الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيانات الشعر السياسية

بيانات الشعر السياسية
10 مايو 2012
في طبعة جميلة، وبغلاف فاخر، أصدرت دار التكوين في سوريا، الترجمة العربية لـ”التراجيديات الصغيرة” وهي إحدى الروائع الخالدة لشاعر روسيا الأكبر: ألكسندر بوشكين، هذا الشاعر الذي لم يكتب إلا أعمالا قليلة لكن مسرحياته تكتسي أهمية كبرى في تراثه الأدبي سواء من الناحية الفنية أو الفكرية. وهي كلها، باستثناء مسودة تراجيديا عن “فاديم نوفغورد” وكوميديا عن “المقامر” مؤلفة في مرحلة النضج التام للإبداع البوشكيني بين 1825 و1835. وبرأي المترجم والشاعر المغربي إدريس الملياني في المقدمة التي خص بها هذا العمل “فإن بوشكين أو أبو الأدب الروسي الحديث ترك بشكل كامل خمس مسرحيات فقط هي: تراجيديا “بوريس غودونوف”، وأربع “تراجيديات صغيرة” تدور حول تيمات عامة: المال “الفارس البخيل”، الحسد “موتسارت وسالييري”، الموت “وليمة أثناء الطاعون”، والحب، منظورا إليه من خلال مغامرات دون جوان: “الضيف الحجري”. وقد صدرت كلها في حياته ما عدا “الضيف الحجري”. ويرى بعض الدارسين أنه أوشك على إنهاء “روسالكا” أو “حورية الماء” وأنجز حتى النصف “مشاهد من أيام الفروسية”، وبقيت ضمن مخطوطاته مسودات ومخططات لحوالي عشر مسرحيات أخرى. لم يكن بوشكين، الشاعر والكاتب القصصي والروائي والمسرحي، يكتب مؤلفاته الدرامية من أجل القراءة، أو كقصائد حوارية طويلة، بل كأعمال مسرحية، ومن أجل عرضها على خشبة المسرح، الذي كان يعرفه منذ الطفولة معرفة جيدة ويميز فيه بين المسرحيات ذات الطابع الأدبي المحض، التي يستوعب محتواها، الفكري والفني، استيعابا كاملا أثناء القراءة، وبين الأعمال المكتوبة للمسرح التي يأخذ فيها المؤلف بعين الاعتبار تشخيص الممثلين والحدث المسرحي، ويستوعبها المتفرج مباشرة. وبالتالي كان محقا برأي الباحثين حيث اعتبر مسرحيات بايرون قصائد درامية ومؤلفات أدبية وليست بأعمال مسرحية. إذ أخذ على مسرحيته “قابين” شكلها الدرامي الواحد ومشاهدها غير المترابطة وأحاديثها التجريدية. ورأى أن تراجيدياته كانت دون مستوى عبقريته. وأنه أصبح مقلدا عندما وقف على أرض الدراما. تماما مثلما نفى الطابع المسرحي عن تراجيديا “يرماك” للشاعر خومياكوف، حيث كتب يقول: إن “يرماك” ذات التصور المثالي، مؤلف غنائي، من وحي حماسة الشباب وليست بعمل درامي. أربعة مراحل أما بوشكين نفسه فقد كان، حسب ما ورد في تقديم الكتاب “مثل غوغول وأستروفسكي وغيرهما من المؤلفين المسرحيين، يكتب مسرحياته آخذا فيها دائما بعين الاعتبار عرضها المسرحي. وبالمناسبة كان غوغول يصف المسرحية التي لا تعرض بأنها “عمل ناقص” ولذلك، عندما نقرأها، ينبغي علينا، لكي نفهم معانيها كاملة، أن نتمثل الأحداث التي تجري على خشبة المسرح، ولا يشير إليها بوشكين الذي كان بخيلا بالملاحظات وأن نتمثل أيضا الخلجات النفسية لشخوص المسرحية، التي يصورها الشاعر في عمله الأدبي المكرس للقراءة، وعلى الممثل بعد أن يدرس بعناية نص المؤلف أن يبرزها أثناء أدائه المسرحي من خلال النبرات والإيماءات والحركات”. يشير إدريس الملياني الى أن الباحث بوندي قسّم إبداع بوشكين الكاتب المسرحي الى أربعة مراحل: الأولى إنطلقت من ( 1821 ـ 1822) حيث أكد على أن تلك الفترة هي مرحلة إزدهار الرومانتيكية في إبداع بوشكين وفي الآن ذاته صعود مزاجه الثوري إلى الأوج. ففي هذه السنوات كان، في كيشينيوف وكامنكا، يعاشر الأعضاء النشطين من منظمة الديسمبريين الجنوبية: فلاديمير راييفسكي، أخوتنيكوف، بيستيل وآخرين من منظمة الديسمبريين الشمالية. لذلك يمكن الظن أن بوشكين، الذي لم يكن عادة يتطرق مباشرة في قصائده الرومانتيكية إلى الموضوعات السياسية والاجتماعية، قد فكر، تحت تأثير هذا الاحتكاك بالشخصيات الثورية، في كتابة تراجيديا تاريخية عن الانتفاضة الشعبية وكوميديا أخرى مناهضة لنظام الرق الإقطاعي. وكان المسرح، الأقوى تأثيرا على الجمهور من تأثير الأدب على القراء، يبدو له الشكل الملائم أكثر لمهام الداعية السياسية التي كان الديسمبريون يطلبونها آنئذ من الفن. إلا أنه لم يحقق هذه الأفكار. فقد بدأ في إعداد موضوعات وشخصيات “فاديم” في شكل قصيدة ولكنه لم يستمر فيها حتى النهاية. وبالتالي يمكن القول، بناء على المقتطفات المتبقية من نص وخطة “فاديم” و”المقامر” إن فن بوشكين المسرحي في المرحلة الأولى كان متسما بطابع تقليدي تماما. فهذه الكوميديا عن المقامر شكلا ولغة شبيهة بالعديد من قصائد الكوميديا في مطلع القرن 19. أما تلك التراجيديا عن “فاديم” وانتفاضة “النوفغوروديين” ضد الأمير ريوريك، القائد الورنكي وأحد القراصنة الإسكندينافيين على ضفاف بحر البلطيق الذي حكم الشمال الروسي عام 862 إلى وفاته عام 879 وأسس الملكية الروسية وخرج من صلبه جميع الأمراء القدامى، فقد كانت هذه المأساة قريبة من التراجيديات الديسمبرية من حيث موضوعاتها المدنية، إذ حافظ فيها على جملة من سمات الكلاسيكية رغم توجهها الرومانتيكي العام. ومع أنه تخلى عن “وحدة الزمان والمكان” للدراما الكلاسيكية، فقد حافظ على النبرة الحماسية والخطابية المميزة للنزعة الكلاسيكية، في الأحاديث التي ليست موجهة إلى الشريك بقدر ما هي موجهة إلى المتفرج، كما حافظ في الشعر على الشكل التقليدي: اليامب السداسي الأجزاء المزدوج القافية. تراجيديا تاريخية أما المرحلة الثانية، برأي المترجم، فتمثلها “التراجيديا التاريخية الطويلة” بعنوان “بوريس غودونوف” التي كتبها، بين ديسمبر 1824 ونوفمبر 1825، في منفاه الجنوبي بقرية ميخايلوفسكويي البعيدة. وفي هذا العمل ـ يقول المترجم ـ “يتجلى بوضوح الانعطاف الحقيقي لبوشكين عن المنحى الرومانتيكي. فبدلا من المهمة السابقة: أن يعبر في الشعر بالدرجة الأولى عن أحاسيسه ونوازعه الذاتية، وعن آماله الطافحة بالأحلام والآلام، فضلا عن أن كل النماذج والمشاهدة الواقعية كانت تستخدم كوسيلة فقط لتحقيق هذه الغاية الذاتية الغنائية الخالصة، فقد طرحت أمامه مهمة جديدة: أن يدرس بعناية الواقع الموضوعي وأن ينفذ إلى جوهره بأساليب المعرفة الفنية والتصوير الشعري. وهنا أيضا يتجلى بوضوح موقف الشاعر الخاص من الظواهر المعبر عنها، مع تقييمه لها بطبيعة الحال. فهو يقدم تقييمه للواقع، ويكشف عن موقفه منه. وقد تمت كتابة “بوريس غودونوف” عشية الانتفاضة الديسمبية، التي اندلعت بعد موت إسكندر الأول واعتلاء نيقولا الأول للعرش مباشرة في 14 دسيمبر 1825 في سانت بطرسبورغ، وبعد ذلك بأسابيع قليلة، في أوكرانيا. وقد سحقت كلتا الانتفاضتين لأن الديسمبريين لم تكن لديهم القوى الكافية لقلب الأوتوقراطية. إذ كانوا نبلاء ثوريين إلا أنهم بعيدون جدا عن عامة الشعب. ولم يستطيعوا بل إنهم لم يرغبوا في تحريض الجماهير لشن صراع ضد الأوتوقراطية ونظام القنانة. وقد كانت لبوشكين علاقة صداقة وثيقة مع الأعضاء النشيطين من المنظمة الديسمبرية “الشمالية” في بطرسبورغ التي كان الشاعر رييلييف أحد شخصياتها البارزة الذي أعدم شنقاو “الجنوبية” في أوكرانيا التي كان على رأسها الكولونيل بيستيل، القائد الذكي والقوي ومن أفضل وأرق ممثلي الحركة الديسمبرية الذي أعدم شنقا هو الآخر. وقد تأثر به الشاعر تأثرا كبيرا وقال عنه إنه “يتمته بعقلية من أكثر العقليات تفردا”. مثلما تألم ألم شديدا من العقاب الوحشي الذي أوقعه نبقولا الأول بالديسمبريين، إذ أعدم خمسة من قادة الحركة وحكم على آخرين بالأشغال الشاقة في مجاهل سيبيريا، فكتب بوشكين قائلا: “الشنق هو الشنق، أما الأشغال الشاقة لمائة وعشرين صديقا وأخا ورفيقا فهو أمر فظيع!”. إشكالية معاصرة وبالتالي فإن إشكالية “بوريس غودونوف” كأول تراجيديا روسية واقعية، كانت إشكالية معاصرة إلى أقصى درجة. فقد أثار فيها قضية الساعة الملحة التي كانت تقض مضاجع المثقفين النبلاء التقدميين، أي قضية الحكم الأويوقراطي ونظام القنانة وفي المقام الأول مسألة مشاركة الشعب نفسه في النضال من أجل تحرره. فالديسمبريون كانوا في برامجهم يطالبون بإلغاء نظام القنانة واستبدال الحكم الأوتوقراطي بملكية دستورية، حسب ديسمبريي الشمال أو بشكل حكم جمهوري، حسب ديسمبريي الجنوب. إلا أنهم كانوا يخصصون للشعب دورا سلبيا، خوفا من ممارساته الثورية. ولا يكشف بوشكين عن موقفه من هذه المسألة في “بوريس غودونوف” بشكل تصريحات للمؤلفين، على لسان هذه الشخصية أو تلك، كما في المسرحيات الكلاسيكية والرومانتيكية. وإنما وجد في التاريخ لحظة، أو حالة، تكفلت فيها الحياة نفسها بحل هذه المسألة، فأظهر بكل إخلاص للواقع، كيف تتطور الأحداث وما هي القوى الفاعلة فيها. وقد استقى المعطيات التي كان محتاجا إليها من المجلدين العاشر والحادي عشر الصادرين آنئذ من كتاب كارامزين: “تاريخ الدولة الروسية” (بداية القرن 17): الانتفاضة الشعبية ضد القيصر بوريس غودونوف، الذي رسخ نظام القنانة في روسيا، حسب رأي كارامزين الذي احتذى به بوشكين، والانتفاضة التي أدت إلى خلع القصير فيودور عن العرش، وهو ابن بوريس غودونوف (توفي بوريس نفسه قبيل ذلك). وبالتالي فإن عهد القيصر بوريس غودونوف، الذي اشتمل في نفس الفترة التاريخية القصيرة على إدخال نظام القنانة والانتقام الشعبي من جزاء ذلك، قد خدم بوشكين إذ قدم له مادة صالحة لتراجيديا سياسية ذات إشكالية معاصرة. تراجيديا ضغيرة أما المرحلة الثالثة (1826 ـ 1831): فهي برأي إدريس الملياني تمثلها التراجيديات الصغيرة الأربع ودراما “روسالكا” التي اعتبرت غير تامة. إذ أن بوشكين عندما عاد من منفاه في سبتمبر 1826 وجد مجتمع نبلاء العاصمة في حالة إحباط معنوي وسياسي عميق، نتيجة هزيمة الحركة الديسمبرية والتنكيل الوحشي بالمشتركين فيها. وطوال عدة سنوات، تقريبا حتى مطلع الثلاثينيات، ستختفي من الأدب الروسي المواضيع المرتبطة بالحركة التحررية. وستظهر في الابداع البوشكيني من جهة أولى موضوعة الدولة الروسية بتناقضاتها المعقدة (“بولتافا”، “تازيت”، “زنجي بطرس الكبير”) وتتعمق من جهة ثانية الإشكالية البسيكولوجية (يفغيني أونيغين المسودات النثرية). ويشكل التحليل العميق والدقيق لبسيكولوجيا الشخصية البشرية على الأغلب محتوى المرحلة الجديدة من إبداع بوشكين المسرحي. ويبدو أنه قد رأى في هذا الوقت أن الحياة الروحية لبعض شخصيات “بوريس غودونوف” لم تكشف بالعمق الكافي، إذ إنصب فيها الاهتمام كله على الحدث السياسي والنضال الاجتماعي الجماهيري. ففي نهاية عام 1825، كتب رسالة يرد بها على فيازيمسكي، الذي لفت نظره إلى نصيحة كارامزين بالانتباه للتناقض في طبيعة غودونوف التاريخي: (مزيج غريب للغاية من الورع والولع الإجرامي) اعترف فيها حين قال: (لقد نظرت إليه من زاوية سياسية، ولم أنتبه لجانبه الشاعري) بمعنى أنه رسم غودونوف قبل كل شيء، كرجل سياسي، ولم يتعمق في بسيكولوجياه الشخصية. وبعد تراجيديا “بوريس غودونوف” أراد بوشكين أن يعبر في شكل درامي عن تلك الملاحظات المهمة والاكتشافات في مجال البسيكولوجيا البشرية، التي تراكمت لديه خلال تجربته الإبداعية. غير أنه لم يشرع في كتابة مأساة بسيكولوجية أو فلسفية كبيرة مثل “هاملت”. وقد فكر في كتابة سلسلة من المسرحيات القصرية، أو “الدراسات الدرامية” التي تنكشف فيها النفس البشرية، بمنتهى العمق والصدق، عبر موقف محوري متوتر، إذ تستحوذ عليها رغبة ما أو تبرز مزاياها الكامنة في حالات وظروف خاصة، استثنائية، وغير عادية. يقول بطل بوشكين “فرانتش” في المشهد الثاني من مشاهد من أيام الفروسية: “ليأخذ الشيطان ثروتنا/ إذا كان والدي غنيا، فما شأني أنا؟/ إن النبيل، الذي لا يملك شيئا،/ سوى سيف مثلوم وخوذة صدئة،/ سعد كثيرا من والدي/ حين يمر في الطريق،/ يخلع أبي أمامه قبعته،/ دون أن يلقي عليه الآخر حتى نظرة/ المال! لأنه لم يحصل على المال إلا بمشقة،/ يظن أن في المال تكمن كل قوة/ حسنا! إذا كن قويا إلى هذا الحد فليحاول والدي/ أن يلحقني بقصر البارون! النقود!/ الفارس لا يحتاج إلى النقود، بل يحتاج إليها/ صغار البرجوازيين، ما إن يعتصرهم الفارس”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©