الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لغز اختطاف فارس

لغز اختطاف فارس
22 مايو 2014 22:55
كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة مساء قرب موعد أذان المغرب، ولم يعد الصغير إلى المنزل بعد أن انتهى من اللعب مع أقرانه قريبا من البيت في الشوارع الجانبية، حيث يذهب هناك للقاء أصدقائه وزملائه بالمدرسة، اعتادوا ذلك منذ أن انتهى العام الدراسي، يلتقون في أي وقت من النهار، لكن عندما تغيب الشمس لابد من العودة قبل أن يحل الظلام، وثانيا لأن الأسرة تتناول وجبة العشاء في هذا الوقت، والطفل ابن الثامنة يقيم مع أمه في بيت جده بعد أن تم الطلاق بينها وبين أبيه منذ ثلاث سنوات، لكنه يتنقل بينهما، فأبوه يقيم في الشارع الخلفي، ويعطف عليه أحيانا بقطع من الحلوى، وكثيرا ما يقسو ويعامله بغلظة ويأمره بجفاء بأن يعود إلى أمه، لذلك لا يحب الذهاب إليه. بحث غير مجد خرجت الأم تسأل الصغار والكبار عنه، لكنها لم تصل إلى جواب شاف من أي منهم، جابت كل شوارع المنطقة الريفية الصغيرة، أرسلت من يسأل أباه عنه ربما يكون موجودا عنده فأجاب بالنفي، ولم يتحرك عنده ساكن وكأن الولد ليس ابنه أو حتى تربطه به علاقة من قريب أو بعيد، واصلت الأم بحثها في كل مكان يمكن أن تصل إليه قدما الصغير، وخرج معها الأهل والجيران يشاركون في البحث عنه، ولكن المحصلة صفر، كلما مر الوقت تزداد ضربات قلبها وتخور قواها وتفقد أعصابها، لا تعرف كيف تتصرف ولا إلى أين ستذهب، المخاوف والهواجس تتلاعب برأسها، تخشى أن يكون قد أصابه مكروه أو غرق في الترعة القريبة من القرية، تحاول أن تبعد هذه الكوابيس عن تفكيرها لكن لا تجد عنها بديلا، بدأت تصرخ وتستنجد بمن حولها بأن يكثفوا جهودهم معها لكن لا حيلة لهم ولا شيء أمامهم يمكنهم أن يفعلوه، عجزوا عن العثور عليه، وأعيتهم الحيل والوسائل، وأخيرا استسلموا للواقع. الأمر حقيقة في غاية الصعوبة ليس على الأم الضعيفة فقط ولكن على الجميع، فالطفل الصغير “فارس” يعيش حياة صعبة أكثر من الأيتام، فمنذ أن تم انفصال أبيه وأمه وهو يقيم معها في بيت جده، يعطف عليه من حوله بسبب تخلي أبيه عنه تماما، وكأنه ليس ابنه ولا يعنيه أمره بل هو الذي تنازل عنه طواعية، وقد اشترط في وقت الطلاق أن تتولى أمه تربيته وتتحمل مسؤولياته، فوافقت بلا تردد، هو كان يقصد بذلك أن يجعلها لا تتزوج أحدا بعده، وتظل هكذا لأنه لا أحد يقبل الزواج من مطلقة ومعها طفل، حاول أن يفرض عليها قيودا ليحرمها من حقها الطبيعي وهي لم تصل إلى الثلاثين بعد من عمرها، وفي الوقت نفسه هي لم تكن تفكر في الزواج مرة أخرى وتكرار هذه التجربة القاسية مع رجل أذاقها العذاب ألوانا، وتريد أن تتفرغ لرعاية ابنها الوحيد. موقف غريب هذا كله يجري والناس مهتمون بالحدث الذي زلزل القرية كلها، والأب يجلس على المقهى الذي يملكه، يقوم برش الماء أمامه ثم يجلس يدخن النرجيلة وينفث الدخان في الهواء غير مكترث بما يحدث، قد يبدو أحيانا أنه يتشفى في زوجته التي تعاني الآن من فقد ولدها، كأنه ابنها وحدها وهي من أعدائه، متناسيا أنه ابنه هو الآخر، لا يعنيه إلا أن يمارس عمله ويتابع المارة أمامه، لم يكلف خاطره ليشارك في البحث عن الطفل، وهذا الموقف ليس غريبا على واحد مثله، فالناس هنا لا ينسون أنه رجل غير متزن في تصرفاته، فقبل أن يقوم بتطليق زوجته، أشاع أن ابنه هذا مصاب بمرض السرطان، ويحتاج إلى مبلغ كبير فوق طاقته للعلاج في الخارج، وأخذ يستجدي الجيران والأهل والأقارب وكل من يقابله، يبكي بدموع التماسيح يريد أن ينقذ فلذة كبده ولا حيلة له إلى ذلك إلا بمساعدة أهل الخير الذين لم يبخلوا عليه بشيء، الصغار قدموا مصروفهم اليومي، والكبار أعطوا بقدر ما يستطيعون، تلك المرأة قدمت المبلغ الضئيل الذي تعيش به ولا تملك غيره، وتحملت الجوع كي تساهم في تكلفة العلاج، وبعد هذا كله تبين أن الرجل كذاب واختلق هذا الموضوع ليجمع المال فقط. تذكر الجميع فعلته تلك، لذا لم يستغربوا ما يحدث منه الآن، يمرون عليه وينظرون إليه شذرا، لا يتحدث معه أحد لأنهم يرون أنه لا يستحق الكلام المجرد، قرروا المقاطعة وقد عرفوا عنه اللامبالاة والسلبية، فهو لا يجامل أحدا في أفراح أو أتراح، ولا يشارك في مناسبات، وكذلك جعل الناس يضطرون للتعامل معه بنفس الأسلوب كرد فعل يستحقه، ولولا المقهى الذي يتجمع عليه الزبائن الغرباء أو الذين على شاكلته ما تعامل معه أحد، ولظل وحيدا منبوذا مطرودا من حياتهم، حتى أنه بعد أن طلق زوجته لم يجد من يقبل مصاهرته من جديد، الكل يخشون على بناتهم منه، ولا يوافق أي منهم على أن يزوج ابنته لواحد مثله، وهكذا مازال وحيدا منذ ثلاث سنوات، اضطر أخيرا للبحث عن عروس خارج القرية بين أناس لا يعرفونه ولا يعرفون ماضيه. ليلة طويلة مضت الليلة طويلة بطيئة على الجميع خاصة على الأم، التي لم تذق للنوم طعما ولم يجف لها دمع، تصرخ وتنادي على “فارس” وتتساءل أين ذهب وماذا جرى له، وأخيرا لم تجد بدا من إبلاغ الشرطة للمساعدة في البحث عن الصغير، حررت محضرا ذكرت فيه أن الولد خرج كعادته في الظهيرة أمس ولم يعد ولم تجد من يدلها عن تحركاته ولا أين ذهب، وكذلك لم تأت الجهود الأولى والسريعة التي قام بها رجال الشرطة بجديد، ولم تشر المعلومات إلى أي احتمال يمكن ترجيحه والسير وراءه، واستمرت الجهود من البوليس وأهل القرية عساها أن تهتدي إلى ما يمكن أن يصل بهم إلى ما حدث وأسباب اختفاء الطفل. الأيام تمر ببطء شديد بلا جديد، والجهود والتحركات لم تتوقف، مستمرة ومتواصلة في كل مكان حتى لو لم يكن من المتوقع الوصول إليه، لكن رغم مرور اثني عشر يوما إلا أنه حتى الآن لم يتم العثور على جثة الطفل في أي مجرى مائي أو مستشفي أو قسم بوليس، وهذا رغم قسوته لكنه قد يكون مؤشرا إيجابيا على أنه مازال على قيد الحياة، ولكن الظروف التي يعيش فيها غير معلومة، وهكذا يظل الأمر على حالة الغموض المرعبة والصعبة على الأنفس وتمزق القلوب، فلو كان توفي لعرفوا مصيره، ولكن أن يظل اختفاؤه لغزا فهذا أكثر ألما. في ظل هذه الظروف جاءت الفرج، خرج أبوه على الجميع بمفاجأة غير متوقعة على الإطلاق، فقد أرسل إلى مطلقته من يخبرها بأن ابنها مختطف، وأن الخاطفين أجروا معه اتصالا هاتفيا أخبروه فيه بأن الطفل لديهم في الحفظ والصون وعليهم أن يدفعوا خمسين ألف دولار فدية مقابل إطلاق سراحه، وفي الوقت نفسه حذروه من إبلاغ الشرطة وهددوا بلهجة حادة وحاسمة أنهم سيقتلونه ولن يعود إليهم مرة أخرى إذا أقدموا على هذا التصرف، وبالطبع نقل لهم هذه التحذيرات وبالغ فيها كي لا يتهور أحد ويقوم بالإبلاغ وهذا يعني نهاية حياة الطفل البريء الذي لا ذنب له فيما يحدث، ومن أجل ذلك لم يفكر أي منهم في الإبلاغ وانشغلوا في جمع المبلغ، لكنه كان فوق كل إمكاناتهم وطاقتهم وعجزوا عن تدبيره. مفاجأة من العيار الثقيل بدأت المفاوضات مع الخاطفين، وكان الوسيط فيها الأب الذي مازال في غيه وجمود مشاعره التي لم تتحرك قيد أنملة، بل إن الغرباء كانوا متأثرين أكثر منه بمراحل، وقال إنه نجح في تخفيض مبلغ الفدية إلى ثلاثين ألف دولار، ولكن يمر الوقت بلا نتيجة ولم يستطيعوا أيضا أن يدبروا المبلغ فهم أصلا من أسرة متوسطة الحال، والأغرب أن هذا الذي لا يستحق أن يحمل لقب “الأب” رفض المساهمة في مبلغ الفدية، وألقى بالمسؤولية على مطلقته وحدها وإلا فهو لا يهتم إن عاد الصغير أو قتل، فكان قلب الأم وحده الذي يتمزق ولا تجد حيلة لإنقاذ ابنها حتى لو بحياتها، غير أنها ضاقت بها السبل وسدت الطرق، وهي ترجو وتتوسل ألا يمسوه بسوء وأن يخفضوا المبلغ، فتنازل الخاطفون وطلبوا عشرين ألف دولار وتم تسليمها للأب لتوصيلها إليهم. في الصباح الباكر حضر الطفل مع أبيه وقام بتسليمه لأمه، وتم إبلاغ الشرطة مرة أخرى بما حدث لإغلاق المحضر وإنهائه، وقال الأب: إنه فوجئ بثلاثة أشخاص وقد حددوا له موعدا ومكانا في منطقة صحراوية بعيدا عن القرية، وتسلموا المبلغ وسلموه الطفل، لكن عجز عن الرد على الأسئلة كلها، ما هو لون السيارة وما هي أرقامها ونوعها، واكتفى بكلمة واحدة أنه لا يدري لأن الظلام كان يعم المكان، وجيء بالطفل الذي لم يستطع ببراءته أن يخفي الحقيقة المرة، وقال إن أباه اتفق معه على تمثيلية الخطف مقابل قطع من الشوكولاته والملابس الجديدة. كانت مفاجأة من العيار الثقيل وألقي القبض على الأب، ووجهت له النيابة اتهامات النصب والاحتيال، وإزعاج السلطات والبلاغ الكاذب، وأمرت بحبسه وتقديمه لمحاكمة عاجلة. أحمد محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©