، واحد لها والآخر له، وقد حانت ساعته عام 1990 حيث مات هو الآخر بعد ثمان سنوات من وفاتها. وهكذا جمع بينهما الموت بعد أن فرقت بينهما الحياة. زفايغ.. لماذا لم ينتحر لوحده؟ ننتقل الآن إلى قصة حب أخرى، ولكنها انتهت بالانتحار الثنائي إذا جاز التعبير. إنها تتحدث عن حب الكاتب النمساوي الشهير ستيفان زفايغ لزوجته شارلوت زفايغ. ومعلوم أنهما انتحرا معاً في البرازيل عام 1942 وفي عز الحرب العالمية الثانية. كان ستيفان زفايغ من أشهر كتاب أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين. وكان من أسرة غنية جداً ويملك من المال الكثير، وبالتالي فقد أتاح له هذا الغنى أن يتفرغ للكتابة ويؤلف سير العظماء من بلزاك، إلى ديستويفسكي، إلى نيتشه، إلى ريلكه، وغيرهم. وقد أمضيت شخصياً وقتاً طويلاً في قراءة مؤلفاته الشيقة واستمتعت بها. كان زفايغ مفكراً أيضاً وصاحب كتب لامعة في مجال الفلسفة والتاريخ، هذا بالإضافة إلى كتابة الروايات العديدة. باختصار كان الرجل قد جمع المجد من طرفيه، أو حتى من كل أطرافه، ومع ذلك فقد قرر الانتحار. فلماذا إذن؟ في الواقع لا يمكن تفسير هذا الانتحار المفاجئ الذي هز المثقفين الألمان وصعقهم، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار عدة عوامل منها أن ستيفان زفايغ كان متفائلاً بالحضارة الأوروبية المليئة بالنزعة الإنسانية. ولكن صعود النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا شوهت هذه الصورة الحضارية لديه، فراح ييأس من الإنسان والإنسانية والحداثة الأوروبية. وكان يعتقد أن هتلر سينتصر في الحرب، وبالتالي فلا أمل في المستقبل. ولذلك وضع حداً لحياته وانتحر، ولكن هناك تفسيرا آخر وهو أن زفايغ كان مصاباً بمرض نفسي عميق لا علاج له، وهو الذي دفعه في لحظة يأس وسوداوية قاتلة إلى اتخاذ قراره بالانتحار، ولكن لماذا فرض هذا القرار على زوجته الشابة التي لم تكن قد تجاوزت الرابعة والثلاثين من العمر؟ لماذا لم ينتحر بمفرده؟ أليست هذه أنانية بل وجريمة؟ أخلاقياً كان ينبغي أن ينتحر بمفرده ويتركها تعيش حياتها، فهو كان قد تجاوز الستين في حين أنها لم تتجاوز الثلاثين إلا بسنوات قليلة. كانت لا تزال في عز الشباب وأمامها فسحة طويلة من العمر. بل وحتى هو كان بإمكانه أن يعيش عشرين سنة إضافية. في الواقع لا أحد يعرف سر هذا القرار المفاجئ والمذهل الذي اتخذه ستيفان زفايغ يوم 22 فبراير من عام 1942. كل ما نعرفه هو أن بعض الكتاب الكبار يصابون أحياناً بأزمات نفسية حادة قد تؤدي بهم إلى ما لا تحمد عقباه. لماذا انتحر ارنست همنغواي بعد أن نال جائزة نوبل والشهرة والمجد العريض، ولم يكن قد تجاوز الستين إلا قليلاً؟ ولماذا جنَّ نيتشه وهو في عز الشباب: 45 سنة؟ وماذا عن دوستويفسكي، وجيرار دونيرفال، وبودلير، وريلكه؟ والقائمة طويلة... إنها أسئلة تفتح دائماً أبواب الحيرة في تفسير بين العبقرية والجنون.. وأيضاً الانتحار. لا عذر له عندما سمع توماس مان بانتحار زفايغ لم يصدق في البداية، ولكن عندما تأكد من النبأ لم يحزن عليه بقدر ما غضب غضبة هائلة. قال للمقربين منه: كيف ينتحر وهو الغني المترف؟ نحن الكتّاب الذين نعيش على حافة الفقر والجوع يمكن أن ننتحر، بل ويعذرنا التاريخ تماماً إذا ما انتحرنا، أما هو فلا شيء يعذره على الإطلاق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©