الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغذامي يعلن موت النقد الأدبي

الغذامي يعلن موت النقد الأدبي
10 مايو 2012
“ما يتراءى لنا جماليا حداثيا في مقياس الدرس الأدبي، هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي.. وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف هذا الخلل الثقافي، فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه”. عبدالله الغذامي ـ “النقد الثقافي” النية التي لا يخفيها كتاب الدكتور عبدالله الغذامي “النقد الثقافي ـ قراءة في الأنساق الثقافية العربية” مثلت مطلع الألفية الثالثة التي صدر فيها الكتاب انقلابا آخر في الخطاب النقدي الحديث على مستويين: شخصي يتصل بتحولات الغذامي النقدية من اصطفافه الحداثي المبكر ضمن الدعوات النصوصية فالبنيوية والتفكيكية، ثم القراءة والتلقي وصولا عبر الاهتمام بالنقد النسوي والألسنية إلى الدراسات الثقافية فالنقد الثقافي. وبهذا الأخير محا الغذامي قناعاته وتوصلاته واستدار؛ ليراجعها بجرأة تحسب له وتدعو للتثمين والإشادة كي لا تظل الثوابت ذات هيمنة على الفكر بينما يتغير كل شيء حولنا، وإن كانت تلك المراجعات الحادة على المستوى العملي تؤشر إلى هشاشة النظرية النقدية العربية، وإمكان حصول الاستبدالات والانقلابات فيها؛ لطبيعتها المفتقدة للمركز والمرجع والمقترب المناسب المؤدي إلى فحص النصوص أو وصف علاقتنا بها كما يقترح الغذامي في واحدة من مراحله النصوصية التي غادرها لاحقا. وعلى المستوى الموضوعي تمثل أطروحة الغذامي حول النقد الثقافي نموذجا للناسخ والمنسوخ الذي هو أحد المشغلات النسقية التي فات الغذامي رصدها، بل كان ضحيتها حين رأى ألا حياة للنقد الثقافي إلا بما أسماه موت النقد الأدبي، فكان الثقافي ناسخا والأدبي منسوخا، مذكرا برولان بارت وإعلانه الشهير عن (موت المؤلف) رغم أن بارت يتحدث عن إجراء تكتيكي مرحلي في عملية القراءة أشبه بالتخدير الموضعي لإجراء عملية جراحية لا يلغى بسببها العضو المخدر من الجسم. أما الغذامي فيدعو استراتيجيا لموت النقد الأدبي بتهمة وجود الأدبية والشعرنة فيه، وانصرافه إلى البحث في جماليات يصنعها مجاز لا حقيقة تسنده كما يرى. وتغدو التهم الموجهة للنقد الأدبي نواقص تحسب على الحداثة ذاتها التي كان الكتاب يحاول جاهدا إثبات رجعيتها ويسفّه خطابها عبر انتقاء شاعرين من أعلامها في الشعر العربي خاصة.. ولا أدري لماذا البحث عن الأنساق الفاعلة في الثقافة العربية عبر الشعر فحسب وليس السرد مثلا؟. أليس في هذا ـ مرة أخرى ـ سقوط في خطاب النقد (الأدبي) المرفوض من الغذامي والمتمركز حول الشعر أو ما يسميه الكتاب الهيمنة الشعرية؟ رجعية الحداثة! قراءة الكتاب بدلالاته البعيدة ومراميه أعطتني القناعة بأنه محاكمة للحداثة ومحاولة إثبات بطلانها كمشروع، ولكن بطريقة ذكية تنسب لها صفات الرجعية والمنافقة والتمويه، فالحداثة كلها ـ وليس النقد الأدبي النسقي وحده ـ مطلوب الموافقة على شهادة موتها التي حررها الغذامي. وراح في سبيل ذلك يحاكم نموذجين معاصرين ومثلهما من الأسلاف لإثبات ذلك: فكان ابو تمام والمتنبي ضحيتي التراث، ونزار قباني وأدونيس ـ والأخير خاصة! ـ ضحيتي المعاصرة. وإذا تم تسفيه حداثة الأربعة فقد سقط مشروع الحداثة ومبرراتها. وذلك يذكرني بواقعتين مماثلتين: فالباقلاني في “إعجاز القرآن” أراد تسفيه الشعر قديمه وحديثه؛ فهدم معلقة امرئ القيس وقصيدة للبحتري، وأفرغهما من الشاعرية والهدف أيضا. كما فعل العقاد في “الديوان” الشيء نفسه، حين أراد نقض خطاب النهضة في مرحلتها الإحيائية؛ فاستهدف شوقي وتمحل في عرض عيوب شعره. وسيجد القارئ أن الغذامي لإثبات رجعية الحداثة وزيف خطابها يحمل النصوص ما لا تحتمل بنائيا، ويعتمد الأخبار والروايات والتفوهات، مما كان يراه في مرحلته النصوصية سياقات خارجية لا يجب إقحامها في قراءة النص. وسيردّ الغذامي على خصومه متهما إياهم بالذكورية والفحولة؛ يريدون منه الثبات على الرأي كجزء من الرجولة النسقية؛ لأنهم أنكروا مثلا أن يكون المتنبي شحاذا “وأقل الشعراء اهتماما بالإنساني وتحقيرا له” في دراسة الغذامي 2000 بعد أن كان في دراسة له عام 1994 “يقدم لنا ـ أي المتنبي ـ رؤية شعرية جديدة تتمخض عن شخصية نصوصية فريدة ومتميزة ومختلفة”. وتتمدد مجالات المرفوضات لدى الغذامي في النقد الثقافي هكذا: ـ موت النقد الأدبي ـ رجعية الحداثة وشعرائها قديما وحديثا ـ تحميل الشعر وزر “النموذج السلوكي الثقافي النسقي الذي يعاد إنتاجه بما أنه منغرس في الوجدان الثقافي”. فكان الخطاب الشعري مسؤولا عن خراب عمّ الخطابات الأخرى وليس العكس، اي لم يجد الغذامي سوى الخطاب الشعري بنسقيته المرفوضة مسؤولا عن خراب الشخصية. النقد الأدبي ـ الحداثة ـ الشعر، تلك هي الكائنات المستهدفة للتضحية بالموت والإتلاف ليولد النقد الثقافي وكأن حياته لا تكون بجوارها بل بإعدامها. ذاكرة المصطلح يذكر الغذامي مراجع تبنيه للنقد الثقافي، وفي مقدمتها آراء فنسنت ليتش الذي أصدر كتابا بعنوان الغذامي نفسه عام 1992 ولخص الغذامي أبرز ما رآه من عناصر في دعوة ليتش لنقد ثقافي ما بعد حداثي وما بعد بنيوي، ولكنه مستمد من نقاد أدب مثل بارت وديريدا وفوكو مع تباعد حقول عملهم لكن الطابع الأدبي لاشتغالاتهم النقدية يرينا الجذر الأدبي للنصوصية التي تأثر بها ليتش. وكانت مستندا لتوسيع شيئين فات الغذامي التذكير بهما، لنرى أنهما لا يمكن أن يندرجا مرحليا في اهتمامات النقد الأدبي العربي إلا بعد حين وهما: توسيع مفهوم النص ليشمل الكتابات الما بعد حداثية كلها كالمذكرات والرسائل والأخبار، وأي فاعلية يمكن ان تشكل كوجود نصا مستقلا. وثانيهما توسيع مفهوم الثقافة ذاتها لتشمل الجديد المخترع في الرقمنة والتواصل الشبكي والتقنية الفائقة وغيرها مما يقدمه العلم يوميا للحياة والاستخدام الإنساني. فتوسيع النص وتوسيع الثقافة لا يتمان عندنا في اللحظة التي حاكم فيها الغذامي نقدنا الأدبي وشعرنا وحداثتنا. بسبب قوة الأنساق الفاعلة في ثقافتنا العربية وليس لقوة أو أثر الخطاب الشعري الذي ليس له تلك السطوة في السياق الثقافي العام لأسباب معروفة تلخصها قوة الخطابات الأخرى سياسية ودينية وقبلية وهو ما لم يرد الغذامي ان يريه لقارئه كي تظل مرفوضاته مدانة وتفسح للنقد الثقافي وحسب في الفاعلية الثقافية. لقد غابت عن أطروحة الغذامي سلسلة إجراءات منهجية كان لها أن تكمل رؤيته كتعريف النسق وعرض مفاهيمه، وكذلك الثقافة والنقد والقراءة. وهي من مستلزمات الدعوة لقراءة ثقافية بديلا عن النقد الأدبي وجمالياته وشاعريته.. كما أن العنوان الثانوي للكتاب أسوة بكتاب ليتش ينص على بعضها. المجازفات والحقائق بسبب غياب القراءة السياقية لدى الغذامي يسلب من النصوص ما يحف بها من عوامل رغم اهتمام النقد الثقافي بالجانب التأويلي وقراءة الأنساق المضمرة وكشفها في طيات النص، فالمديح مثلا في الشعر العربي هو نفاق وشحاذة وإفراز لنسق يصل إلى حد صناعة الطاغية! كما يراه الغذامي، ولكن القراءة النصية تعلمنا في أبجدياتها وكما نص عليها الغذامي نفسه في دراساته المؤثرة المبكرة كالخطيئة والتكفير أن نقرأ النص بالكيفية التي عبر عن غرضه دون محاكمة الغرض نفسه. لكن الغذامي يرمي الشعر المدحي او الهجائي بالنفاق والتزلف والتكرار النسقي وصناعة النموذج الفحل وسوى ذلك مما يتضاءل إزاءه الفن الشعري وآلياته ووسائله أو ما دعاها الغذامي منزعجا (جمالياته). وهو يرى أن نبذ المديح فضيلة استحق عليها عمر بن عبدالعزيز أن يوصف في كتاب الغذامي بأنه “أول رواد النقد الثقافي لأنه لم يرضَ بالمديح!” لكنه لم يذكر مثلا هجر شعراء كثر للمديح كالمعري وابن خفاجه، وكذلك بعض النقاد والمفكرين كالجاحظ الذي لم يعمل لدى خليفة بل عاش من مهنة الوراقة والكتابة. إن انتزاع النصوص من سياقاتها وقراءتها اجتزاء سببت أذى للنصوص ذاتها، فنزار ليس مكافحا لحرية المرأة في مجتمع قبلي ورجعي بل هو مريض يريد أن يبني جمهورية للنساء! كي يستحوذ عليهن، كما أن أدونيس يعلي ذاته، وكأنه لا يعبر عن ذات جمعية، وقد كانت القراءة النحوية أحيانا سببا في سوء الفهم كتفسير أنا المتنبي أو أدونيس ونزار بأنها ذاتهم المعينة لهم تماما وليس الجماعة التي يعيشون بينها. كما أن كاتب النص يكون مالكه في هذه الحالة وكل إشارة فيه تعود إليه وهذا هو لب اختلافنا كنصوصيين مع القراءات التقليدية. في مبحث مهم ولماح عن العصا ودلالتها في كتاب الجاحظ يغيب عامل سياقي لم يذكره الغذامي مرة واحدة وهو الشفاهية؛ فالعصا أداة درسها علماء الشفاهية بكونها استعانة للتوصيل إحساسا من الشاعر وهو يلقي نصه شفاها لمستمع بأنه بحاجة لهذه الأدوات المساعدة لتوصيل نصه. ويغيب العامل السياقي عن تحليل الغذامي ثقافيا لظاهرة الكرم فهي عنده علامة فحولية وليست بسبب سياقي هو الجوع والقحط في الجزيرة المنتجة لهذه القيمة فصار الكرم مأثرة بوجود العوز. بهذه المحاكمة للحداثة والشعر والنقد الأدبي تغدو عملية القراءة وتلقي الشعر نسقية أيضا فيكون موت النقد الأدبي شاملا لما يتبعه من أعراف كقراءته وتحليله لأنها ستشيع النسقية التي يبالغ الغذامي في التخويف منها مع أنها بنى موجودة في هيكل الشخصية، وليس الشعر والنقد بانواعه حتى الثقافي المبشَّر به في الكتاب إلا مظاهر لها. أما المحاكمة النصية أي التحليل والاستنتاج فهي أدوات جدالية يتم ليّ عنقها لتدخل في عملية شائكة خلاصتها إحلال النقد الثقافي مكان الأدبي! فلننظر مثلا واحدا هو تعليق الغذامي على قول المتنبي: أكل فصيح قال شعرا متيم؟ فقد قال الغذامي إنه قد هزأ بقوله هذا بالحب والتشبيب بينما كان المتنبي يثور على المطلع التقليدي المقر في عمود الشعر وهو البدء بالغزل مهما كان غرض القصيدة! فكيف صار الهدف أو الاعتراض الفني للمتنبي دليلا على تحقيره للآخر والهزء بالحب والتشبيب؟ إن دعوة الغذامي ذات أهمية كبيرة في رسم طرق جديدة للنقد الأدبي صوب ما هو ثقافي، ولكن ليس بتشييع النقد الأدبي وإعدام توابعه الشعرية وسياقات حداثته المتهمة بالرجعية في تحليل قسري، يصبح فيه نزار قباني فحلا مستبدا والقارئ ليس إلا عبدا لانه يقول: إني خيرتك فاختاري.. وأرى أن انتزاع أدبية النصوص ونسف سقفها المجازي قد ولد هذه الأخطاء التحليلية ومثيلاتها وتحول بالكتاب من مقترح لخلاص النقد من نسقيته وتقليديته إلى دعوة لنبذ الشعر والحداثة وأدبية النقد، وهو ما لا يقبله منطق الأشياء..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©