الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حركة تحرير من عَمى التعصبّ الديني

حركة تحرير من عَمى التعصبّ الديني
9 أغسطس 2017 20:05
في كتابه «هرطقات.. عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية»، يذهب خبير العلمانية جورج طرابيشي إلى أن الخطاب الفكري العربي الحديث استدمج في تضاعيفه العديد من المصطلحات الإيديولوجية والمفاهيمية من قبيل القومية والأممية والرأسمالية والاشتراكية والليبرالية والفاشية والرومانسية والسريالية والبنيوية واللاأدرية...إلخ، ونجح في التداول المعرفي والنقدي فيها؛ غير أن مفهوماً واحداً في رأيه لم يعرف طريقه إلى التبّيئة، ألا وهو «العلمانية»؛ «فهذا المصطلح ما فتئ يُعامل منذ لحظة اكتشاف وجوده معاملة القريب الفقير. ولئن استطاع المصطلح أن يفرض نفسه في المشرق العربي، حيث ثمة وجود لأقليات مسيحية، فاستعار من قاموسها اللاهوتي تعبير (العلماني) بالتعارض مع (الإكليركي)، أي مَنْ ليس رجل دين وكنيسة، فإنه في المغرب، حيث لا وجود لتلك (الأقليات)، لم يفلح إلا في أن يلجأ إلى التعريب الحرفي، فبات يقال للعلمانية (لائكية)». ولكن بغض النظر عن اللفظ ذاته، والكلام لجورج طرابيشي، «فإن المفهوم لم يفلح قط في أن يفوز بحقوق المواطنة؛ فقد بقي على امتداد عقود بكاملها منبوذاً، متجاهلاً، متحاشى، مستبعداً من أي تأسيس نظري، حتى من العلمانيين أنفسهم ممن أرادوا أن يمارسوا العلمانية على طريقة بطل موليير في ممارسة النثر، أي كما لو بغير علمهم». وعلى الرغم من ذلك كله، بدأ مفهوم العلمانية يشقّ طريقه عربياً للظهور من جديد، وعلى قاعدة رفض التديّن السياسي، وسعي الإسلام السياسي العربي بكل السبل للسيطرة على الدولة العربية الحديثة وفرض «تشريعه الديني» عليها ولو بالإرغام والإكراه. كما بدأ مفهوم العلمانية يشهد تفهّماً من شرائح مجتمعية عربية وإسلامية عدة، تراهن على بلورة ذلكم الوعي المجتمعي العربي العام، الذي بدأ يقبل مبدأ أن العلمانية هي ذاك النظام السياسي الذي لا يسيء للدين والمعتقدات الدينية على اختلافها في بنية الدولة الحديثة الواحدة، بل على العكس، بدأت هذه الشرائح تعي أن النظام العلماني، هو الذي يضمن حرية المعتقد الديني في إطار القانون المدني ومدنيّة الدولة الحافظة لحقوق الجميع؛ وهو ما كان، ولا يزال، يسبّب تهديداً جذرياً للإسلام السياسي الذي يستخدم ورقة الدين الحنيف تكئة لاستبداده المجتمعي والدولتي، خاصة في حال وصوله إلى السلطة، وذلك على غرار خطابات الإخوان المسلمين وأضرابهم ممن شوهوا الإسلام كدين اعتدال وفطرة، وشوهوا العروبة، وشوهوا العدالة، وشوهوا التراث، وتسببوا بكل هذه الفوضى السياسية والمفهومية التي نعيش لجج اضطرابها المخيف اليوم، والتي تستهدف فعلاً وحدة مجتمعاتنا العربية، راهناً ومستقبلاً. وقبل أن نفصّل في ذلك أكثر، لا بدّ من إلقاء الضوء على مفهوم العلمانية، هذا الذي يحيط به غموض بالنسبة إلى كثيرين في بلداننا العربية والإسلامية. ولجلاء هذا الغموض، لا بدّ من الرجوع بالمفهوم الأوروبي للعلمانية (نشأت العلمانية خلال عصر التنوير الأوروبي على يد فولتير وتوماس جيفرسون) إلى سياقه التاريخي عندما تمّ إبعاد الكنيسة عن ممارسة السلطة السياسية أو الإدارية، خصوصاً في مجال التعليم؛ وذلك بإعادة السلطة السياسية إلى العالم الدنيوي أو الزمني (الناس، الشعب) واستعادتها من العالم العلوي الذي تزعم الكنيسة أنها تمثله. غير أن هذا العالم ليس مجرداً أوخلواً من الأديان، بل إنه بخليط ألوانه وأديانه وثقافاته وانتماءاته المختلفة، هو مصدر السلطة السياسية التي تضع القوانين الصالحة لإدارة شؤون المجتمع والدنيا، بعيداً عن القوانين أو الشرائع الدينية المتصلة بالآخرة، بحيث يصبح جميع الناس في هذا العالم، لا في العالم الآخر، متساوين في الانتماء الديني، أي مواطنين. ومن هنا جاء امتزاج، بل اندماج العلمانية بالديمقراطية. إذاً، لا يمكن للمواطنة إلا أن تكون علمانية، وذلك لضمان فتح مجالات المشاركة أمام المواطنين (على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم) في عملية خدمة الوطن، لا سيما أن مفهوم المواطن في سياق نشوئه وتطوره في تاريخ الفكر السياسي، مرتبط أساساً بالمساواة المطلقة بين رعايا الدولة الواحدة، لا فرق بين الواحد منهم والآخر من حيث الانتماءات الأخرى، مهما اختلفت، باستثناء الانتماء إلى الوطن/&rlm&rlm الدولة/&rlm&rlm المدينة. فالعلمانية لا تكون إلا في دولة ديمقراطية تستمد شرعيتها من الناس، أي من صناديق الاقتراع؛ والدولة العلمانية تحترم جميع الديانات والمعتقدات، لكنها لا تعترف بأي معتقد أو تنحاز إليه، وذلك انطلاقاً من واجبها الأساسي، حفظ المساواة بينها جميعاً. هكذا تقف العلمانية بين التديّن ونقيضه (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، فلا تتبنى ديناً معيناً، ولا ترفض ديناً بعينه؛ لذا يمكن القول إن العلمانية تتميز برفض مزدوج: - رفض إلحادية الدولة (في الدستور الفرنسي العلماني إشارة صريحة إلى واجب الدولة احترام جميع الأديان). - رفض أن يكون للدولة أي دين (ولذا لا يمكن للدولة أن تدرج في برامج التعليم الرسمية تعليم أي دين من الأديان)، وذلك بغية تأمين كامل الحرية والمساواة بين المواطنين في مجال الدين والمعتقد والرأي وتكوين الرأي. قيم باتت عالمية تبدو العلمانية وسيلة لوصل الرابط الاجتماعي بقيم يقر الجميع بأنها باتت عالمية؛ ولفهمها يمكن الرجوع إلى بعض ما ورد في الدساتير الفرنسية: ينص دستور الجمهورية الخامسة (1958) في مادته الثانية على أن «فرنسا جمهورية علمانية ديمقراطية وغير قابلة للتجزئة. تضمن المساواة أمام القانون لجميع مواطنيها من دون تمييز في اللون ولا في العرق ولا في الدين، وتحترم جميع المعتقدات». تشدّد مقدمة الدستور على التمسك بحقوق الإنسان ومبادئ السيادة الوطنية، كما وردت في إعلان الثورة الفرنسية في العام 1789 التي أثبتتها وأكملتها مقدمة دستور العام 1946. تتضمن هاتان الوثيقتان القيم التي يقوم عليها الرابط الاجتماعي وتحدد معنى العلمانية. كما تنص مقدمة دستور العام 1948 على «أن لكل إنسان حقوقاً مقدسة، لا يمكن التنازل عنها، وذلك من دون أي تفرقة في العرق والدين والمعتقد». وتنص المقدمة عينها على أن من واجب الدولة أن تنظّم تعليماً مجانياً وعمومياً وعلمانياً على جميع المستويات. وتستند هذه المقدمة إلى جميع المبادئ التي تتبناها قوانين الجمهورية، ومن بينها مبدأ فصل الكنيسة (بمذاهبها كافة) الذي أقرّ في العام 1905 ومبدأ حرية التعليم ومبدأ الاعتقاد وتكوين الرأي. العلمانية إذاً نظام سياسي اجتماعي لا يعترف بأفضلية دين على آخر، لكنه لا يُنكر في الوقت نفسه أي دين من الأديان، بل يعترف بها جميعاً ولكن على قاعدة واحدة من المساواة. وهي ليست قانوناً أو نظاماً قضائياً، وإنما هي ثقافة وأنساق أخلاقية وحركة تحرير من وطأة التعصّب الديني المتّسم بالسيطرة على العقل عن طريق خطاب مُسمط جاهز يرفض أي جدال. مقطع القول، إن العلمانية، وبحسب البعض، هي حد سياسي يلقي على الدولة دور منع توظيف الدين في السياسة من أجل تحقيق المساواة بين المواطنين في المشاركة بالشأن العام؛ بمعنى أن ليس من حق الدولة التدخل في الأفكار ما دامت أفكاراً لا تستند إلى الدين، بغض النظر عن مصدرها؛ لكنها تتدخل حينما يجري السعي لتحويلها هي ذاتها إلى دولة دينية؛ وحينما يستخدم أي كان الأفكار لكونها أفكاراً دينية وليست أفكاره الخاصة. اللعب بالمقدس في السياسة هكذا فإن العلمانية تشكّل تهديداً للإسلام السياسي، لا سيما حركة الإخوان المسلمين الذين دأبهم كان ولا يزال، اللعب بالمقدس من أجل الوصول إلى أغراضهم السياسية التي باتت مكشوفة للجميع، بمن فيهم أولئك المؤيدون لهم من غير المنضوين في حزبهم. ولذلك كانوا (أي الإخوان) حرباً عِواناً على العلمانية كمفهوم سياسي مسؤول وجامع، ولأنها تفضح مشاريعهم السياسية باسم الدين؛ ولذلك رفعوا شعار «لا للعلمانية، نعم للإسلام»، كأن الإسلام نقيض العلمانية.. رفعوا هذا الشعار، بغية الحدّ من قيام الدولة المدنية، الضامنة لحقوق الجميع والمدافعة عن حريات الجميع. نعم، إن الأمر مع جماعة الإخوان، يتجاوز حدّ الشبهة والاتهام عند الباحث المغربي الصديق عبدالإله بلقزيز، الذي يرى بأن العرب والمسلمين يشهدون اليوم هذه الظاهرة الخطيرة من تسييس الدين على نحو بالغ وغير مسبوق. وللدقة، فهم يشهدونها منذ ما يزيد قليلاً على ثمانين عاماً، أي منذ قيام حسن البنا بـتأسيس جماعة الإخوان المسلمين وتدشين فكرة الدولة الإسلامية في الوعي السياسي العربي الحديث والمعاصر قبل أن يستفحل التعبير عنها في خطابات حركية إسلامية مغالية، حادت بها عن معناها البنّاوي المعتدل وذهبت بها إلى نهايات ثيوقراطية مخيفة وانتحارية في الخمسين عاماً الأخيرة. باختصار، بميلاد أول حركة سياسية إسلامية في الوطن العربي في نهاية عشرينيات القرن العشرين (جماعة الإخوان المسلمين)، يقع التحوّل للمرة الأولى في العصر الحديث، في الاستراتيجية القاضية بإقامة المشروع السياسي على الدين، من استراتيجية رسمية ارتبطت بالدولة وابتدرت بها هذه، إلى استراتيجية أهلية غير حكومية تخوض فيها جماعات سياسية. لقد ولد «الإسلام الحزبي» من رحم استراتيجية التلاعب بالمقدس التي مارستها الدولة «الحديثة»، وفي مواجهتها بإعمال مفرداتها ومشروعياتها التأسيسية عينها، ولكن في أفق حسابات سياسية مختلفة. قد لا يكون «الإسلام الحزبي» أول مظهر تاريخي حديث للاقتران بين الدين والمشروع السياسي الأهلي، لأن الطرق الصوفية فعلت ذلك منذ القرن الثامن عشر، لكنه - قطعاً - أشد مظاهر ذلك الاقتران وضوحاً وأكثرها ذهاباً بالإسلام في معترك السياسة والصراع على السلطة وتغليباً للسياسي على الإيماني والأخلاقي والتربوي في منظومة الإسلام العقدية والثقافية. ويذهب عبد الإله بلقزيز إلى أنه ومنذ انتقل تسييس الدين من نطاق الدولة إلى نطاق المجتمع، وولدت الحركات الإسلامية في امتداده، بدا واضحاً أن حدود تسييسه لن تكون نهائية، وإنما ستفتحها الصراعات الاجتماعية على الاحتمالات كافة، وسيؤدي ذلك كله في المحصلة إلى إعداد مجتمع إسلاموي جديد يطعن، حتى في إسلامية المجتمع نفسه، لا الدولة الإسلامية فحسب. ومن هنا نجد أن الدولة العلمانية باتت ضرورة قصوى للمسلمين قبل غيرهم... «باتت مطلباً إسلامياً» على حد تعبير د. جورج طرابيشي، خاصة في المشرق العربي، وذلك حفظاً لدين المسلمين أنفسهم ولتراثهم وهويّتهم التي نشأوا عليها منذ قرون طويلة. وبعد تشديده على الطابع المدني لكل تكوين حزبي في المجتمع، سواء أكان إسلامياً أم علمانياً بغية حفظ الفارق بين المطلق والنسبي، بين مجال العقائد ومجال المصالح، يدعو الصديق بلقزيز إلى احترام الطابع المدني للدولة وعدم الاستقواء بميزان القوى الانتخابي لتغيير هويتها؛ فالدولة كيان اجتماعي عام ومجرد يعلو على مكوّناته من القوى الاجتماعية المتعيّنة. ولا توجد هناك دولة مؤمنة أو دولة ملحدة، مواطنوها هم من يؤمنون أولا يؤمنون. وليس هي من يحاسب الناس على إيمانهم أو عدم إيمانهم، ولا تقوم مقام السماء في ذلك. إن النظر إليها بهذا المنظار تَعَالٍ بها عن مجالها الموضوعي النسبي الذي استلزم وجودها، وهو التعبير عن المصلحة العامة الجامعة وإدارتها وبحث عن غاية خارجة عنها. وأمام إصرار حزب الإخوان المسلمين وما اشتق ويشتق عنهم من الذين يدعون باستمرار إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الدولة التي يدعون إليها، يجيب الباحث عبد الإله بلقزيز بما مختزله أن الأحكام هذه قابلة للتأويل، وقد تأوّلها المسلمون منذ زمن الصحابة واختلفوا في تطبيقها (موقف عمر بن الخطاب من الحدود في عام الرمادة، وموقفه من آيات قسمة الفيء في سورة الأنفال بعدم قسمة الأرضين على المُقاتِلَةِ). والتأويل اجتهاد، وقد يصح ولا يصح، فيكون تطبيق الشريعة، في حقيقة أمره، تطبيقاً لتأويل من تأويلات الشريعة، أي يصبح في المطاف الأخير اجتهاداً بشرياً يخلو من أية معصوميّة وغير قابل لمطابقته مع النص. باختصار، وحسب رأي الصديق بلقزيز، أن أي حديث اليوم في علاقة الدين بالدولة من مدخل الإلحاح على «إسلامية الدولة» أو أسلمتها، أو إقامة نظامها على أحكام الدين، إنما هو يزعم لنفسه دوراً رسالياً ليس له، ولم تكلفه به السماء، ولا ورثه عن الرسول الكريم؛ فما ينطق به من ينطق به، لا يعدو كونه رأياً رآه وموقفاً سياسياً انتحله لنفسه وشاء أن يسبغ عليه رداء من المشروعية المتعالية عن طريق استثمار المقدس الديني في بناء الخطاب السياسي. وإذا كان من حقوق المتحدث في المسألة أن يستلهم مثاله في السياسة من تاريخ الإسلام، حيث لا أحد يملك أن يجحد حقه هذا، فليس له أن يعرضه على الناس بحسبانه الدين أو موقف الدين (الإسلام) من السياسة والسلطة والدولة على ما يزعم الكثيرون، وإنما من حيث هو استلهام يجتهد في الاقتباس، وفي الاستفادة من الخبرة التاريخية للعرب والمسلمين. وهو ليس يلزم أحداً إلا من اقتنع به، لأنه ليس قرآناً منزّلاً ولا فرضاً من فروض الدين. أما التمادي في المماهاة بين الدين والمشروع السياسي، فلا شيء سينجم عنه غير الإيقاع بين المسلمين المختلفين مذاهب، وتحويل حياة المواطنين إلى حقل تجارب لطوبويات سياسية جديدة. في المقابل وفي إطار كلامه عن العلمانية، لا يرى الصديق بلقزيز في العلمانية فلسفة في الدين والعقيدة والإيمان حتى تتخذ موقفاً معرفياً من الدين: إيجاباً أو سلباً، وإنما هي حصيلة للفلسفة السياسية الحديثة التي أنتجت مجال السياسة المستقل وجهّزته بالقواعد العصرية التي تجعله مجال تنافس مدني متحضر؛ وقبل ذلك مجال تمثيل أمين للقوى وتعبيراً حراً عن المطالب والغايات. ولذلك فالعلمانية لا تحارب الدين ولا تناصره وإنما تتخذ إزاءه موقفاً محايداً حين يتعلق أمره بالشأن العام ومساحة الخاص، حيث الخلط بينهما لا يجوز في منظور العلمانية. الكلمة الرجيمة  لا يمكن للإخواني أن يتصالح حتى مع مصطلح «العلمانية» نفسه كثقافة، فهو بالنسبة إليه مصطلح «رجيم» كيفما قلّبت به أمامه، تداولاً ونقاشاً وحتى نقداً للمصطلح نفسه. وعندما ذكرت مرة أمام شاب جامعي لبناني (يحضّر رسالة ماجستير في القانون الدولي) عن ضرورة قراءة كتاب «النبي والجمهورية» لإمام مسجد مرسيليا السابق في فرنسا صهيب بن شيخ، انبرى من فوره بالإجابة: «هذا رجل دين علماني، ملحد وفاسد».. وكيف حكمت عليه يا هذا بالإلحاد والفساد، هل قرأت كتابه المذكور؟ سألته فأجاب: «لا.. لا لم أقرأ كتابه، ولن أقرأه، لأن شيخي أخبرني بذلك، وأنا أثق بشيخي الذي قال إن (صهيب) هذا دعا في كتابه إلى «إسلام معلمن». وهل يكفّر شيخك إماماً مسلماً يصلّي وراءه الآلاف في مسجد مرسيليا لمجرد أنه دعا إلى فكرة إسلام معلمن؟.. أجاب: «لا أعرف.. لا أعرف ولكن شيخي حكم عليه بأنه علماني والعلمانية بالنسبة إليّ، وإلى شيخي في الأساس، هي الكفر البواح». ومن ذنوب هذا الشيخ الجزائري إمام مسجد مرسيليا، أنه كان يدعو في خطابه الديني إلى أن يعيش مسلمو فرنسا بأمن ووئام مع مجتمعهم الفرنسي، وأن يجمعوا بين أصول دينهم وبين رقيّ مجتمعهم الجديد الذي ينتمون إليه. واعتبر مذنباً كبيراً أيضاً لأنه صرّح للصحافة مرة، بأن على المسلم الفرنسي أن يجدّ ويجتهد ويتزوّد قدر استطاعته بالعلوم والمعارف ليحصل على المكانة المرموقة لموقعه ودوره في فرنسا، وبالتالي كان يتمنّى على الدولة الفرنسية ألا تساعد المسلمين الفرنسيين كمسلمين، ولكن باعتبارهم آلياً من المشاركين إيجاباً في الحياة الاجتماعية الفرنسية. يقول الدستور ينص دستور الجمهورية الخامسة (1958) في مادته الثانية على أن «فرنسا جمهورية علمانية ديمقراطية وغير قابلة للتجزئة. تضمن المساواة أمام القانون لجميع مواطنيها من دون تمييز في اللون ولا في العرق ولا في الدين، وتحترم جميع المعتقدات». تشدّد مقدمة الدستور على التمسك بحقوق الإنسان ومبادئ السيادة الوطنية، كما وردت في إعلان الثورة الفرنسية في العام 1789 التي أثبتتها وأكملتها مقدمة دستور العام 1946. تتضمن هاتان الوثيقتان القيم التي يقوم عليها الرابط الاجتماعي وتحدد معنى العلمانية. كما تنص مقدمة دستور العام 1948 على «أن لكل إنسان حقوقاً مقدسة، لا يمكن التنازل عنها، وذلك من دون أي تفرقة في العرق والدين والمعتقد». وتنص المقدمة عينها على أن من واجب الدولة أن تنظّم تعليماً مجانياً وعمومياً وعلمانياً على جميع المستويات. وتستند هذه المقدمة إلى جميع المبادئ التي تتبناها قوانين الجمهورية، ومن بينها مبدأ فصل الكنيسة (بمذاهبها كافة) الذي أقرّ في العام 1905 ومبدأ حرية التعليم ومبدأ الاعتقاد وتكوين الرأي. المرفوضة الخطاب الفكري العربي الحديث استدمج في تضاعيفه العديد من المصطلحات الإيديولوجية والمفاهيمية من قبيل القومية والأممية والرأسمالية والاشتراكية والليبرالية والفاشية والرومانسية والسريالية والبنيوية واللاأدريّة...إلخ، ونجح في التداول المعرفي والنقدي فيها؛ غير أن مفهوماً واحداً في رأيه لم يعرف طريقه إلى التبّيئة، ألا وهو «العلمانية»؛ «فهذا المصطلح ما فتئ يُعامل منذ لحظة اكتشاف وجوده معاملة القريب الفقير. ولئن استطاع المصطلح أن يفرض نفسه في المشرق العربي، حيث ثمة وجود لأقليات مسيحية، فاستعار من قاموسها اللاهوتي تعبير «العلماني» بالتعارض مع «الإكليركي»، أي مَنْ ليس رجل دين وكنيسة، فإنه في المغرب، حيث لا وجود لتلك «الأقليات»، لم يفلح إلا في أن يلجأ إلى التعريب الحرفي، فبات يقال للعلمانية «لائكية». ثيوقراطية مخيفة وانتحارية إن الأمر مع جماعة الإخوان، يتجاوز حدّ الشبهة والاتهام عند الباحث المغربي عبدالإله بلقزيز الذي يرى بأن العرب والمسلمين يشهدون اليوم هذه الظاهرة الخطيرة من تسييس الدين على نحو بالغ وغير مسبوق. وللدقة، فهم يشهدونها منذ ما يزيد قليلاً على ثمانين عاماً، أي منذ قيام حسن البنا بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وتدشين فكرة الدولة الإسلامية في الوعي السياسي العربي الحديث والمعاصر. ويذهب عبد الإله بلقزيز إلى أنه ومنذ انتقل تسييس الدين من نطاق الدولة إلى نطاق المجتمع، وولدت الحركات الإسلامية في امتداده، بدا واضحاً أن حدود تسييسه لن تكون نهائية، وإنما ستفتحها الصراعات الاجتماعية على كل الاحتمالات، وسيؤدي ذلك كله في المحصلة إلى إعداد مجتمع إسلاموي جديد يطعن، حتى في إسلامية المجتمع نفسه، لا الدولة الإسلامية فحسب. ممنوع اللعب في المقدس العلمانية، وحسب البعض، هي حد سياسي يلقي على الدولة دور منع توظيف الدين في السياسة من أجل تحقيق المساواة بين المواطنين في المشاركة بالشأن العام؛ بمعنى أن ليس من حق الدولة التدخل في الأفكار ما دامت أفكاراً لا تستند إلى الدين، بغض النظر عن مصدرها؛ لكنها تتدخل حينما يجري السعي لتحويلها هي ذاتها إلى دولة دينية؛ وحينما يستخدم أي كان الأفكار كونها أفكاراً دينية وليست أفكاره الخاصة. هكذا فإن العلمانية تشكّل تهديداً للإسلام السياسي، ولاسيما حركة الإخوان المسلمين، الذين دأبهم كان- ولا يزال- اللعب بالمقدس من أجل الوصول إلى أغراضهم السياسية التي باتت مكشوفة للجميع، بمن فيهم أولئك المؤيدين لهم من غير المنضوين في حزبهم. ولذلك كانوا (أي الإخوان) حرباً عواناً على العلمانية كمفهوم سياسي مسؤول وجامع، ولأنها تفضح مشاريعهم السياسية باسم الدين؛ ولذلك رفعوا شعار «لا للعلمانية، نعم للإسلام»، كأن الإسلام نقيض العلمانية.. رفعوا هذا الشعار، بغية الحدّ من قيام الدولة المدنية، الضامنة لحقوق الجميع والمدافعة عن حريات الجميع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©