الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

فارشافسكي: العقل الإسرائيلي أسير الشتات والهامش

21 يناير 2006

القاهرة - ابراهيم فرغلي:
أصبح 'ميشيل فارشافسكي' المولود في ستراسبورج لأسرة يهودية متدينة، والذي رحل إلى إسرائيل في السادسة عشرة من عمره ليتابع دراسة التلمود، واحدا من أبرز شخصيات اليسار الاسرائيلي، وأحد المناضلين من أجل تحقيق السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين منذ عام ،1968 حتى انه تعرض للسجن 30 شهرا في إسرائيل بتهمة دعم منظمات فلسطينية غير شرعية· ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي صدر له مؤخرا بعنوان 'أعلى الحدود' وصدرت ترجمته العربية في القاهرة عن دار 'العالم الثالث'، وترجمته سوزان خليل· ويقول فارشافسكي في مقدمة كتابه: 'في تشرين الأول - اكتوبر 1989 انتهت قضيتي· استمرت تلك القضية ما يقرب من ثلاثة اعوام، وحكم عليّ في النهاية بالسجن لمدة ثلاثين شهرا بتهمة أداء خدمات لمنظمات فلسطينية غير مشروعة، وخلال تلك الأعوام الثلاثة تبلور مفهوم فرض نفسه على الساحة، سواء في اتهامات النيابة العامة أو في حجج الدفاع، وتحول شيئا فشيئا ليغدو العمود الفقري لتلك المسألة القضائية ألا وهو مفهوم الحدود'·
ويوضح الكاتب أن الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة من حياته كانت مسيرة طويلة على الحدود، المختلفة التي تتجاور دولة اسرائيل والعالم العربي والاسلامي والإسرائيليين والفلسطيينيين·
ويرى أن هذه الحدود كلها تتقاطع أحيانا وتتطابق أحيانا، قابلة للاختراق بدرجة أو بأخرى لكنها ليست أبدأ مستعصيه على العبور·
وفي أول فصول الكتاب يشير 'فارشافسكي' الى خصوصية مفهوم الحوار في الذهنية الاسرائيلية باعتبارها عنصرا اساسيا في حياة أي اسرائيلي 'وهي بمثابة الحد الفاصل بين التهديد والشعور بالأمان بين الأعداء والأشقاء·· وفي بلد هو في آن واحد جيتو وحصن محاصر، تكون الحدود هي الوجود، ونصطدم بها في كل خطوة'· ويوضح كيف ان الحدود ليست في قلب كل جندي فحسب، وانما في قلب كل مواطن أراد أن يعيش في اسرائيل·· ويورد أمثلة عديدة للشباب الذين قضوا فترات من حياتهم كقوات احتياط بالجيش الاسرائيلي، وكيف كانوا ينظرون دائما بترقب الى الآخر القابع هناك بعد الحدود·
لكن علاقة الكاتب بالحدود لا تقتصر على حياته في اسرائيل، وانما تعود إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث ولد في ستراسبورج في فرنسا التي غيّرت جنسيتها خمس مرات على مدى ثلاثة أجيال، لكنها لم تكن أبدا لا ألمانية حقا ولا فرنسية صدقا· انها مدينة مختلطة، وسكانها مزدوجو الهوية· وهي أيضا ممر اللاجئين الهاربين من القهر أو البؤس، وللجيوش الغازية التي اجتازتها على صدى صيحات 'الى برلين' أو 'الى باريس'·
الهامش
ويقول: الهامش مكان مناسب دائما للمهاجرين، واليهود الشاردين على وجه الخصوص 'وبوصفي يهوديا' كانت تلك الهوية المبهمة، أي عدم تحقيق الذاتية داخل جماعة قومية مكونة وفق نموذج معين، تناسبني تماما· ·فقد أتاحت لي الشعور بأني فرنسي مع الحفاظ على نظرة متحفظة بعض الشيء، بل ساخرة أحيانا تجاه الفرنسي الأصيل، أي الفرنسي الداخلي، لكن العيش على الحدود لا يعني اجتيازها بالضرورة، فأنا لم أذهب الى المانيا لأول مرة الا بعد مغادرتي 'ستراسبورج' بوقت طويل، وهكذا عاش الكاتب خمسة عشر عاما من حياته في مدينة حدودية على هامش فرنسا الواقعة في العمق، وأصبحت تلك الحالة الهامشية أحد العناصر المكونة لشخصيته كما يقول··وعندما قرر في سن السادسة عشرة أن يغادر 'ستراسبورج' لاجراء دراسات تلمودية متعمقة كانت القدس هي المكان الذي أراد أن يذهب اليه·
ويقول: القدس وليس اسرائيل فقد ادركت جيدا انه كان هناك في اسرائيل، المركز الاسرائيلي والهامش اليهودي والمركز هو تل أبيب: مدينة عصرية، علمانية غربية وكذلك كانت حيفا الحمراء بمينائها وصناعتها البتروكيميائية· وكانت مزارع 'الكيبوتز' هي منتصف المركز· أما القدس فكانت على العكس مدينة يهودية لحالة الشتات·
ومن القدس كان الكاتب يرصد موقع العرب خلف الحدود، بكل ما يقع في ذهنية الاسرائيليين كأشخاص ينتمون الى معسكر معاد·
وفي سن الطفولة والمراهقة لم يكن وعي الكاتب قد أدرك حقيقة الصراع العربي الاسرائيلي مفسرا ذلك بقوله: 'كانت التربية الدينية التي نشأت في ظلها لا تكترث كثيرا بالصهيونية مما جعل معرفتي بأصول الدولة اليهودية والصراع الاسرائيلي - العربي محدودة جدا· وحرب حزيران 1967هي التي جعلتني اكتشف اسرائيل التي لم تعد الأرض المقدسة، بل دولة اسرائيل، كواقع زمني وسياسي، والتي تعيش حالة حرب مع العالم العربي المحيط بها· وعندما تفاقمت الأزمة الدبلوماسية مع مصر واستدعى الجيش الاسرائيلي جنود الاحتياط غادرت الكلية التلمودية من أجل الانخراط في العمل التطوعي أولا في معهد للاطفال المكفوفين، ثم في احدى مزارع الكيبوتز· وكنت مقتنعا في ذلك الوقت، كسائر الموجودين في اسرائيل، بأن العرب يريدون القاءنا في البحر وبأن ثمة خطرا حقيقيا يهدد الدولة اليهودية وسكانها'·
وفي نفس العام، وبعد انتهاء الحرب زار الكاتب الأماكن التي احتلها الجيش الاسرائيلي، وهناك عقد صفقة مع أحد التجار العرب لشراء قطعة من فراء الخراف، وكان يحاول مساومة التاجر بعجرفة متناهية مثلما المستوطنون لكنه انتبه لذلك فجأة: 'شعرت كمن تلقى لطمة على أم رأسه، فأدركت ساعتها أنه هو المظلوم، أما أنا فأقف على الجانب الآخر من الحدود، حيث يوجد الأقوياء، وتتجلى القوة، ورفضت فورا، أن أشغل هذا الموضع وهو رد فعل لا علاقة له بأيديولوجية، فقد ظللت على اعتقادي بأن مسؤولية الحرب تقع على العرب وأن للاسرائيليين كل الحق· لكني لم أكن مستعدا للمضي قدما نحو قبول أن أكون ممثلا·· كان تعاطفي يتجه بطبيعة الحال الى ذلك الخاضع للاحتلال· وكان لي الحظ منذ تلك الليلة أن أنال تأييدا من جانب والدي الذي قال لي: إن أي احتلال هو شر ومفسدة لأولئك الذين يشاركون، فلنتضرع الى الله كي ينتهي هذا الاحتلال بأسرع ما يمكن'·
طفح الكيل
وفي اكتوبر 1967 وفور أن سجل الكاتب اسمه في الجامعة العبرية بالقدس لدراسة الفلسفة رأى مشهدا وصفه كالتالي: 'رأيت أمامي تجمهرا صاخبا، وسمعت سبابا وشهدت تبادلا للضرب، ودفعني الفضول الى الاقتراب، كانت هناك مجموعة من الطلبة يقومون بتوزيع منشور تحريض عنوانه 'طفح الكيل'· وكان المنشور يصف المجزرة التي جرت على نهر الأردن وراح ضحيتها لاجئين كانوا يحاولون العودة الى بلادهم، كما تتضمن، علاوة على ذلك، وصف خروج سكان ثلاث قرى في اللطرون وطردهم منها·
وشعر الكاتب بالتعاطف مع المضطهدين والضحايا وبدأ يلتقي بالطلبة الذين وزعوا تلك المنشورات: 'لم تصطدم تربيتي الدينية بأيديولوجيتهم الماركسية والمعادية للصهيونية لكني صدمت بمظهرهم الخارجي فالشعر الطويل والسراويل الجينز والتنورات القصيرة، كلها أثارت في نفسي شعورا بالاشمئزاز لازمني طوال عدة شهور'· وحققت المنظمة الاشتراكية الاسرائيلية تقدما كبيرا، واشتهرت باسم صحيفتها الشهرية 'ماتسبن' أي 'البوصلة'· وأصبح خطاب 'ما تسبن' المعادي للصهيونية بشكل جذري ودعمها غير المشروط لحركة التحرير الوطني الفلسطيني مصدر الهام لجيل الشبان الفلسطينيين الذين يعيشون في الجليل وفيما تبقى بعد عام 1948 من القرى العربية الواقعة في قلب البلد·
لكن نفوذ 'ماتسبن' لم يكن قاصرا على الشبان الفلسطينيين وحدهم، وإنما امتد الى شبان المدارس في المدن الاسرائيلية الذين كانوا أكثر نزوعا الى مقاومة الأعراف، ولكنهم بصفة خاصة أقل تأثرا من الجيل السابق بالاحساس بخطأ جرائم 1948 حيث انبهروا على حد وصف المؤلف 'بأولئك الذين قدمتهم وسائل الاعلام باعتبارهم مسؤولين عن كل شرور البلد'· ويلقي الكاتب الضوء على العمل المنهك الذي كان يقوم به مع زملائه من اعضاء الحركة حيث يجوبون القرى متنقلين في السيارات العامة، يوزعون صحيفتهم ويحاولون الحديث عن أفكارهم مع الجماهير·
ويقول: كنت ضمن مهام أخرى، مسؤولا عن احدى الخلايا في قرية 'طيرة' وكنت أحاول مرة أو مرتين أسبوعيا تنظيم العمل السياسي بها بعشرات من المناضلين الفلسطينيين· كما كنا ندعى في كثير من الأحيان للتحدث في مزارع 'الكيبوتز' أو بالأحرى كي يشاهدنا الناس '···' الذين كانوا يستمتعون بشدة بالصياح تعبيرا عن كراهيتهم عندما كنا نذكرهم بأن اشتراكيتهم قامت على أنقاض قرية عربية ما·· دمرت في عام ·1948 وهكذا بدأ الكاتب مع رفاقه والمناضلين الفلسطينيين مسيرة طويلة من الكفاح يورد تفاصيلها مع اشارته الى ان الانضمام الى 'ماتسبن' في المقابل كان يعني العزلة والنفور من المجتمع الاسرائيلي، فقد كان الاباء يقاطعون ابناءهم اذا علموا انهم انضموا أو تعاطفوا مع 'ماتسبن'· ومن بين صديقاته يشير الكاتب الى 'ليا' التي تزوجها لاحقا وابنتيهما 'زينة' و'تليلة'، كما يشير الى صداقة جمعت حنان عشراوي بـ 'ليا' وتوثقت حتى وصلت عشراوي الى الحكومة الفلسطينية، لكن 'ليا' كانت توصف بانها الخائنة صديقة العرب وهو ما أدى الى تبرؤ ابنها منها·
ويتساءل الكاتب: هل نجحت كل من 'حنان وليا وزينة وتليلة' في ان يكن اولئك المحظوظات اللائي استطعن الغاء الحدود في علاقاتهن الشخصية؟ لست متأكدا من ذلك فكثير من الاسرائيليين اليساريين يحبون الحديث عن اصدقائهم الفلسطينيين غير انني لا اعتقد ان هذا المفهوم مناسب ليس لاستحالة وجود صداقة بين رجال ونساء ينتسبون الى مجتمعين متحاربين، بل لانه في السياق المحدد للعلاقات الاسرائيلية الفلسطينية يكاد هذا الشكل من أشكال الحميمية الذي يلغي في العلاقة الشخصية الانتماء العرقي أو الديني والذي نسميه بالصداقة يكون مستحيلا·
ويوضح تفاصيل اعتقاله والظروف البائسة في السجن التي كادت تجعله يعترف لولا دعم زوجته له الذي جعله يتماسك كما يورد تفاصيل المحاكمة·
ويكشف الكثير من عنصرية المجتمع الاسرائيلي ضد العرب، ويحلل ازمة امثاله من الاسرائيليين المنحازين للقضية العربية، وكيف ان احد الحلول هو الانتماء للهوية العربية، لكنه يناقش صعوبة ذلك بالنسبة لمن كانت له خلفية اوروبية·
ويقول فارشافسكي: يرى بن جوريون ومن خلفوه ان العودة الى الارض المقدسة تضع نهاية للنفي اما في اليهودية الارثوذكسية على العكس فإن النفي ليس وضعا مكانيا، اذ انه يدوم حتى بعد تحقيق السيادة اليهودية في اسرائيل وهوية الشتات هي التي يتوجب على الاسرائيليين ان يحملوها مجددا مخففين قوميتهم بجرعة قوية من المواطنة العالمية ومهدئين حدة استحواذ امنهم الذاتي عليهم بتعاطف مع ألم الغير ومستعيضين عن الانكفاء على الذات بانفتاح منظم باتجاه الاخر·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©