الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإسلام والدّيمقراطيّة.. وعود أم إخفاقات؟

الإسلام والدّيمقراطيّة.. وعود أم إخفاقات؟
20 يونيو 2018 19:24
محمد أركون ترجمة : أحمد حميدة أمام غزارة الدراسات التي كتبت عن هذا الموضوع قد نحتاج أولا ً إلى تنقية مجال بحث لوثته المواقف الدفاعية المتهيجة والتمثلات الأيديولوجية المتشنجة، وذلك أمر ينسحب في الحقيقة على كل الدراسات التي تتناول بالتحقيق والتمحيص مسألة الإسلام المعاصر. لا تعود هذه البلبلة فحسب إلى الملايين من المؤمنين المتنازعين على أحقية الدفاع عن الإسلام «الأرثوذوكسي»، إسلام البدايات، كما أوحى الله به إلى عباده في خطابه السرمدي.. المقدس، إذ يساهم فيها أيضاً تزايد عدد المتخصصين في هذا الإسلام من الغربيين، سواء كانوا من الصحفيين الذين يَشِيّدون حقائق ثابتة ويُبدُون مواقف مطلقة، معقدة وظرفية، يلتمسونها في الغالب لدى الفاعلين «الإسلاميين»، أو كانوا من المتخصصين في الشؤون السياسية، أو من المؤرخين وعلماء الاجتماع، الذين يتولون تصريحاً وكتابة إشاعة معلومات «علمية» مزعومة عن مواضيع ومجالات، هي في الأصل غاية في التباين والالتباس. وقد ساهمت أحداث 11 سبتمبر 2001 في ترسيخ إرادة الوصول إلى تلك المعلومات، التي غالباً ما كانت تأتي متقادمة ونزوية، هوامية وجازمة، ومعبرة عن تصورات خيالية تشكلت منذ أمد بعيد في ظرفيات إسلامية وغربية مختلفة، فلم تكن بذلك معبرة عن توق حقيقي لاعتزال الخطابات ذات البعد التسلطي، المترافقة بدورها مع خطابات تجريم وبحث محموم عن «هويات قاتلة». كما نرى الكثير من الكتاب الموهوبين يساهمون في تغذية أدب يستجيب أكثر لإغراءات السوق منها إلى انتظارات الجماهير العريضة التي تريد أن تفهم على نحو أفضل مثل تلك الوضعيات المتضاربة. من ذلك أننا نرى مثلا كاتباً متألقاً مثل الطاهر بن جلون يوظف موهبته الأدبية لتقديم تفسير غاية في التبسيط «لإسلام موضح للأطفال»، فيما يتحدث ميشال هوالابيك عن الإسلام فينعته بالدين «القميء» الذي لا يجهر به غير البلهاء من الناس. وباستطاعتي أيضاً ذكر بعض الأسماء الكبيرة التي تتداول تصورات أقرها متضلعون في العلوم الإسلامية، استثمروا مكانتهم العلمية لتأييد تصورات جاهزة، غدت محتومة، يثيرها لدى معاصرينا مجرد التلفظ بكلمة «إسلام». لهذه الأسباب وغيرها، أراني بحاجة إلى أن أبدأ بتحديد مفهوم الديمقراطية، واستعراض التأويلات السياسية المختلفة لهذا المفهوم، قبل أن أتساءل عن أي إسلام نتحدث اليوم، وفي مقابل أية ديمقراطية، لأن منهج البحث القويم يستلزم استعادة أدوات فكرية لفّتها حجب كثيفة من التصورات المسبقة، حتى غدت عصية على الوضوح الذي يستلزمه التحليل النقدي الحصيف. ولن تكون الغاية هنا، هي فحسب تقديم بعض التفسيرات والتدقيقات عن ميدان لا ينفك يؤجج العواطف، ويضاعف من ضراوة التطاحن بين القوى المتصارعة، إذ سوف أسمح لنفسي برسم شروط التجاوز، تجاوز العوائق العقلية والثقافية والدينية والقانونية والمؤسساتية، التي لا تزال تحبط وتعطل مسار التجربة الديمقراطية وتحول دون اغتنائها في العالم الإسلامي الذي بات خاضعاً لضغوط صارمة: الضغوط الأيديولوجية «لنموذج إسلامي معياري» غدا متوهماً بصورة جماعية. أي ديمقراطية؟ تحيلنا المواجهة بين «الإسلام والديمقراطية» على تشابكات تاريخية بيّنة، تبرز في التعارض بين وضعيتين للفكر أمام المعرفة تتحكمان، بدورهما في مسائل محورية مثل الحقيقة والواقع والقيم والقانون والشرعية والحوكمة.. وقد بين ميشال غوشيه وآخرين كثر، كيف أن المجتمعات الأوروبية تركت الدين ولكن دون أن تهجر الإيمان، وكيف انتهى الأمر بالبروتيستانت والمسيحيين إلى قبول مثل ذلك الانسحاب، وعملوا على الاستفادة منه لتثمين الصفات الخصوصية للهيئات الروحية في المجتمع ولوظائفها. أما الإسلام والمجتمعات المنتسبة إليه، فقد عرفت تطوراً معاكساً تماماً، وذلك في فترة (1950 ـ 2002) انتشر فيها الفكر العلمي، وتزايدت المطالبة بالديمقراطية في العالم. ولنتذكر فحسب ذلك التضاد المخيف في تاريخنا الحديث: ما بين 1789 و1792 ألغى الفرنسيون الملكية القائمة على الحق الإلهي، وذهبوا إلى حد إعدام الملك لويس السادس عشر في الظروف التي نعرفها، وفي 1979 وما إن مسك الخميني بدواليب الحكم، حتى أعاد بناء حكم ثيوقراطي ديني وفقاً للمذهب السياسي الإمامي، وشرع في مطاردة الشاه لمحاكمته وإعدامه ولا شك، بوصفه رمزاً لسلطة بلا إله. وقد قدم الكثير من المثقفين المعروفين يومذاك دعماً غير مشروط لثورة كانت تنعت بالدينية، وكأن التجربة التاريخية التي آلت إلى بناء الديمقراطية في أوروبا لم يكن لها أي بعد فلسفي أو قانوني أو سياسي أو أنتروبولوجي، وأنها لن تكون قادرة على بناء مجتمعات إنسانية جديدة، بعيداً عن الظروف الخاصة والمحلية للمواجهة بين الإكلوروسية المسيحية والقوى اللائكية للتقدم. إنه لأمر تاريخي لافت حقاً، أن تكون الصفحة المطولة للاستعمار قد غذتها على امتداد أكثر من قرن إرادة التحرر لدى شعوب المستعمرات؛ وكانت الأيديولوجيات التي ألهمت حركات التحرر حينها، قد توجت بالاستقلال السياسي، غير أن ذلك الاستقلال تم في ظروف هشة غالباً ما كانت مأسوية، لتظل انعكاساته التاريخية على التطورات اللاحقة، بحاجة إلى التقييم الدقيق عبر قراءة نقدية «موضوعية» ومعمقة. وبإمكاننا القول من الآن، أن السياسات الوطنية من أجل الاستقلال، سرعان ما فاقمت من الارتباك الفكري بين المقاومة الشرعية للهيمنة الاستعمارية وآثاره السلبية، والانفتاح الضروري المحرر للفكر الحديث، الذي كان يتم عبر التقدم الثابت للعلوم، ذلك التقدم الذي غدا يوجّه الخيارات الثقافية والتربوية والمؤسساتية والقانونية في فترة التحرر من الاستعمار. وفي البلدان العربية تحديداً، أصيبت السياسات اللغوية في مجال البحث العلمي وفي ميدان العلوم الاجتماعية وعلوم التربية بالإرباك، وكان مآلها الانحراف بفعل هيمنة المطالب المحمومة الخاصة بتثبيت الهوية، والتي أدى فيها الدين على نحو حثيث إلى انحرافات أصولية خطيرة، نرى اليوم بأم العين تداعياتها الفظيعة. لقد تمت عبر الخطابات الرسمية، وعلى نحو أشد خطورة عبر الخطابات التعليمية، مراكمة ونقل معارف خاطئة ومتطرفة، وبالتالي خطيرة تهم الوظائف الثقافية والتاريخية للدين بصفة عامة، وللإسلام على وجه الخصوص. وبالترافق مع الثورة الديمغـرافية المتسارعة، والتي كانت حاسمة ما بين 1960 و1980، ساهمت الأطر الاجتماعية للمعرفة، التي اقتضتها السياسات الاستبدادية للدول/‏‏‏‏ الأحـزاب في تحول الوعود «الجليلة» لبناء أوطان مستقلة، إلى خطاب ثوري «اشتراكي» تحكمه مطالب شعبوية: إعادة بناء الدولة الإسلامية الأولى، على غرار تلك التي كانت قائمة بالمدينة ما بين 622م و661م. ولمواجهة تلك الموجة الشعبوية العارمة، التي سـاهمت في التفكك السريع للرموز الثقافية الشعبية التي كانت قائمة في السنوات 1950 ـ 1960، ظلت أغلب الأنظمة القائمة، في ما يعرف بالعالم «الإسلامي»، عاجزة عن الخروج من الالتباس الأيديولوجي الذي يزيد في ترسيخ السياسات الديماغوجية في المجال الديني، ومتمسكة بتحفظ محسوب تجاه الخيار الديمقراطي الذي بات ضرورياً. إخفاقات الوعود وحتى يكتمل هذا التقديم للتطور الداخلي للمجتمعات التي بقي يحكمها الوازع الإسلامي منذ الاستقلال، ينبغي لنا التذكير بالإستراتيجيات الجيوسياسية للغرب تجاه دول ما بعد الاستقلال. وحين نتحدث عن الغرب، فنحن ندرج تحت تسمية جيوسياسية واحدة.. فاعِليْن لا شك في أنهما متحالفان على أكثر من مستوى، ولكن مسؤوليتهما التاريخية تفترض تمييزاً بيّناً ودقيقاً بينهماً. فمنذ حرب الخليج، وخاصة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، بدا من الواضح أن مفهوم الغرب، بالنسبة للشعوب الخاضعة لقراراته السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية، لم يعد ليعني فحسب الوحدة الجيوتاريخية والثقافية، التي هي بلدان الاتحاد الأوروبي. والحال أنه لأعضاء هذا الاتحاد تاريخ تفاعلي طويل مع الشعوب الإسلامية، العربية والإيرانية والتركية ومع ثقافاتها؛ وهذا التاريخ الذي يضرب بجذوره في العصر الوسيط يشكل مرجعاً مشتركاً، مساعداً على إعادة قراءة نقدية للبعد التاريخي والجيوسياسي للمجال المتوسطي. أما علاقات الولايات المتحدة بهذا الفضاء المتوسطي فهي علاقات قائمة على الهيمنة ولا تكتسي من الناحية التاريخية غير بعد محدود. وإذ أشدد على هذا التمييز فذلك لفسح آفاق تفكير في عمل مشترك قد يسمح بدمج البعد العربي/‏‏‏‏ الإيراني/‏‏‏‏ التركي/‏‏‏‏ الإسلامي في دينامية بناء الفضاء المدني الجديد لبلدان الاتحاد الأوروبي. أما إخفاقات الوعود بتكريس الديمقراطية التي قدمت للشعوب غير الأوروبية، فهي لا تعود فحسب إلى تقصير «النخب» السياسية الوطنية، ولا إلى الإرث الثقيل للثقافات التقليدية المحافظة، إذ ساهمت الإستراتيجيات الجيوسياسية للعواصم الاستعمارية السابقة في دعم الدول «الشرعية» القائمة، في مواجهتها للقوى الديمقراطية داخل تلك البلدان، وإجهاض أي عمل يهدف إلى إرساء أسس ديمقراطية للحكم. وحتى أحداث 11 سبتمبر 2001، ذهبت تلك «الواقعية السياسية» التي ميزت التحالف الغربي من أجل مراقبة وإدارة الشؤون السياسية والاقتصادية للعالم الثالث الأسبق، إلى حد توفير المنابر للإرهابيين وتمويل حركاتهم التي بدت فجأة تهديداً بربرياً للحضارة الغربية. لقد بقي هذا المظهر القاتم للديمقراطيات الأكثر تقدماً شبه مغيّب لدى الرأي العام، فيما لف التعتيم الحروب المفتوحة مثل حرب الخليج والصراع القائم الآن ضد الإرهاب. أما الانقلاب المفاجئ في سياسة الدعم لطالبان، فطالما أن ذلك الدعم كان يهدف إلى مواجهة الاحتلال السوفياتي، فهو يبيّن بوضوح مدى صعوبة إقحام الديمقراطية الغربية في بيئات إسلامية. وتحالفات الولايات المتحدة مع دول مثل الباكستان أو مصر لمواجهة الإرهاب، لا تضمن حلولا وشيكة لسياسة جديدة ملائمة، يمكن أن تساعد على إحلال الديمقراطية في بلدان تعد قلاعاً لمقاومة أيديولوجية شرسة لأي أنموذج سياسي وافد من الغرب، مثل المملكة العربية السعودية، العراق، ليبيا، سوريا، أندونيسيا، إلخ.. ومع ذلك، ثمة مطالب ملحة ومتزايدة بالديمقراطية من تلك الشعوب. ثم إن المدافعين الأكثر تحمساً للحل الديمقراطي، لا يتوافرون هم أنفسهم على الثقافة الحديثة العلمانية، الضرورية لضمان إدارة دائمة للمؤسسات الديمقراطية. وتنسحب هذه الملاحظة أيضاً على العديد من الفاعلين والطبقات والفئات الاجتماعية التي تتشكل منها المجتمعات الأوروبية والأميركية ذاتها، حيث يفترض أن تكون الديمقراطية قد تجذرت فيها منذ أكثر من قرنين. إفساد الديمقراطية لقد بات من الواضح اليوم أن الديمقراطية تشهد تحولات عميقة، تحولات تدفع بالبعض إلى الحديث عن اِرتداد، فيما تدفع البعض الآخر إلى الحديث عن تأزم حاد مرده إلى انتشارها وسعيها إلى التوطن في بيئات ثقافية جديدة نائية. ولا يعود إخفاق محاولات زرعها في تلك البيئات فحسب إلى ما تلقاه من مقاومة في مناطق الاستقبال، بل لوجود ممارسات منحرفة وفاسدة، ووعود كاذبة عامة ما تم تجاهلها، واستشراء داء التلاعب بالانتخابات الذي تفقد معه الديمقراطية كل بريقها، لتستحيل إلى مجرد خطب نظرية عديمة المعنى ومحض مواعظ جوفاء. بل إننا نرى أن مُعادين حقيقيين للديمقراطية يصلون إلى سدة الحكم بدعم من ديمقراطيات «عتيدة» لا تقيم وزناً لحقوق الشعوب التي ينبغي أن تكون هي مصدر السلطة، ولا تعبأ بمصير تلك الشعوب التي غالباً ما تغدو موهوبة لسياط أنظمة مستبدة. والحروب الأهلية كما الانقلابات والانتخابات المزورة والطغاة المخلّدون في الحكم، والدساتير المفصّلة على قياس هذه الفئة أو تلك من المجتمع، والبرلمانات الخنوعة المؤتمرة بأوامر فئات سرية في المجتمع.. كل ذلك أضر بشكل خطير بالمصالح الحياتية للشعوب، بل ساهم في تلاشي الحلم الديمقراطي. والأمثلة الأميركية والإيطالية والألمانية والفرنسية.. باتت مفضوحة على نحو صارخ لدى الشعوب التي كانت تقترح عليها هذه الأخيرة الحلول الديمقراطية. ومن «روائع» ذلك التوضيب المسرحي لـ«قيم» الديمقراطية ما جاء في خطاب شهير لفرنسوا ميتران سنة 1993، حثّ فيه القادة الأفارقة المجتمعين في «بول» إلى تنمية الديمقراطية في بلدانهم. ولكن من كان أقدر من ميتران لتقدير حجم الخراب الذي خلّفه فساد النخب «الوطنية» في تلك البلدان تحديداً؟ هكذا.. تم إفساد الديمقراطية مرتين: في موطنها الأصلي، بلدان الغرب، وفي المواطن الجديدة لانتشارها حيث كانت الأنظمة الاستبدادية بالمرصاد لأي مطالبة بالديمقراطية. والحال أن الخطابة حول القيم الديمقراطية عامة ما يتضخم عندما يتعلق الأمر بتعبئة السكان ضد عدو تمت شيطنته. ومنذ 11 سبتمبر 2001، كما بعد حرب الخليج، رأينا كيف أن مثقفين أميركيين ممن كانوا يديرون «معهد القيم الأميركية» عملوا على تجديد علم لاهوت سانت أوغستان حول «الحرب العادلة» من أجل تصفية الإرهاب العالمي. كما نذكر كيف أن الرئيسين بوش الإبن وميتران استخدما نفس المفهوم أثناء حرب الخليج: إعلان الحرب الصليبية ضد محور الشر للذود عن الديمقراطية الوحيدة الجديرة بالاحترام.. ديمقراطية الغرب. غير إن بلدان الغرب أبدت فشلاً ذريعاً في إعادة النظر في مواقفها وتصوّر توجه ديمقراطي موثوق لفترة العولمة، وعجزت عن توفير الوسائل الاقتصادية والقانونية والثقافية والفلسفية كيما تتجسد هذه الأخيرة على أرض الواقع. الإسلام والعولمة إنه لمن الضروري الانطلاق من حوصلة نقدية للخطابات النظرية والتجارب الديمقراطية الملموسة لتحديد أدوار و»ردود الإسلام» بوصفها ترجمة عن التأجج الأيديولوجي للشعوب، وبشكل لصيق، باعتبارها فضاء مواجهات مزمنة بين توجهات تسلطية اِنبثقت من داخل كل مجتمع، وتم اِستخدامها من قبل قوى خارجية أكثر قوة وأشد قهرا. فليس بوسعنا أن نجعل العلاقة بين الإسلام والديمقراطية أكثر وضوحاً، متى تجاهلنا أو قللنا من أهمية الجدلية العالمية التي تنتظم وفقها منذ 1945 دراما تاريخية، غدا فيها الجلادون هم الضحايا، والضحايا هم الجلادون، وذلك وفق مستويات تحليل تجعل «المحلل»، بشكل صريح أو ضمني مخلصاً لها. وكان يحلو لرولان بارت القول بأن كل كتابة هي فعل إخلاص تاريخي؛ وسأذهب إلى أبعد ذلك لأعتبر أن كل طرح شفوي أو مكتوب يضع صاحبه على درب شائكة، يتطلب المضي فيها الكثير من الجرأة. الإسلام والديمقراطية نظامان عقديان يحولهما البشر، الذين هم فاعلون اجتماعيون وتاريخيون إلى «معارف» موثوقة، بل قد يحولون بعضها إلى معايير أخلاقية وقانونية إلزامية، أو إلى مؤسسات مقدسة مستبدة وإطلاقية. ومع ذلك ليس بوسعنا الاقتصار على هذه التعريفات ذات الطابع الوظيفي، ذلك أن العقل الحديث يسمح بالتمييز بين رهانات الخيار الديني والخيار الديمقراطي، ولأن العقل يغيّر من وضعية ووظائف الدين حين يغدو هذا الأخير غير قادر على تحديد أي من جوانب النظام السياسي، حتى وإن أمعن في المطالبة بالحريات وخاصة حرية التعبير. وسأذكر دون مناقشته، هذا التحليل للسيد غوشيه، الذي بدا لي مستنيراً وزاخراً بالمفاجآت: «كانت السلطة في ما مضى تتنزل من فوق، ومن فوق كانت تفرض إرادتها على الناس، فقامت الثورات الحديثة، الإنجليزية والأميركية والفرنسية، بإرجاعها إلى الأرض. بل الأمر أوشك من ذلك، إذ سوف تخرجها هذه الثورات من تحت، ليتشكل الإنسان بفعلٍ متعمد نابع من إرادة الأفراد. لقد كانت تمثل ما يتجاوزنا، فغدت محملا لطموحاتنا. وسنقول عنها إنها سلطة تمثيلية، أي سلطة بلا جوهر آخر غير ذلك الذي يغذيه بها مرؤوسوها» (...) «ومن التمثيل المجسد لزمن الآلهة، إلى تفويض من عموم أناس متساوين، نفس العوامل هي التي تكون متحكمة، ولكن وفق صيغة تمثيل مختلفة..» (غوشيه.. «الدين في الديمقراطية»). ولئن كان الكاتب يتحدث عن المسيحية، فإن ما يقوله عن ذلك الانعكاس بين دوري الديني والسياسي، ليَجعلنا ندرك على نحو أصوب المعضلات الراهنة للإسلام. ويسمح السيد غوشيه لنفسه بالقول إن المسيحية هي الديانة الوحيدة التي رافقت أو ربما مهدت السبيل للخروج من الدين، أي إلى «إعادة تركيب شاملة لعالم البشر، عبر إعادة صياغة ما كان ولقرون طويلة يمثل صورة للغيرية الدينية». والحال أن إعادة التركيب تلك لم تتحقق في العالم الإسلامي، بل إن ما حدث في البيئات الإسلامية خلال الخمسين سنة الماضية هو تضخم لوظيفة الأسطوري/‏‏‏‏ الأيديولوجي، الذي أفسد في ذات الوقت الوظائف الأسطورية/‏‏‏‏ التاريخية للدين التقليدي، كما العمل من أجل إعادة صياغة القيم الإيجابية المنطوية في الواقع الديني. والصياغات السلفية للإسلام لا تجيز الحديث عن عودة للديني كما يفعل الكثيرون ذلك، ولا عن اِرتقاء بالإسلام بوصفه، من حيث وظائفه، مثالاً تاريخياً بديلاً للمثال الديمقراطي. ولا يتعلق الأمر هنا بحكم اِعتباطي أو حقود؛ وكنت قد بيّنت منذ زمن بعيد الاستعمالات الأسطورية/‏‏‏‏ الأيديولوجية التي يلجأ إليها علماء الشريعة في التعاطي مع تراث الإسلام الكلاسيكي الإتباعي. وينبغي أن نضيف إلى ذلك ترقيعات دعاة الإصلاح من أجل إحياء الإسلام «الأصيل»، والعودة به إلى صفائه الأول، أي إسلام «البدايات».. إسلام السلف الصالح، ولكن أيضا إلى التناسي المنتظم الذي تواصل منذ القرن العاشر، والذي غمر مفكرين «أحراراً»، أصيلين ومجددين، في فترات عابرة، آرتسم خلالها تشوّف عنيد إلى نزعة إنسانية واعدة. نقد العقل محمد أركون (1928 ـ 14 سبتمبر 2010) مفكر وباحث أكاديمي ومؤرخ جزائري. ولد لعائلة فقيرة في بلدة تاوريرت ميمون (آث يني) الأمازيغية بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء (ولاية عين تموشنت) حيث درس دراسته الابتدائية بها. ثم واصل دراسته الثانوية في وهران لدى الآباء البيض. ثم درس الأدب العربي والقانون والفلسفة والجغرافيا بجامعة الجزائر، ثم بتدخل من المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون قام بإعداد التبريز في اللغة والآداب العربية في جامعة السوربون في باريس. تميز فكر أركون بمحاولة عدم الفصل بين الحضارات شرقية وغربية واحتكار الإسقاطات على أحدهما دون الآخر، بل إمكانية فهم الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب من الآخر، وهو ينتقد الاستشراق المبني على هذا الشكل من البحث. كل ما كتبه الدكتور أركون يندرج تحت عنوان: نقد العقل الإسلامي. ويصف الدكتور أركون مشروعه كما يلي: مشروع نقد العقل الإسلامي لا ينحاز لمذهب ضد المذاهب الأخرى ولا يقف مع عقيدة ضد العقائد التي ظهرت أو قد تظهر في التاريخ، إنه مشروع تاريخي وأنثروبولوجي في آن معاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©