السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيوت مهجورة.. طقطقة كريسيندو

بيوت مهجورة.. طقطقة كريسيندو
21 سبتمبر 2016 15:25
من أشد قسوة.. هجران الأوطان أم هجران البيوت؟ إلى أي مدى يمكن للنسيان أن يُوَقِّعَ محضراً للغياب في سجلات الذاكرة، دون أن يصيب الروح بتلف عاطفي، أو ضعف عصبي يؤدي إلى عاهة استدعائية في حواس اللغة؟ شيء ما يعبث بمستحضرات التأويل، ويثير شهية الأسئلة... فما هي الذاكرة؟ هل هي ادعاء الاستدعاء؟ أم هي إيحاءات تبادلية بين الأحياء والموتى، لإثارة استجابات كامنة أو زعزعة يقين تهيؤي؟ أم أنها عارض ذهاني لأوهام العدمية! ولكن ماهو الأهم: أن تعرّف الذاكرة، أم أن تتعرف إليها! الأمر لا يتعلق بانكماش التجاعيد الدماغية، وتشوه المحفزات البروتينية مما يتلف الخلايا العصبية تدريجياً، إنما يتعلق أولاً وأخيراً بالتسطح الذهني، والكسل العاطفي، فما هي الذاكرة؟ أحياناً تستشعرها كحزمة بلازما حرارية، لا يقوى على رصدها سوى تلسكوب لغوي يمجهر طاقتها الفلكية، فيلتقط أبعادها الضوئية، ليترجمها إلى تشظيات نيزكية.... وأحياناً تحس أنها تآكل، أو تحلل ذاتي لجثة تقيت الطبيعة من لحمها... أو ربما هي سماد عضوي ترشه الديم بالماءات والبكاءات لترعى ميلاد الكائنات، وأحياناً هي ليست أكثر من تشوه في الحواس، وانحراف في الإثارات الحسية، ينتج عنه سوء تفسير للإدراك العاطفي الذي يربك محفظة الدماغ، بمقدار فرسخ فلكي يلتقط عناقيده النجمية ليبعثرها في الفراغ، ضمن انشطارات ازدواجية، ليست واقعية، لكنها ليست مزيفة، فكيف لك أن تحكم بعد هذا إن كانت الذاكرة وهماً أو استعادة للوهم؟ يا أيها الذاكراتيون، لا عزاء للأحلام إذن، فاستفيقوا، لم يعد في جعبة اللاشعور ما يكفي من مكبوتات تحرس نومكم من صراع الأخيلة والنبوءات في مملكة فرويد اللعينة! حالاتية حسناً إذن، ماذا عن الهجران بين ذاكرتين: الوطن والبيت؟ عندما يكون التهجير قسرياً تكون الهجرة قهرية، يحكمها اضطهاد تعسفي، يتفاعل- بطبيعة الحال- مع الانفعالات النفسية الناجمة عنه، لينقلب على نفسه، مرتداً إلى مكانه الفيزيائي، بدوران خلفي تام، مرتكزاً على حتمية العودة، بينما يختلف الأمر مع البيوت، التي لا تشترط الانتماء للمكان، بقدر الانتماء للكيان الذي هو الأسرة، ورغم هذا فإن المغادرة تعني بالضرورة الانفصال والاستقلال، ولا تحتمل حتمية شرط العودة، ما دامت ملكية قابلة للتداول التجاري، ويُستغنى عنها بما هو أفضل منها، حسب المعايير الظرفية، مما يفقد البيت رمزيته كوطن! البيتوتيَّة بمدلولها العزلوي رحلة نحو اللامكان.. خروج من المكان... ولكن إلى أين؟ مهلاً، لحظة، هناك خطأ في السؤال، ما دامت العزلة هي البيت، ولو أردت أن تتأكد عليك أن تمُرَّ على ريلكه وهو يكتب عن ثنائية الإبداع والاعتزال، والصراع الذي يعيش به المشغولون بالفن والكتابة، أمام خيارين، لا ثالث لهما، فإن كانت أمامهم حياة واحدة هل يعيشونها، فلا يبدعون، أم يعتزلونها ليبدعوا؟ «أين»، لن تنفع للسؤال عن البيت، مادام لا مكانياً، وإنما حالاتياً، وهو سبب آخر لنقض وطنيته، أضف إلى ذلك عمره النفسي، وهو ما يُمَوْسِمُه بين ذاكرتين: الشباب والشيخوخة، بمنأى عن تأطيراتهما الزمنية، فكله منوط بالوضع السيكولوجي للبيوت. هناك بيوت غريرة، وبيوت حكيمة، وبيوت مطيعة، وبيوت متمردة متوحشة، غريبة، وموحشة، ميتة، قاسية وصلدة، عابثة وخائنة ومرعبة وشبحية، ومهجورة.. بيوت كهلة وبيوت طفلة، وبيوت أمومية وأخرى سجانة، وغيرها وغيرها... فهل نحن بيوتنا؟ بتعريف النيرفانا، البيت هو مرحلة الوصول إلى الحقيقة والعثور على الواقع، إنه سمو على الحالة الثنائية وارتقاء للأحادية، وإدراك للكينونة، وما البحث عن بيت سوى بحث عن ذات، أكثر منه ذاكرة، ورغم ما يحمل هذا التأمل من فلسفة بعثية، فإنه لا يستقيم مع ما يمور به من صراع قوى، مع اعتذاري للبيوت، دون الاعتذار لأوشو، الذي يخالف ريلكه بعزلويته، إذ يعتبرها فقراً وانغماساً بالكهفية، وشللاً طاقاتياً، فيا لاضطراب التأمل الذي لم ينصف صاحبه، قبل أن يظلم من كلم ربه في الواد ومن آنس الغار بوحي «إقرأ»! ورغم ذاك، وإنصافاً للاضطراب، فإن تفريق أوشو بين المنزل والبيت يصب في خانة الحالاتية، التي تجعل من المنزل جثة ومن البيت حياة، فهل وفق هذا الفيلسوف بهذا الفرز الحجري للتوصيف الدلالي؟ إني في شك من أوشو! عزيزي «أوشو»: لماذا لا تحاول فهم الأمر على نحو «ريلكي»، فالبيوت صناديق مقفلة، لا تحتاج إلى حاسة الرائحة كي تدرك حالتها، كما تصورت، كل ما ستحتاجه فقط هو المفتاح الذي لا يسمح للبيت بمغادرة الصندوق، فلا تتعب نفسك بتهشيم الأقفال! الكريسيندو وبيوت الآلهة رويداً رويداً، يَتَعَنْكَبُ الوهن، ليس لتجلي الدقة وبراعة الهندسة، إنما لتصاعد إيقاع الفِخاخية في البَيْتَتة، وهو إيقاع صمغي يلتصق بالفريسة، كي لا يفرط بحكمة الجوع، في ذات الوقت الذي يدوزن فيه العنكبة على طقطقة الكعب العالي للأرامل السوداء، فكيف تنقذ النساء من لعنة البناء؟ عد إلى إرث البيوت في الحضارات القديمة، لتطلع على ما شيد منها للآلهة، فصيغ بعبودية تليق بالعظمة والقدسية، وطقوس تقديم القرابين والاحتفالات الدينية، وعرض تماثيل الآلهة بعد تحنيطها، وبهذا تغدو بيوت السماء محجاً للعابدين والسائحين، ومقبرة للآلهة... هذه البيوت لا سقف لها، لأن سقفها السماء، والعراء، وشعائر تعميرها مرهونة بتأدية طقس مكيدي، أو عقيدي، وكلاهما جاذبيان، يبدآن بخفوت، ثم يتصاعد إيقاعهما حتى يبلغا ذروة النجدين.. كأعزوفة الكريسيندو المتدرجة... فإلى أي البيتين ترنو: بيت الكيد أم بيت العبد؟ تُروك... وسطوة لا عزاء للسرير، وسط هذا الخراب الذي يسطو على المشهد، كما تسطو عليه الطبيعة بفجاجتها وتطفلها البدائي، فإن كان ساكنوه قد هجروه قبل أوان الخراب، فإن عزلتهم بعيداً عنه لم تعزله عنهم، بل حولته إلى وطن بديل للغربان والبوم وخفافيش الكهوف السحيقة.. يا لغربة الغربان! لا طعم للنوم فوق أسرة مهجورة، فالدود والعث يعششان في ملاءاتها المهملة، ووسائدها الخالية، وأحضانها الشائكة.. من ستنقذ في الصورة إذن؟ الخراب أم الطبيعة؟ لا تقل لي إنك تخاف على عاشقين خانا لحمهما بعد أن أطعماه لسرير تمرغ بأديمه الحار، وهو يتصبب كشرارة مكبوتة من أنفاس نيرانهما الجوعى! الاحتراق كان ذاتياً، وليس مشهدياً، ولذلك لن ترى في الصورة ذاكرة، ولا طيوفاً ولا لحماً ولا ناراً ولا رماداً.... ولا حتى خراباً، لأن الخراب بعد فوات أوانه يفقد قيمته، يغدو بلا أعصاب، بلا أثر، خافتاً، بارداً، تَروكاً ومنسياً. هل تجد بعد كل هذا من سيعز عليك أكثر من الخراب الذي ستبحث عنه، كي تحتفظ به ذكرى من ذاكرة غير قابلة للترميم، دون أن تعثر عليه... حينها لن تبكي على أحبتك، ولا عمرك، ولا بيتك....... إنما ستعوي كوحش موؤود تحت رفات العزلة، ولن يسمعك أحد، حتى المقابر ستأنف من إيوائك، مادمت فرطت بخرابك، لتحافظ على بيت لم يسكنك قبل أن تسكنه!. يا أيتها البيوت الجميلة، المضيئة، الأنيقة..... الكاذبة، لا أسف عليك، اذهبي إلى الجحيم، لم أعد مفتونة بنوافذك البيضاء، ولا ستائرك الشفافة، ولا رائحة القهوة التي تنبعث من حدائقك الخلفية، أو شرفاتك الخفرة، التي تدعوني لكي أسرق فناجينها، وأرياق صباحاتها الوحيدة من فم سُكاراها... يا بيوت.. لن تغويني أجراسك الصغيرة المعلقة، كنواقيس القمر على أبوابك الفخمة، ولا عتباتك الألوفة التي تقفز برشاقة الهواء، وخفة الفئران إلى جحورك الرطبة، ومداخنك الباردة.... لن أبكي حين أرى أماً ترتدي شالها الصوفي على عجلة، لتلصق قبلة فوق وجنة أبنائها الذين يهمون لمغادرة العزلة في صباح مدرسي آمن.... لن أخبئ رمان الخطيئة في جلباب الحرمان، كلما لمحت عاشقين يلوحان لثعلب ضال، ويناغيان ترصده لرائحة الحب تتهدل من شق النافذة، لتتغلغل في فرائه كقشعريرة أيلول في مطالع الخريف.... لن أتلصص على أسوار البيوت الواطئة، لأسرق الأحاديث المسلية من لمة الأحبة في مواسم الثرثرة، وحفلات الشواء واستقبال الغرباء... لن أتسوق في المتاجر الكبيرة، بحثاً عن ملاءات ناعمة، أو وسائد مدغدغة، أو أسرة رحبة، أو ستائر مهفهفة، أو شبابيك حديثة العهد بالعزلة، أعلمها حكمة الكتمان، وأربيها على يد الأسرار والحرمان... لم أعد أريد بيتاً، ومصيدة، ومائدة.. لم أعد أريد متحفاً أو مزاراً، فلست عنكبوتاً تجيد حياكة الخيوط لأوهن البيوت، ولا تمثالة تربي الآلهة في معبد للسياحة، يحرسه السدنة ومطارق العبيد! كل ما أريد الآن فقط جريمة «ميديا»، وخيانة حبيبها، وجثة أولادها، لكي أعيد صياغة الخراب في بيت مهجور وراء الغيب، يوصد أبوابه في وجه ضيف ثقيل، هو الذاكرة، ويكتفي بالعزلة واللغة والخراب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©