الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي مبروك: العلمانية ذات جوهر إنساني لا إقصائي

علي مبروك: العلمانية ذات جوهر إنساني لا إقصائي
9 أغسطس 2017 18:56
في العام 2014 طلبتُ من المفكر وأستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي الراحل د. علي مبروك (1958 - 2016) إجراء حوار مطول حول (داعش وسياقات الظهور)، والذي نشر الجزء الأول منه في 23 سبتمبر العام 2014. كانت الجماعات الإرهابية المتوحشة وصلت لذروة عدوانها الهمجي تنشر الرعب والدم في أنحاء واسعة ومتفرقة من العالم، تقتل الأبرياء رجالاً ونساء وأطفالاً بوسائل وحشية في العراق وسوريا، تخوض حرباً قذرة بالوكالة ضد جيش وطني نظامي راسخ في سيناء، وتمارس إرهابا غير مسبوق باسم الدين.. باسم الدين أيضًا ارتكبت أبشع جرائم عرفتها الإنسانية في حق الآثار والمتاحف والتراث الإنساني فاقت فيها كل أفعال البربرية والهمجية في التاريخ..   لم يكن من الممكن استيعاب المشهد الدموي، العبثي، وفهم التناقضات إلا بردها إلى جذرها، والبحث عن أصولها التاريخية والفكرية والإيديولوجية، وكان لزاما على من أراد استجلاء الموقف واستيضاح الصورة البحث عن تحليلات معمقة للظاهرة ووضعها في سياقاتها المختلفة، وتفكيك الأصول النظرية والمعرفية الغائرة التي تقوم عليها الفكرة الداعشية ذاتها. فكان التوجه إلى أحد أبرز المفكرين المعاصرين، والمعنيين ببحث الظاهرة في إطارها الأشمل «أزمة النهضة والحداثة العربية»، وهو الدكتور علي مبروك، أستاذ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام في كلية الآداب جامعة القاهرة، صاحب الدراسات والكتب المرجعية والاجتهادات الخلاقة في مقاربة النص القرآني وبنية العقل العربي وقضايا وموضوعات إشكالية أخرى تتصل بالنهضة والحداثة والإسلام السياسي.. في هذا الحوار يكشف مبروك، تاريخياً، أن الإسلام التبشيري الدَّعَوي بدأ - منذ ستينيات القرن المنصرم - يخلي مواقعه لفيالق الإسلام الجهادي التي بدأت تُبلور تحت التأثير الطاغي لأفكار سيد قطب قناعةً بأن الجهاد هو (حسب وريث سيد قطب المباشر محمد عبد السلام فرج الذي قام بالتنظير لاغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات) بمثابة «الفريضة الغائبة» التي يلزم تفعيلها من أجل أن يستعيد الإسلام هيمنته على المجتمع، وهكذا راح الإسلام الجهادي، يقول مبروك، يتفجر في تقلصات متواترة عنفا دمويا في مواجهة دولة الاستبداد والفساد في العالم العربي.. لكن ما علاقة ذلك كله بالعلمانية والدولة الدينية في عالمنا الحديث؟ بعد أن نشرنا هذا الحوار المطول اتفقنا على استكماله في حوارات تالية للحفر أبعد من ذلك، والتنقيب على أعماق أبعد في الفكر العربي الحديث والمعاصر، ومناقشة إشكالياته الجوهرية بتفصيل واستفاضة.. من بينها إشكالية ظهور العلمانية في العالم العربي، والعلمانية والدولة الدينية، وعلاقة ذلك كله بالفرضية التي يتبناها الباحث وينطلق منها في تحليلاته كما عرضها في عدد من كتبه ودراساته: «لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا»، «ثورات العرب ـ خطاب التأسيس»، «الدين والدولة في مصر ـ هل من خلاص؟»، «الأزهر وسؤال التجديد» وغيرها من الأعمال، وهي فرضية «البرانية» و»الجوانية».. فلا يشغل النخبة العربية إلا مجرد «الشكل البراني»، وبمثل ما توهموا لعقود أن استيفاء الشكل الديمقراطي  سيجعل العالم العربي ديمقراطيا، فإنهم يضيفون إلى ذلك وهم أن «تعريب» العلم، سوف يجعل العلم عربيا.. أوهام فوق أوهام من تحتها أوهام! على فترات متقطعة، كنت أبعث له بالسؤال ويرد عليّ بالإجابة، أو تكون فكرة ما متصلة بالموضوع تجذب اهتمامنا بشدة فتطرح نفسها أكثر من مرة عبر أكثر من وسيط وشكل تعبيري متبادل (مكالمة تليفونية مطولة، تعليق على فيسبوك، رسائل متبادلة .. إلخ) أو في لقاءات متعددة ومناسبات مختلفة تجمعنا فنستأنف الحوار ويتصل الحديث.. اجتمعت مادة وفيرة لحوار ممتد متصل، إلى أن شاء الله أن ينقطع (على مستوى التواصل المباشر) بوفاة المفكر والباحث الكبير «رحمه الله» في مارس 2016، دون أن ينقطع الحوار العقلي والحضاري حول أطروحاته ورؤاه التي كانت أسبق في رصدها للأزمة بسنوات بل ربما قرون لبعض من ينتمون إلى هذه الثقافة ويطلقون على أنفسهم «أساتذة ومفكرين».. هنا نص بعضِ  ما جرى واتصل من الحديث حول «العلمانية والدولة الدينية والدولة المدنية».. فضاء الدين الخاص * في السنة التي وصل فيها الإخوان إلى الحكم.. ظهر الشيخ الأزهري د. أحمد كريمة في أحد برامج الـ «توك شو» وهو يبكي بشدة بسبب المهانة التي لحقت بالدعوة ومكانة الدين في النفوس جراء الممارسات الخرقاء للإخوان، ظهر أمام الملايين شيخ معمم يبكي ويصرخ من هتك قداسة الدين وجعله مطية للسياسة.. بالتأكيد استوقفك هذا المشهد، وكانت له دلالاته التي ربطتها بضرورة فصل الدين عن السياسة؟ ** نعم. إن هذه الحلقة بالذات قد أثارت الرأي العام بشدة. لقد أدرك الناس مثلما أدرك الشيخ أحمد كريمة خطورة تحويل الدين إلى ساحة للتحزبات والتعصبات السياسية؛ وكان بكاء الرجل علامة على تبنيه وجهة النظر الداعية إلى الاحتفاظ للدين بفضائه الخاص بعيداً عن السياسة.. إذن فلتكن الدعوة في الأساس هي ضرورة تطهير الدين من السياسة، بدلاً من العلمانية أو الليبرالية (التي نجح الإسلاميون في معركة تشويه مفاهيمها وتلويث سمعتها.. إلخ) الممارسة العامة فرضت على الناس أن يتفاعلوا بشكل مباشر مع الحاصل حولهم (خاصة خلال الفترة التي حكم فيها الإخوان من 2012 إلى 2013). مثلا، حينما كان خطيب المسجد يتجاوز حدود الخطبة وموضوعها الديني إلى الشأن السياسي، كان فلاحو قريتي يطلبون منه أن لا يتحدث في المسائل السياسية، وأن يتحدث فقط في المسائل الدينية.. عمليا، وبشكل واقعي وعفوي تم عزل السياسة عن الدين في قرى ريفية، ووسط فلاحين بسطاء. وحينما كتبت على صفحتي الشخصية على «فيسبوك» أن فلاحي قريتي باتوا يطالبون خطيب الجمعة بأن يعزل الدين عن السياسة، تفضل الأصدقاء بالتعليق وكتب معظمهم أن هذه هي «العلمانية». وقد اقترحت عليهم أن ندع هذه الظاهرة تتشكل دون أن نضغط عليها بمفاهيمنا المستقرة والتي قد لا تنطبق تماماً على الظاهرة موضوع التشكل. وفي الوقت الذي أخذ فيه بعض النخبة المصرية يتداول في أمر عزل الإخوان أو عدم عزلهم، كان الناس في القرى حسموا أمرهم فعلا وقاموا بعزلهم فعليا؛ لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على إظهار إخوانيتهم، ليس بسبب تجريم القانون لذلك، بل بسبب تجريم الناس لذلك. «الإخوان» كانوا يريدون إعادة إنتاج نموذج «طالبان»، ولكن المشكلة العويصة التي واجهتهم، وستواجههم دائماً، أن مصر ليست أفغانستان! * لكن العلمانية كمفهوم فلسفي ومعرفي لا علاقة لها بالمضمون الذي سعى الإسلاميون إلى تكريسه.. أليس كذلك؟ ** نعم. نحن نتفاعل مع ما هو حاصلٌ  حولنا، وأظن أنك تتفق معي في أن العلمانية ذات جوهر إنساني، لا إقصائي. للأسف فارق كبير بين المفهوم وممارسته التاريخية في التجربة الغربية، وبين فهمه وتمثله لدى قطاع من المثقفين العرب. إنك قد تفهم مما يكتبه البعض أن «العلمانية» لا بد أن تكون نقية (بيور) فتقطع مع الدين على نحوٍ كامل؛ فمن الذي أدخل في رأس هؤلاء (سواء كانوا من الإسلاميين أو من المثقفين المتطرفين) أن العلمانية هي اللا دينية!! وينسى هؤلاء أنك إذا جعلت العلمانية طاردةً ومُزيحةً للدين أو غيره من المجال الإنساني، فإنك تجعلها علمانية إقصائية تخاصم جوهرها وتعمل ضد نفسها.. وإذن فهي النقائض التي تتجاور في لا وعي أمثال هؤلاء والذين يكونون - وللغرابة - علمانيين وإقصائيين، وهذا بالطبع مرض مزمن من أمراض النخبة العربية المثقفة، وليس العلمانية. الرؤية الكونية للأفراد * لو قربنا منظار الرؤية وحاولنا استيفاء جوانب أخرى للعلمانية وفق هذا الأساس.. التفرقة بينها وبين اللا دينية أو الإلحاد كما يزعم خصومها من التيار الديني، ما الذي يسمها كمنهج وآلية تعامل مع الواقع المعيش؟ ** من الممكن التأكيد على أن العلمانية يمكن أن تعرف بوضوح أكبر ضمن سياقها السياسي، وهو حيادية مؤسسات الدولة بين مواطنيها بغض النظر عن لونهم أو عرقهم أو ديانتهم. «العلمانية» بالمفهوم الاجتماعي الأشمل هي أكثر ممارسة ثقافية تعكس الرؤية الكونية للأفراد مثل المجتمعات الغربية (هي بصيغة مغايرة ما أطلق عليه الكاتب والمفكر الراحل عبد الوهاب المسيري «العلمانية الشاملة»، ضمن مشروعه الضخم «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» في مجلدين صدرا عن دار الشروق قبل سنوات). ولهذا فإنني أعتقد بأن العلمانية الجزئية (السياسية)، بتعبير واصطلاح المسيري، هي جوهر المذهب الإنساني، وهي التي نطمح إليها ولنترك للأفراد حق تقرير نمط حياتهم بدون وجود سلطة للدولة تفرض بها مذهبها و معتقداتها على أفرادها. وهنا لا بد من التأكيد مجددا، ومرارا، أن الدين مكون أساسي في أي مجتمع سواء كان مجتمعًا متقدمًا أم مجتمعًا بدائياً يعيش في الغابات أو الصحراء. فنحن لا نستطيع أن ننزع الدين من الأفراد وعلى ما قد يحدثه الدين من فرقة بين أتباعه بسبب الاختلافات التفسيرية والتأويلية للنصوص، فإنه جزء رئيس من المكون النفسي البشري.  نسق مغلق * أشتمّ نقداً ضمنياً في حديثك لتعامل بعض النخبة المثقفة في العالم العربي مع «العلمانية» كمفهوم وإجراء ومنهج. هل هذا صحيح؟ ** بخصوص العلمانية تحديداً، فإنه إذا كانت العلمانية قد تبلورت في السياق الأوروبي كسلاح فعال في مواجهة التفكير الدوغماطيقي المنغلق، فإن عملية إعادة إنتاجها في السياق العربي قد تمخضت عن تحولها إلى إحدى أدوات إنتاج الدوغماطيقية وتثبيت حضورها الخالد، فإذ نشأت العلمانية في سياق عمليات الخلخلة الدؤوبة لليقين القاطع المنسرب من عالم العصور الوسطى الأوروبية، وعلى النحو الذي جعل منها نسقاً من التفكير المفتوح الذي لا يقبل الانغلاق، فإنها قد تحولت في السياق العربي إلى نسق مغلق من الأفكار التي يعتقد معتنقوها في جدارتها المطلقة ويقينها القاطع بمعزل عن أي شروط. إن ذلك يعني، ببساطة، أنها قد تحولت من طريقة مفتوحة في التفكير إلى ما يشبه المذهب المغلق المتضمن جملة أفكار هي أشبه ما تكون بالعقائد الجامدة، ومن هنا ما يبدو من تحولها إلى ما يشبه الدين الذي لا يختلف عن أي دين آخر إلا في نوع نصوصه وممارسات شعائره وطقوسه، وهكذا فإن الموقف المتحفظ، أو حتى الرافض، للأديان من جانب معظم من يجري تصنيفهم كعلمانيين ـ من الأجيال الجديدة بالخصوص ـ لا يؤثر على حقيقة أنهم يتعاملون مع العلمانية كديانة خلاصية جديدة، ولا شاغل لهم إلا التبشير بها. وهذا الأمر هو ما أعطى التيار الديني - بالإضافة إلى ممارساته التخييلية وإنتاجه لخطاب تشويهي ضد العلمانية - تبريرية هجومية إضافية ضد العلمانية وممارستها. وضمن هذا السياق، فإن هؤلاء العلمانيين «الجدد» كانوا يتبعون سلفا سبقهم في التعامل مع العلمانية كمذهب لا بد ـ ككل المذاهب ـ أن يكون موضوعا للإيمان، وليس باعتبارها تركيبا أنتجته تجربة تاريخية ضمن شروط بعينها لا يقبل الفهم خارجها. وإذ تكون نموذجا فإن العلمانية لا تقبل ـ والحال كذلك ـ إلا محض التقليد والاتباع، وبما يجعلها تفقد جوهرها الذي يقوم على المحاورة والإبداع. إن المفارقة هنا تأتي من أنه حين تكون العلمانية موضوعا للتقليد، فإنها تتحول إلى ما يشبه الدين الذي يأبى إلا أن ينازع الدين السماوي، وأما حين تكون موضوعاً للفهم، فإنها تصبح تجربة تقبل التصالح مع الدين في نقائه، وقبل أن يصبح موضوعاً للتقليد. * من تناقضات النخبة إلى حدية والتباسات تيار الإسلام السياسي في موقفه من «الآخر، الحداثة، الدولة المدنية، العلمانية».. إلخ. أظنك ترد كل هذه المواقف في تشتتها الظاهر إلى وحدة باطنية كامنة في بنية تكوين وتركيب هذا التيار؟ ** تقوم ظاهرة الإسلام السياسي - وتحتل موقع القلب فيها جماعة الإخوان المسلمين- على ضروبٍ من الالتباس التي يجري إخفاؤها، وعن عمد، لتكون بمنأى عن الوعي المنضبط بها، وعلى النحو الذي يهبها الديمومة واستمرار البقاء. كما يرتبط ذلك بالسعي إلى تصوير الجماعات المكونة لظاهرة الإسلام السياسي، على أنها جماعاتٌ «طهورية»، لا انشغال لها بما يجاوز حدود «المقدس» الديني، وبما يعنيه ذلك من تعمُّد إخفاء طابعها السياسي. ومن هنا وجوب فض الالتباسات المتعلقة بموقف هذه الجماعات من الحداثة، والعلاقة بين الدين والسياسة، والعقل والتقليد والطاعة وغيرها. فيما يخص الالتباس المتعلق بالموقف من الحداثة، فإن الأصل فيه يأتي من أن أحداً لم يلتفت -بما يكفي- إلى استقصاء السياق الفكري والمعرفي الذي تبلور فيه خطاب جماعة الإخوان المسلمين، وتيار الإسلام السياسي على العموم، وذلك على الرغم من غزارة الالتفات إلى السياق السياسي والتاريخي الذي أدى إلى ظهور كلٍ منهما، والذي يتمثل في إعلان سقوط الخلافة في العام 1924، بالذات. ولعل المدخل إلى الوعي بهذا السياق المُهمل، ينطلق من الإقرار بأن تيار الإسلام السياسي هو جزءٌ من صميم ما يُعرف بظاهرة الحداثة العربية، وإلى حد إمكان القطع بأنه لو أمكن تصور غياب ظاهرة «الحداثة» على العموم -والنمط العربي منها على الخصوص- لما كان لتيار الإسلام السياسي أن يتبلور من الأساس. ويعني ذلك أنه يستحيل استيعاب ظاهرة الإسلام السياسي خارج القوانين والمحددات التي حكمت انبثاق وتطور ظاهرة التحديث في العالم العربي منذ العقود الأولى في القرن التاسع عشر. وبالطبع فإنه لا يؤثر في ذلك ما يجري الإيهام به من أن الإسلام السياسي يبغي استبدال الإسلام -كمنظومة حياة- بالحداثة، من أجل استرداد ماضيه الذهبي السابق عليها، حيث الأمر لا يتجاوز مجرد استخدام الإسلام والحداثة معاً من أجل بناء وتثبيت أيديولوجيا سياسية، لا تختلف عن غيرها من أيديولوجيات مناوئة إلا من حيث نوع القناع الذي تتخفى خلفه. ظاهرة الإسلام السياسي  * نفهم من هذا أن انبثاق ظاهرة الإسلام السياسي أبعد في مداها من لحظة ظهورها التنظيمي في مصر عام 1928. الجذور تمتد لما هو أبعد من ذلك، وخارج مصر والعالم العربي ربما أيضا.. أليس كذلك؟ ** طبعاً. إن أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الإطار هو أنها «ظاهرة حديثة»، بمعنى أنها أحد نتاجات الحداثة ولا يمكن أبداً تصور حصول هذه الظاهرة خارج سياق العصر الحديث؛ لأن الظاهرة بكليتها ظهرت كإحدى الاستجابات على التحدي الذي فرضته الحداثة الأوروبية على المجتمعات الإسلامية، كما أوضحت. لكن وهنا يلزم التنويه بأن هذه الظاهرة؛ أي ظاهرة الإسلام السياسي، وعلى عكس الشائع وما يردده الكثيرون دون تدقيق، ليست مصرية، فهي بدأت أولا مع جمال الدين الأفغاني الذي كان متأثرا جدا بما حصل في الهند، لأنها كانت على مدى ثمانية قرون، خاضعة لحكم المسلمين حتى اندلعت الثورة الهندية الكبرى ضد الإنجليز في منتصف القرن التاسع عشر، وبالتحديد في عام 1857، وترتب عليها سقوط الحكم الإسلامي في الهند. وعقب ذلك، وما تلاه، تبلورت الدعوة إلى «الجهاد». لكن الأهم والأخطر وراء رفع دعوى الجهاد هو «تسييس الإسلام»؛ بمعنى أنه ومنذ هذه اللحظة الفارقة سيتحول الإسلام إلى «أيديولوجيا سياسية» يجابه بها المسلمون ما يتصورونه تهديدا لهويتهم الدينية. وقد كان ذلك هو جوهر خطاب جمال الدين الأفغاني، الذي رأى أو تصور أن أزمة المسلمين هي أزمة غياب الدولة الإسلامية كما رآها وعاينها في الهند، وبالتالي كان حتما وبحسب ما تصور أنه لا بد من تحويل الإسلام إلى سلاح سياسي من أجل استعادة هذه الدولة التي رآها تسقط أمام عينيه. لكن الغريب واللافت والمثير للتأمل والتفكير، أن الأمر لم يكن يجري في مصر على هذا النحو؛ لأن من يقرأ الطهطاوي، ومن بعده الإمام محمد عبده، تلميذ الأفغاني، يدرك أن المصريين قد تصوروا الأزمة أو الوعي بالأزمة (التراجع العلمي والفكري والحضاري) على أنها ليست سياسية بالأساس، إنما أزمة حضارية ذات طبيعة فكرية وعقلية وتربوية. أمراض النخبة العربية يكتب البعض أن «العلمانية» لابد أن تكون نقية (بيور) فتقطع مع الدين على نحوٍ كامل؛ فمن الذي أدخل في رأس هؤلاء (سواء كانوا من الإسلاميين أو من المثقفين المتطرفين) أن العلمانية هي اللا دينية!! وينسى هؤلاء أنك إذا جعلت العلمانية طاردةً ومُزيحةً للدين أو غيره من المجال الإنساني، فإنك تجعلها علمانية إقصائية تخاصم جوهرها وتعمل ضد نفسها.. وإذن فهي النقائض التي تتجاور في لاوعي أمثال هؤلاء والذين يكونون -وللغرابة- علمانيين وإقصائيين، وهذا بالطبع مرض مزمن من أمراض النخبة العربية المثقفة، وليس العلمانية. عزل شعبي في الوقت الذي أخذ بعض النخبة المصرية تتداول في أمر عزل الإخوان أو عدم عزلهم، كان الناس في القرى حسموا أمرهم فعلا وقاموا بعزلهم فعليا؛ لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على إظهار إخوانيتهم، ليس بسبب تجريم القانون لذلك، بل بسبب تجريم الناس لذلك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©