السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فوَرانُ المقدَّس

فوَرانُ المقدَّس
9 أغسطس 2017 20:11
كشفت حالة الاضطراب التي تعيشها البلاد العربية عن تخبّط في الوعي بالدين، وهو تخبّط يعود في عمقه إلى عدم تطابق أدوات المعرفة مع حقل المعرفة، حيث يستحضر «العقل الخامل» أدوات معرفية لاغية أو محدودة الأثر، متوهّماً قدرتها على فهم «الكائن المتدين» وحلّ إشكالياته العصيّة. فما الذي فات الدارس العربي لِيلج طور الحداثة في فهم الدين والتحكم بتشظيات المقدّس والإحاطة بتحولاته؟ المنهج اللاهوتي والمنهج العلمي بدءاً، يتلخّص الإسهام العلمي للمناهج الحديثة في دراسة الظواهر الدينية، وِفق ما أوضحه الفرنسي ميشال مسلان في كتاب «علم الأديان»، في التركيز على متابعة العلاقة الأفقية وتخطّي العلاقة العمودية في علاقة «الكائن المتدين» بالمقدّس. بوصف علم اللاّهوت هو علم معياري سياقاته مشروطة بمدى ما يتمتّع به الإيمان من صدق. أما علم الأديان، فلا يستطيع أن يكون محلّ إجلال أو إدانة، بسبب الموضوعية العلمية التي تصبغه. ذلك أن المقاربات اللاهوتية تجيب عن سؤاليْ: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ في حين يهتمّ علم الأديان بكلّ ما هو معتقَد من قِبل البشر. وبذلك يكون علم الأديان جملة القواعد والضوابط العامة -التي تخضع لها التجربة الدينية، تجربة الإنسان مع المقدّس- المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية. ولتتّضح معالم النهجين أكثر، أعود إلى التطرق إلى خاصيات مجالات اللاهوت، أو لنقل «العلوم الشرعية» بصياغة إسلامية. فهي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخية، تعبّر عن وجهة نظر المؤمن «الداخلية». حيث إن أصل كلمة «teo-logia» إغريقي، وفي مدلولها العربي تعني «خطاباً حول الله»، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت، حيث ينصبّ اهتمام علم اللاهوت على دراسة القضايا الفقهية والمسائل التشريعية، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيات، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الصلات بين العبد وخالقه، بغية تقديم نظام أخلاقي دنيوي، في وصال مع ما يتصوّر المؤمن أنه الحقيقة المطلقة. وتبعاً لخاصيات هذا العلم المعياري، فهو يرنو إلى إرساء علاقة سوية بين الإنسان وبارئه. أي ضمن أي السُّبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي. وبشكل عام تتميّز انشغالات هذا العلم بتوطيد علاقة عمودية تصل الإنسان بربّه، يتطلع فيها إلى تحقيق الانسجام الأمثل. وبالتالي يتكفّل علم اللاهوت بمعالجة الشعائر الدينية ضمن شروط الصحة والوجوب. في حين تحاول المقاربةُ العلمية سواء في شكلها السوسيولوجي أو الأنثروبولوجي فهْمَ أبعاد الممارسة الشعائرية وأثرها، مستهدِفة بلوغ مقصدها الأعلى دون خوض في شروط صحتها أو أدائها، ولكن بوصفها ممارسة اجتماعية أو رمزية داخل إطار زماني وحيز مكاني. وعلم اللاهوت في تنظيمه مجال الطقوس، هو محكوم أساساً بمنطق الجواز والبطلان، والطهر والنجاسة، والخلاص والخسران، والثواب والعقاب، والمشاركة والحرمان. لذلك تحوم مجمل إشكالياته حول ترسيخ سلوك المؤمن القويم، بغرض بلوغ خلاصه الأخروي وفلاحه الدنيوي. وفي الفضاء الإسلامي، وإن ارتقى التطور التشريعي والفقهي إلى حدّ ظهور علوم شرعية مختلفة على صلة بمتنيْ القرآن والحديث، فإن هذا التطور لم تصحبه متابعة خارجية في التعاطي مع الدين. نرجع ذلك إلى عدم توفر الشروط التاريخية المعرفية لذلك، وبقاء تفسير الأمور في حدود ما هو مفارق. إذ بافتقاد الإطار التاريخي المعرفي يتعذّر على الإنسان المتديّن إعادة قراءة تجربته، ومراجعة نسق مفاهيمه. ما أبقى المؤمن عامة في مستوى استهلاك الاعتقاد والقصور عن بلوغ مراتب تبيّن أصول الاعتقاد، وهو ما يتطلّب تجاوز حاجيات الغريزة إلى طرح تساؤلات الثقافة. وضمن السياق المشار إليه، الذي يتوزّع فيه النظر في الدين إلى ضربين: داخلي وخارجي، أو بوضوح إلى لاهوتي وعلمي، برزت خواص «علمية» تجمع بين مختلف المباحث المكوّنة لعلوم الأديان، على صلة بالمنهج التجريبي الوضعي في البحث، فضلاً عن المنهج الاستقرائي واختبار النتائج، بما يضمن حياد الملاحظ. تبيئة المناهج الحديثة على سبيل الذكر، خلّفت التطورات المبكّرة للمناهج العلمية، التاريخية والسوسيولوجية والنفسية، نفوراً داخل الأوساط اللاهوتية الغربية تقديراً أنها مدعاة للريبة والتشكيك في الإرث الديني؛ لكن تحوّلا مهماً طرأ في منتصف القرن الفائت، حيث بدأت الأوساط اللاهوتية في احتضان المناهج الحديثة، لا سيما منها السوسيولوجية والأنثروبولوجية. مستعينة بتلك المناهج لفهم عوامل تراجع الدين وزحف العلمنة، وجعل الإرث الديني يتلاءم مع العصر. وبالتالي جرت محاولات لهضم المداخل العلمية، مدفوعة بتوظيفها لصالح المعتقد الذاتي ودعمه. وإن أبدى اللاهوت المسيحي تخلّصا من الريبة من تلك المناهج الحديثة، مثمِّناً دورها وإسهامها في وعيه بذاته وبالعالم، فالجلي في الجانب الإسلامي غياب تلك المصالحة، ولا تزال قطيعة عميقة بين المناهج العلمية والعلوم الشرعية. والمسألة عائدة في الأساس إلى بيداغوجيا التكوين الديني في جامعات العلوم الإسلامية. ولو عدنا إلى أوضاع التوتر التي احتضنت المناهج العصرية، لتبيّن لنا حدّة تأثير الصراعات على السياقات العلمية، لاسيما في فرنسا إبان الثورة. مع خفوت ذلك التوتر في أوساط أخرى ساهمت في منشأ تلك المناهج، مثل الأوساط البروتستانتية. وعلى العموم ثمة تقليدان في معالجة الظاهرة الدينية من منظور علمي، أحدهما فرنسي «Sciences religieuses»، والآخر ألماني «Religionswissenschaft». ترافق منشأ الأول مع غلق كليات اللاهوت التابعة للدولة في فرنسا (1885) وتدشين قسم العلوم الدينية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، إذ جاء تدريس «تاريخ الأديان» في فرنسا، في 24 فبراير 1880، تعبيراً عن قطيعة مع تدريس اللاهوت في الجامعة الفرنسية. والتمشّي الذي استبدل دراسة اللاهوت بتاريخ الأديان هو التمشّي ذاته الذي حظر «الكاتكيزم» (التلقين الديني) في المدارس الإعدادية. إشكالية اللاّهوتي والعلمي عربياًلو تمعنّا أوضاع الدراسات الدينية العربية نلحظ هزال الأدوات العلمية في فهم الظواهر الدينية. إذ نجد المقاربة الإيمانية الداخلية (المقاربة الشرعية)، هي المهيمنة على النظر. ولا تزال المعالجة للدين وللكائن المتديّن مطروحة، على الوجه الأغلب، ضمن رؤية إيمانية، ولا يمكن الحديث حدّ الراهن عن خط منهجي تاريخي أو سوسيولوجي أو أنثروبولوجي. فالمبادرات فردية ومحدودة ولا ترد ضمن تراكم علمي وأكاديمي في دراسة الظواهر الدينية. وأبرز مظاهر هذا الوهن، ما يطفو من خلط في المصطلحات المتعلقة بدراسات الأديان والدراسات اللاهوتية في اللسان العربي لدى كثيرين، مثل عدم التفريق بين علم اللاهوت وعلم الأديان، وتاريخ الأديان ومقارنة الأديان، وعلم اجتماع الأديان وأنثروبولوجيا الأديان. فلو عدنا إلى مبحث العقيدة وعلم الكلام بالمنظور السائد في كليات العلوم الشرعية، نتبين الغياب اللافت للمقاربات العلمية. حيث لم يطوِّر الدارس الانفصال المطلوب، فضلاً عن حالة التقمص الحاصلة مع المعتقد الذاتي. لكن ما هو سائد، لا يعني أن تحقيق الانفصال متعذّر في حقل العلوم الشرعية، فبلوغ النضج المعرفي في العقل الشرعي الإسلامي، هو رهين وعي الدارس بالبنى الاجتماعية التي احتضنت تلك العلوم بشتى تنوعاتها الفقهية والحديثية والقرآنية والتفسيرية. وضمن  الحديث عن حاجة الثقافة العربية للانفتاح على المناهج الحديثة في دراسة الظواهر الدينية، يحضرني عملان رائدين في المجال: الأول وهو مؤلف المصري علي سامي النشار «نشأة الدين» (1948)، الذي حاول فيه الإتيان على «الفكرتين الرئيستين المسيطرتين على النظريات الدينية وهما: فكرة التطور وفكرة التوحيد أو الوحي الأول»، وإن كان علم الأديان قد تخطى سؤال المصدرية إلى رصد تجليات الفعل الديني بأشكاله كافة؛ والثاني كتاب التونسي محسن العابد «مدخل في تاريخ الأديان» (1973)، وهو كما أراده صاحبه أن يكون مدخلاً للعلوم الحديثة في تناول الظاهرة الدينية. ينبغي أن نقرّ إن اطّلاع النشار والعابد ما كان سطحياً على المناهج الغربية في معالجة الظاهرة الدينية وعلى القراءات الحديثة، ولكن تأثيرهما في جيليهما أو في الأجيال اللاحقة، بقي محدوداً، مع أن الرجلين شغلا مهام جامعية نافذة. أذكر قولا لمحسن العابد، حين كنت طالباً في تونس، متحدثاً فيه عن العراقيل التي واجهت بعث تخصص دراسات الأديان في جامعة الزيتونة «ما أبنيه على مدى سنوات يُشطَب في لحظة، ثمة عقليةٌ منطوية على ذاتها ومكتفية بما لديها تأبى التطلع إلى أفق أعلى». علم الاجتماع الديني  والأنثروبولوجيا الدينية ينظر علماء الاجتماع إلى الدين اليوم بمثابة مؤسسة، تطورت بموجب حاجة اجتماعية. والمسار الذي يتّبعه هؤلاء العلماء يتمثّل في تتبّع التواشج بين البنى الاجتماعية والسلوكات الدينية، بقصد تسليط الضوء، من جانب، على الاعتقادات الدينية، إن كانت - بشكل ما - مشروطة بالنظام الاجتماعي، ومن جانب آخر، لرصد الآثار العملية للدين في النظام الاجتماعي. هذا وقد ظهر علم الاجتماع الديني كمدخل لفهم دور الدين في هندسة المجتمع، وحافظ على ذلك الدور ضمن دراسة آثار سياقات التديّن. هذا الدور المحوري لعلم الاجتماع يبدو غائباً في فهم الدين لدينا بعد أن تحول إلى مؤسسة فاعلة مع أننا في أمس الحاجة إلى ذلك. والأمر ذاته يتعلق بالأنثروبولوجيا الدينية. فمع الرائدين إدوارد تايلور (1832-1917) وجيمس جورج فريزر (1854 - 1941) تركز الاهتمام في دراسة الأديان البدائية، وتمحورت الانشغالات حول أصول الدين وتطوراته. وهو ما جرى هجرانه لاحقا نحو أسئلة اجتماعية مع برونيسلاو مالينوفسكي (1884 - 1942) وإيفانز بريتشارد (1902- 1973)، إبان فترة ما بين الحربين، هدفت إلى تتبّع الوظيفية السوسيولوجية الدوركهايمية، أي الوظائف التي يتخذها الدين في علاقته مع مختلف المؤسسات الدينية والممارسات الاجتماعية. أيضاً تركز البحث فترة ما بعد الحرب على نقيض الاهتمام السالف، في تعميق البحث في طبيعة الدين ذاته من خلال تحليل الرمزية الدينية ودراسة السياقات الطقوسية. والجلي في خضمّ هذه التحولات أن مناهج قراءة الظاهرة الدينية في الزمن المعاصر ما عاد يشغلها سؤال المنشأ، أعني منشأ الشعور الديني أو أصول الاعتقاد، وأضحى الهاجس يحوم حول «الإنسان المتدين» وبالمثل «الإنسان غير المتدين» داخل تفاعلات التاريخ الراهن، إذ ثمة إعادة ترتيب للأولويات. أورد أبوحامد الغزالي في «المنقذ من الضلال» «إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، على كثرة الفرق وتباين الطرق، بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي». تطوافي بين الزيتونة في تونس والغريغورية في روما كشف لي ألاّ سبيل للخروج من ورطة فوران المقدس في بلاد العرب، سوى بالتعويل على تبْيِئة المناهج العلمية الحديثة في دراسة الظواهر الدينية، لتصحيح النظر للعقول المصادَرة وإعادة السكون للأنفس المستنفرة، وإن يوما لناظره لقريب. تأصيل اصطلاحي اللاهوت، أو لنقل «العلوم الشرعية» بصياغة إسلامية، هي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخية، تعبّر عن وجهة نظر المؤمن «الداخلية»، حيث إن أصل كلمة «teo-logia» إغريقي، وفي مدلولها العربي تعني «خطابا حول الله»، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت. حيث ينصبّ اهتمام علم اللاهوت على دراسة القضايا الفقهية والمسائل التشريعية، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيات، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الصلات بين العبد وخالقه، بغية تقديم نظام أخلاقي دنيوي، في وصال مع ما يتصوّر المؤمن أنه الحقيقة المطلقة. وتبعاً لخاصيات هذا العلم المعياري، فهو يرنو إلى إرساء علاقة سوية بين الإنسان وبارئه. أي ضمن أي السُّبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي. زعم النجاة «إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، على كثرة الفرق وتباين الطرق، بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي». أبو حامد الغزالي في  «المنقذ من الضلال» أثر محدود ضمن الحديث عن حاجة الثقافة العربية للانفتاح على المناهج الحديثة في دراسة الظواهر الدينية، يحضرني عملان رائدان في المجال: الأول وهو مؤلف المصري علي سامي النشار «نشأة الدين» (1948)، الذي حاول فيه الإتيان على «الفكرتين الرئيستين المسيطرتين على النظريات الدينية وهما فكرة التطور وفكرة التوحيد أو الوحي الأول»، وإنْ كان علم الأديان قد تخطى سؤال المصدرية إلى رصد تجليات الفعل الديني بكافة أشكاله؛ والثاني كتاب التونسي محسن العابد «مدخل في تاريخ الأديان» (1973)، وهو كما أراده صاحبه أن يكون مدخلاً للعلوم الحديثة في تناول الظاهرة الدينية. ينبغي أن نقرّ بإن اطّلاع النشار والعابد ما كان سطحياً على المناهج الغربية في معالجة الظاهرة الدينية وعلى القراءات الحديثة، ولكن تأثيرهما في جيليهما أو في الأجيال اللاحقة، بقي محدوداً، مع أن الرجلين شغلا مهام جامعية نافذة. أذكر قولاً لمحسن العابد، حين كنت طالباً في تونس، متحدثاً فيه عن العراقيل التي واجهت بعث تخصص دراسات الأديان في جامعة الزيتونة «ما أبنيه على مدى سنوات يُشطَب في لحظة، ثمة عقليةٌ منطوية على ذاتها ومكتفية بما لديها تأبى التطلع إلى أفق أعلى». انحسار الرّيبة خلّفت التطورات المبكّرة للمناهج العلمية، التاريخية والسوسيولوجية والنفسية، نفوراً داخل الأوساط اللاهوتية الغربية تقديراً أنها مدعاة للريبة والتشكيك في الإرث الديني؛ لكن تحوّلاً مهماً طرأ في منتصف القرن الفائت، حيث بدأت الأوساط اللاهوتية في احتضان المناهج الحديثة، لاسيما منها السوسيولوجية والأنثروبولوجية. مستعينة بتلك المناهج لفهم عوامل تراجع الدين وزحف العلمنة، وجعل الإرث الديني يتلاءم مع العصر. وبالتالي جرت محاولات لهضم المداخل العلمية، مدفوعة بتوظيفها لمصلحة المعتقد الذاتي ودعمه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©