الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هامش حرية الإعلام العربي بين اختراع الصورة وتزييفها

23 يناير 2006

دمشق ـ فاطمة شعبان
يتعرض الإعلام العربي الرسمي إلى الكثير من النقد، أغلبه محق، مثل تجاهله قضايا ذات حساسية معينة، أو غلبة الخطابات على البرامج الحوارية التلفزيونية، وغلبة الخطابات الإنشائية على مقالات الصحف أو تجاهلها لنقل أخبار داخلية حساسة··· الخ· وهناك نقد لأولويات هذا الإعلام، التي تُعطي المساحة الرئيسة والواسعة للقضايا الهامشية من بين القضايا الملحة، في الوقت الذي تُترك القضايا الجدية والجوهرية والحاسمة في الهامش أو تحجب في الظلام·
لا شك بأن هذه الانتقادات وغيرها الكثير صحيحة من حيث المبدأ، وهي تسعى إلى تطوير دور الإعلام العربي والارتقاء به نحو الأفضل، كما أنها انتقادات قابلة للجدل والحوار حول صحتها ودقتها· وتكتمل حلقة الانتقادات للإعلام الرسمي العربي، بانتقادات غير محقة توجه للإعلام، وهي انتقادات لا تتصل بالإعلام، بقدر ما تتجاوزه إلى قضايا أخرى مثل، السياسة والاقتصاد والبنية المجتمعية والتربية وغيرها من القضايا التي يجب أن تعالج في مواقعها الطبيعية في المجتمع·
الإعلام لكل المهمات
يعتقد بعض منتقدي الإعلام الرسمي العربي، ويشمل هذا الاعتقاد بعض القائمين عليه، أن على وسائل الإعلام أن تقوم بتقديم الصورة الإيجابية للقضايا العربية والشخصية العربية، وأن ترسم الصورة الجذابة للعالم العربي في مواجهة الصورة النمطية السلبية والمشوهة التي يبثها الإعلام الغربي عن الإنسان والعالم العربيين راسماً صورة غير حقيقية عن واقع العالم العربي· وينطلق هذا النقد، من أن الإعلام يملك القدرة على صناعة الصورة، وبالتالي فهو قادر على التحكم في هذه الصورة وتغييرها لصالح الانحيازات التي ينتمي إليها هذا الإعلام، بالدفاع عن مصالحه وقضاياه وأصحابه وفي ظل التشويه الذي نتعرض له، وبما أنه إعلام عربي ويعود إلى دولة بعينها فعليه أن يخدم دعائياً سياسات وتوجهات هذه الدولة وموقفها من هذه القضايا·
يحاول هذا النوع من الطرح أن يخفي نفسه وعدم مشروعيته خلف براعة لفظية، ولكن هذه البراعة لا تستطيع أن تحجب المقولة الأساسية لهذا النقد، التي نستطيع أن نعبر عنها بشكل فج على النحو التالي: إن على الإعلام العربي أن يغير الصورة الحقيقية للواقع العربي وسياسته واقتصاده ويرسم له صورة وردية وجميلة ترضي السلطات غير موجودة في الواقع· أي أن على الإعلام أن يقوم بكل المهام الأساسية التي لم تقم بها الدولة والمجتمع العربيين في السياسة والاقتصاد والتعليم والمجتمعالخ، وترسم صورة زائفة للواقع العربي الرديء· وإذا قامت بهذه المهمة تكون قد أدت دورها على أكمل وجه في التصدي للحملة التي تستهدف العرب وصورتهم، ولكنها صورة لا يمكن تصديقها من العربي ذاته، فكيف الحال بغير العربي؟!·
وحسب هذا الطرح يصبح الإعلام بديلاً عن العمل لإنجاز مهمات الدولة والمجتمع التي تعطي الصورة الحقيقية، وبدل أن يتابع المسؤولون مهماتهم في ميدان عملهم والإشراف على أعمالهم وتصحيح الخاطئ منها، وبدل أن تقوم الوزارات بإدارة سياسة الدولة والحرص على المصلحة العامة· يتحول كل العمل إلى عمل إعلامي، ويكون على المسؤول الاقتصادي أن يجلس في الاستديو أو يعطي لقاء لصحيفة، ليتحدث عن الصورة الوردية لاقتصاد البلد المزدهر، في الوقت الذي ينهار الوضع الاقتصادي فيها ويهبط إلى الحضيض· أو يجلس مسؤول في بلد ديكتاتوري ليدبج خطاباً طويلاً ومملاً عن الديمقراطية التي يديرها القائد الأوحد ويمن فيها على الناس، والتي تشكل إبداعاً سياسياً لم يشهده عالم السياسة طوال تاريخه، وهو ما يشهد على عبقرية القائد· ليست هذه صورة كاريكاتورية لواقع أفضل حالاً من الأمثلة الواقعية جداً التي تزخر فيها التلفزيونات والصحافة العربية الرسمية يومياً·
حدود دور الإعلام
يلعب الإعلام دوراً في تجميل الصورة، وهذه قضية مفروغ منها، ولكن الإعلام يُجمل صورة أساسها موجود، ولكنه لا يصنع كل الصورة من العدم· وإذا كانت هناك صورة فيها بعض التشويه من الممكن تجميلها من خلال الإعلام، ولكن لا يمكن اختراع الصورة من وقائع غير موجود· هذا ما يحاول الإعلام العربي الرسمي تصوريه في أكثر من بلد، باختراع واقع غير موجود على الإطلاق، ففي الوقت الذي تسمع الإعلام الرسمي في هذا البلد العربي أو ذاك يتحدث عن المنجزات التي تحققت في البلد المعني، تشعر أن هذا البلد يعيش نهضة ترتقي بالبلد المعني إلى مصاف الدول المتقدمة· ولكن واقع الحال والمعروف للجميع، والشيء المشاهد بالعين المجردة، أن هذه المنجزات لا أساس لها وهي مجرد أكاذيب تتكرر منذ سنوات والأوضاع تزداد سوءاً، وإلا لما كان واقع الحال العربي على ما هو عليه اليوم لو كان جزءاً من هذه المنجزات صحيحاً، وليس كلها· فمن الدول العربية باستثناءات نادرة يستطيع أن يدعي أن أوضاعه اليوم أحسن حالاً منها في السبعينات أو الستينات من القرن الماضي على سبيل المثال؟!
دفع واقع الإعلام الرسمي العربي المواطن العربي إلى أن يثق بكل وسائل الإعلام الأخرى، سوى وسائل إعلام بلده، التي يعتبرها أغلب المواطنين العرب وسائل إعلام مهنتها الكذب· وليس أدل على ذلك، أنه ومنذ سنوات طويلة شكلت إذاعات مثل ومونتي كارلو، المصدر الرئيسي للمعلومات والتحليل للمواطنين العرب في بلدان المشرق العربي بدلاً من الإعلام الوطني، وهو ما يشكل مؤشراً بليغاً على مستوى ثقة المواطن العربي بإعلامه المحلي·
لم يختلف الوضع مع انتشار البث الفضائي كثيراً، وإن كان تحسّن على المستوى التقني، ولكن من حيث جوهر التفكير الرسمي، من أن الإعلام هو ممارسة للتمويه والكذب وأن العالم لا يأخذ المعلومات سوى من مصادرنا، بقيت هي الصيغة القائمة في الفضائيات العربية، باستثناءات قليلة مثل الجزيرة وأبوظبي والعربية· رغم الملاحظات التي توجه إلى هذه أو تلك من هذه المحطات، فإنها تتعامل مع مشاهديها باحترام وتعرف دورها بصفتها ناقلة للمعلومات وباحثة عن الحقيقة وليست مخترعة لها، وأنها وسيلة إعلامية وليست بوقاً للسلطة التي تتبع لها·
الحقيقة قوة الإعلام
إذا كان من الصحيح أن الإعلام سلاح قوي، فإن لقوته حدود مثل أي سلاح آخر، ومثل أي سلاح أيضاً قد تنقلب قوته على مستخدمه، إذا امتهن تزييف الحقائق بدل كشفها· ومن هنا فإن قوة الإعلام تكمن في الحقيقة التي يكشفها، وكل وسيلة إعلام تنشر حقائق مزيفة وأكاذيب، يفقد المشاهدون أو القراء الثقة بها، وكم من وسيلة إعلامية محترمة في العالم استقال رئيس تحريرها أو مديرها العام، واعتذرت للقراء أو المشاهدين عن أخبارها الكاذبة· وكم من الأخبار الكاذبة نُشر في وسائل الإعلام العربية، وكم من رؤساء التحرير أو المدراء العامين استقال، معلوماتي تقول: لا أحد·
يُبنى الإعلام الحقيقي على تقديم الحقائق مجردة من المبالغات والأكاذيب وتملق الزعامات· بأن نقدم صورتنا على حقيقتها، بما لها وبما عليها، نقدم الصورة السلبية قبل الإيجابية من أجل تجاوزها، ونحن بأمس الحاجة لتجاوز سلبياتنا· وضعنا ليس بخير، وعلينا أن نقدم هذه الصورة بصدق من خلال الأرقام والحقائق والوثائق اللازمة، لا نخجل مما نحن عليه، لأننا دون أن ننشر بأيدينا غسيلنا الوسخ، فإن هذا الغسيل سيصيبه العفن وسيسبب الانفجار، أو سينشره الآخرون لأهدافهم الخاصة، وبدل أن يكون درساً نستطيع تجاوزه، يصبح عبئاً علينا·
نحن من نصنع صورتنا في السياسة والاقتصاد والمجتمع وفي دورنا الاجتماعي وفي بناء بلداننا، والإعلام يقدم هذه الصورة ويجملها، ولكن ليست هذه وظيفته الأساسية، وظيفته كشف الأخطاء وإبقاء قضايانا الرئيسية في دائرة الضوء والمتابعة·
إننا من نصنع حياتنا على كل المستويات، والإعلام يقوم بعكس هذه الصورة، ودوره في النهاية هو تتويج لعمل المجتمع والدولة على كل المستويات وفي كل القطاعات، وليس دورا مستقلاً ومتعالياً على المجتمع·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©