الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كانط ونقد التعصب

كانط ونقد التعصب
9 أغسطس 2017 19:03
«إنّ ديناً يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه».. هكذا كتب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كتابه «الدين في حدود مجرّد العقل» (سنة 1793)، الذي اعتبر حدثاً فلسفياً حاسماً من أجل ضمان دخول الإنسانية الأوروبية عصر التنوير، لكن أيّ  معنى لهكذا عنوان اليوم في أوطاننا التي صار فيها الدين يستخدم كراية لتنظيمات إرهابية متطرّفة، وصار فيها الإسلام إلى ضرب من التهمة العالميّة؟ كيف يجري إخراج دين ما عن مقاصده وعن حدود العقل فيتحوّل إلى راية لسفك الدماء؟ وهل لازال بوسعنا اللحاق بركاب التنوير أم قدرنا أن نظلّ  نناضل ضدّ الظلام كما لو كان ليلنا الميتافيزيقي ليلاً طويلاً لا ينتهي؟ هذه إشكالية توقّع أهمّ معركة ثقافيّة نخوضها مع تراثنا وذاكرتنا نحن الذين لم نتقن بعدُ الحسم في كيفيّة الإنتماء إلى أنفسنا العميقة، أي في ما يمكن أن يحيا معنا وما ينبغي دفنه في مقبرة التاريخ. ذلك أنّ الانتماء الإيجابي إلى الإنسانية الحالية هو أيضاً معنى نجاحنا في الانتماء إلى ذاكرتنا. فالمستقبل هو ذاكرتنا القادمة، أمّا «ميت الطيور.. فلا الأرض تحضنه ولا البشر». كيف نحفظ الدين من الخروج عن العقل؟ وكيف نضمن سيادة العقل على سياسات العقيدة في أوطاننا؟ تلك هي الأسئلة التي اشتغل عليه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كتابه الذي أثار في زمانه غضب الساسة ورجال الكنيسة معا. هذا الكتاب هو «الدين في حدود مجرّد العقل» (ترجمه عن الألمانية د. فتحي المسكيني، 2012). وإنّ عنوانه ذاك لهو توقيعة رمزيّة عميقة لضرب من العلمانية الفلسفيّة التي وجدت في الحداثة الدينيّة ملامحها القصوى. ما يهمّنا هو كيف تمكّن كانط من تقديم اقتراح حاسم لمسألة التوتّر والصدام الدموي التي عانى منها هذا الثنائي «الدين والعقل» طيلة تاريخ الديانات التوحيدية. وفي الحقيقة ثمّة ثلاث لحظات نظرية مرّ بها الصراع بين العقلاني والديني هي: أوّلا: اللحظة العربية الإسلامية الوسيطة التي عاش فيها فلاسفة العرب محنة مؤلمة ولاحقتهم تهمة الزندقة ودفع بعضهم دمه ثمناً لذلك، بحيث كُفّر الفارابي وابن سينا، واتّهم ابن رشد بالإلحاد وأحرقت كتبه وتمّ نفيه، لأنّه دعا إلى استعمال العقل في تأويل النصّ   الديني، كما تمّ تسميم ابن باجة وقتله. وثانيا: اللحظة المسيحية التي أشعل فيها التعصّب فتيل حروب دينية دامت قرونا وتعدّدت محاكم التفتيش وانتصبت المشانق والمحارق بين الكاثوليك والبروتستانت. واللحظة الراهنة لواقعة الإسلام الراديكالي الأصولي الذي يدّعي إمكانية تأسيس الدولة على الخلافة الإسلامية وينشر الدمار والخراب وسفك الدماء تحت هذه الراية المتطرّفة. العنف الوحشي إزاء مخاطر سطو السلطة الدينية ووصايتها على العقول، وتفشّي التعصّب الديني الذي أدّى إلى سفك الدماء، لا يملك الفكر غير البحث عن سبل سلمية ومدنية لمقاومة هذا العنف الوحشي الناتج عن الصدام بين ما هو عقلي وما هو ديني. لقد اقترح ابن رشد فصل المقال ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والانفصال، واقترح لوك وفولتير مفهوم التسامح حلاّ لوحشية التعصّب الدمويّة، واقترح كانط ضرورة التمسّك بالعقل كقيمة رمزية كونية لحفظ كرامة البشر وحرياتهم وحقوقهم المدنية والدينية. 1- إنّ خلاص الإنسان هو من شأن الإنسان وحده: لقد تعلّمت الإنسانية  الأوروبية من الحروب الدينية دروسا لم تتراجع عنها إلى اليوم وهي ما صاغه جون لوك في رسالة في التسامح (1679) قائلاً: «إنّ الدين الحقّ لم يتأسّس من أجل ممارسة الطقوس ولا من أجل الحصول على سلطة الكنيسة، ولا من أجل ممارسة القهر، ولكن من أجل تنظيم حياة البشر استناداً إلى قواعد الفضيلة والتقوى». وبالتالي أن لا أحد بوسعه أن يكون وصيّا على عقول الناس ولا على ضمائرهم «لا الأفراد ولا الكنائس ولا الدولة لديها أيّ  مبرّر للاعتداء على الحقوق المدنيّة والخيرات الدنيويّة بدعوى الدين». ذلك أنّ «خلاص الإنسان إنّما هو من شأن الإنسان وحده». وهذا هو أوّل مقوّم للعلمانيّة التي هيّئت لها مقولة التسامح بوصفها القيمة الأخلاقية الرمزيّة التي حاول بها الإنسان الأوروبي مقاومة التعصّب الديني القائم على كراهيّة العقل نفسه. وهو ما كتبه فولتير (1763) قائلاً: «إنّ الحق في التعصّب حقّ عبثي وهمجيّ، إنّه حقّ النمور وإن فاقه بشاعة: فالنمور لا تمزّق بأنيابها إلاّ لتأكل، أمّا نحن فقد أفنينا بعضنا بعضا من أجل مقاطع وردت في هذا النصّ   أو ذاك».  نعم ثمّة هويات مسعورة لا تملك غير النصوص القاتلة والعقل اللاهوتي المغلق الذي لا يقترح على الإنسانية غير سفك الدماء ومحبّة العدم والإدمان على نشر الخراب. والثمن في كلّ ذلك باهظ جدّا. وهو ما كتبه فولتير عن الحروب الدينية المسيحية (1562-1598) قائلا: «ونحن نعلم كم هو باهظ الثمن  الذي دُفع منذ أن راح المسيحيّون يتشاحنون ويتقاتلون بسبب العقيدة. فمنذ القرن الرابع وحتى أيّامنا هذه ما فتئت الدماء تُسفك بغزارة، إن على المحارق ومنصّات الإعدام وإن في ساحات الوغى». ومن أجل ألاّ تُهدر الدماء ثانية، قرّرت أوروبا منذ القرن السابع عشر تحت قيادة مفكّريها على تربية العقول على قيمة التسامح المدني وحريّة الضمير. 2- لا شيء يخرج عن سلطة العقل حتى أكثر الأشياء قداسة. تلك هي الأطروحة الفلسفية التي يؤسس بها كانط لحداثة التنوير بحيث يقوم التنوير على تحرّر الشعوب من مرحلة القصور الديني. ولقد استطاع كتاب «الدين في حدود مجرّد العقل» أن يغيّر في طريقة معالجة العلاقة الإشكالية بين العقلاني والديني لا من خلال قيمة التسامح التي هي في جوهرها قيمة دينية مسيحية، كما اقترحها كل من لوك وفولتير، بل من خلال اقتراح العقل نفسه قيمة فلسفية وأخلاقية كونية لا شيء يعلو على سلطتها مهما كانت قداسته. انطلاقا من هذا الكتاب صار بوسعنا التمييز بين دين داخل حدود العقل ودين خارج عن العقل. أمّا عن الدين العقلي فهو يقوم على إيمان الأحرار بوصف الحريّة هي الشرط الأول لتحرير الإنسانية الحديثة من كل وصاية لاهوتيّة، ممّا يجعل من الإنسان غاية في ذاته وهو مصدر أحكامه وتشريعاته. أمّا عن الدين الخارج عن حدود العقل، فيقوم على الاستبداد اللاهوتي والوصاية على عقائد الناس وضمائرهم وهو دين مضادّ للعقل لأنّه قائم على الخرافة والحماسة والتعصّب. وكانط إنّما ينقد محاكم التفتيش الكنسيّة واضطهاد الكاثوليك للبروتستانت وكلّ أشكال الفظاعة التي حدثت تحت راية ما يسمّيه كانط «عبادة العبيد» وهو «إيمان مشعوذ من خلاله يتمّ حكم الجمهور.. وتُسلب منه حريته وفيه إنّما «تهيمن طبقة من القساوسة وتعتقد أنّها تستطيع الاستغناء عن العقل وحتى عن الكتاب المقدّس نفسه». إنّ الدين العقلي هو دين أخلاقي يجعل من «المؤمن بشكل خلقيّ منفتح على العقيدة التاريخيّة، من جهة ما يجدها مفيدة لإحياء الروح الدينيّة المحضة» وهذا النوع من الإيمان هو «إيمان حرّ ولا يمكن أن يٌغتصب منّا بواسطة أيّ  ضرب من التهديد. إنّ ما يقصده كانط إنّما هو تحرير الإنسانية الحديثة من دين «صناعة الشعوذة، دين السماسرة والمنافقين» الذين حوّلوا دائرة المقدّس العميقة للشعوب إلى تعلّة للوصاية على عقولهم. أمّا عن الدين خارج حدود العقل فهو دين تجارة الأوهام والاستثمار في النفوس الضعيفة، وإنّ هذا النوع من الدين اللاعقلي هو بعبارات كانط «بمثابة الموت الأخلاقي للعقل، الذي من دونه لا يمكن أن يوجد أيّ دين أبدا..». ما نغنمه من كتاب «الدين في حدود مجرّد العقل» هو مكسب الحريّة كطريق وحيد لخلاص البشر من الخرافة والتعصّب وكلّ  القيود الروحية التي تعطّلهم عن تغيير ما بأنفسهم. وحده إيمان حرّ يحفظ للشعوب كرامتها وللأديان قداستها. من أجل ذلك يملك البشر العقل قيمة رمزية كونية يتمسّكون بها. لن يكون هناك أيّ  صدام بين الدين والعقل إلاّ حينما يتدخّل سماسرة الدين وسياسات الوعّاظ بين الناس وربّهم. فالدين لا يحتاج إلى عبيد مسلوبي الإرادة والعقل، ولا إلى متملّقين نسقيين لأيّة جهة دينية. كما لا ينبغي أن نكره الناس على اعتناق أيّة عقيدة لأنّه، وبعبارات كانط نفسه، «ويل للمشرّع الذي يريد أن يحقّق بواسطة الإكراه دستوراً موجّهاً نحو غايات أخلاقية».  لقد حوّل كانط إذن  مسألة الصدام بين العقل والدين من إحداثية تقليدية تقوم على ثنائيّة «المؤمن والكافر» إلى إحداثية فلسفيّة جديدة تقوم على ثنائية «دين العبيد ودين الأحرار». العلمانيّة الفلسفيّة  كيف يمكن اللقاء بين العقل والدين إذن بعد كلّ الحروب الدينية التي عاشتها الإنسانية، وبعد العدد المهول من الضحايا الذين سقطوا تحت رايات الإرهاب الأصولي المتطرّف؟ لقد حاول كانط صياغة الملامح الأولى لعلمانيّة فلسفيّة تعيد الإنسان الى عالمه وطبيعته البشريّة التي منها يشتقّ كلّ أفعاله ومعتقداته ومعارفه. هذه العلمانيّة الفلسفيّة تجد  شعارها الأساسي في الإنسان كغاية في حدّ ذاتها، وقوامها في العقل بوصفه أكثر الأشياء كونيّة بيننا، وأفقها البعيد في أن يستنير عصر برمّته، أي أن يخرج من حالة القصور الديني إلى حالة دين العقل المستنير، بحيث لا يمكن لأيّة سلطة لاهوتية أو سياسيّة أن تسطو على عقله وعقائده.  وتلك هي الدلالة العميقة للعلمانيّة التي استشرفها قبل كانط كتاب الأمير لـ«ميكيافيلي» منذ 1513 وهيأت لها حركات الإصلاح البروتستانتية منذ 1525، وصاغ مقوّماتها الأولى رسالتي في التسامح لجون لوك وفولتير، وأنجزتها الثورة الفرنسية (1789)، إلى أن صارت اسما للحضارة المعاصرة.  فهل دخل العالم الإسلامي العصر العلمانيّ؟ أم هو قد ارتدّ مع هجمة التنظيمات الإرهابية الأصولية  ومع ظهور الإسلام السياسي الذي تربّع ثانية على عرش الدول؟ وهل يمكن لجماعة أن تخرج عن منطق التاريخ وتدّعي مع ذلك انتمائها إلى دائرة العقل؟ ينقصنا الكثير من النضال الثقافي والرمزيّ  العميق من أجل مواجهة توحّش التطرّف الإرهابي، واستعادة العالم بيننا وحفظ كرامة الإنسان في ديارنا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©