الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الملكة العجوزُ هي روحي

الملكة العجوزُ هي روحي
21 سبتمبر 2016 15:23
يعد ماريو دو سا – كارنيرو (1890-1916) أحد أبرز ممثلي التيار الطليعي في الأدب البرتغالي مع بداية القرن العشرين بجانب فرناندو بيسوا (1888-1935) أمادو كاردوسو (1989-1918) سانتا ريتا بينتور (1889-1918) خوسي ألمادا نيغريروس (1893-1970). جمعته صداقة وطيدة بفرناندو بيسوا وقاما معاً بدور تأسيسي بارز في حركة الحداثة الشعرية البرتغالية سواء في مجلة (النسر) أو مجلة (أورفي) على الخصوص. رغم ولادته ونشأته في أسرة برجوازية كبيرة في لشبونة لم يعرف الاستقرار أبداً في حياته. لم يكمل دراسته. وفضل أن يرحل إلى باريس العام 1912 بذريعة دراسة القانون. ومن هناك استمرت صداقته وتواصله مع صديقه بيسوا إما عبر المراسلات أو اللقاءات المباشرة والمتباعدة خلال زيارة كارنيرو القصيرة إلى لشبونة. وبسبب تدهور وضعه النفسي وأزماته الروحية والعصبية المتكررة وضع حداً لحياته في باريس العام 1916. يتكون أثره الشعري المكتوب ما بين 1913 و1916 من الأعمال التالية: «تبديد»، «آثار الذهب»، «قصائد أخرى». وله أعمال نثرية عرف بها في حياته أكثر مما عرف كشاعر تضم روايتين واحدة بعنوان: «بداية» (1912) والثانية: «اعترافات لوسيو» (1914) إضافة إلى كتاب قصص قصيرة ظهر العام 1915. وهذه قصائد شعرية مختارة بعناية خاصة من أعماله الثلاثة المذكورة: تقريباً بقليلٍ أكثرَ من شمْس كنتُ سَأصِيرُ جُذوةً بقليل أكثر مِنْ زرقة كنت سَأغْدُو الأبْعَدَ. لأصِل إلى ذلك، كان ينقصني خَفْقُ أجْنِحةٍ... لو كنتُ لبثْتُ هُنا على الأقل... دهشة أم سلام؟ عبثاً.. مَضَى كُلّ شيء مع جَزْر مِنْ زَبَد خَدّاع والحلم الأكْبَرُ صَحَا في الضّباب، الحلم الأكبر – آه، ألمِي ! مَعِيشٌ بالكاد تقريباً هو الحب، تقريباً هو الظفَر واللهَب، تقريباً هي البداية والنهاية – تقريباً هو التمَدُّد... لكِنْ في روحِي ينسكب كلُّ شيءٍ... مع ذلك لم يَكُنْ وَهْماً كُلُّ شيء... لكُلِّ شيء كان ثمَّة بداية... وكُلُّ شيء ضاع... - آه، من عَذاب كَوْنِي، تقريباً، عذاب بلا نهاية... لقد فشلت بين الآخرين، فشلت أمام ذاتي، جَناحٌ أنا عَلا لِيَطير لكِنْ لم يَطِرْ... لحظاتٌ للروح بَدَّدْتُها... مَعَابدُ لمْ أضَعْ فيها مَذابح قَط... أنهارٌ بَدَّدْتُها بدُون أنْ أوصِلها إلى البحر... رغبات ورغبات لكن لم أتبيَّنْها... إذَا ما لأجْلي طوَّفْتُ، فقط أجدُ إشارات... عُقُودٌ غُوطية جهة الشمس – مَطويّة أراها، وَيَدا بَطل، بلا إيمان، مُرَوَّعَتين، وَضَعَتَا شبابيك حَدِيد على الهاويات... في اندفاعةِ خَور غامضة جَرَّبتُ كُلَّ شيء ولا شيءَ مَلكت... اليوم، لم يَبْقَ مِنِّي سِوى خيبة الأمل من الأشياء التي قبَّلتُها لكن لمْ أعِشْها... ............................................. لوْ بقليل أكثر مِنْ شمس، لكنتُ استحلتُ جذوة قليل أكثر من زرقة – لكنتُ الأبعدَ. لأدْركَ ذلك، كان ينقصني خَفْقُ أجنحة... لو كان بوسعي البقاء هنا على الأقل. قَنْطٌ مُتَطرِّفٌ لاشيءَ يفْنَاني، لا شيءَ يحياني، لا الحزن ولا اللحظات الجميلة. لكَوْنها ليست في متناولي ولعدم قدرتي على امتلاكها البتة تُضجرني حتَّى الأشياءُ التي لم أمْتلكها. كيف لي أن أرغب، بالروح منسّيةً في النهاية، في النوم بسلام على سرير مَشْفَى... لقَدِ تَعِبْتُ داخلياً، أتْعَبْتُ الحياةَ لفرط تَجْوالي عبرها منْ خلَلِ النور اللا واقعي. فِي زَمَن قَدِيم تَخيَّلتُني أتسَّلق السماوات بقُوَّة التوْق والحنين ومريضاً بالمطلق – الشاب الذي كنتُ، مَضَيْتُ خَلف الأثر الأعظم المذهَّب الذي كان يُلهِبني. رَحَلتُ. لكنْ سرْعَان ما عُدْتُ إلى الألم، إذ الكُلُّ حَطّمني... الكُلُّ كان سواء: الوهم، مطوَّقاً، كان واقعيّاً، الأعجوبة ذاتها كانتْ ذات لون! هكذا مُدوِّياً في صَمْت، رَمَى الليل الداجي بي إلى هَاويةٍ بلا قرار، وأنا نفسي غُصْتُ في الأعماق، تنشَّفْتُ تماماً، وتصَّلبتُ مِن قنوط. واليوم لم يَبق سوى مَسَرّةٍ وحيدة: أن تتلاشَى اللحظات، متشابهة وفارغة، يَوماً بعد يوم أكثر فأكثر سرعة أكثر فأكثر انزلاقاً... دوّامة فِي دخيلتي تتقلّبُ، في لفَائِفَ، مُعْجزاتٌ، عواءاتٌ، قُصُورٌ، مَشَانِقُ مِنْ نُور، كوابيسُ، أبْرَاجُ عَاج شامخةٌ مَرَاوح تَصْعَدُ، مِدَمَّاتٌ... شُمُوس تُرَوِّقني في المَاوَراءِ، تماثيلُ أبْطالٍ تَنْتصِبُ، رمَاحٌ وَصَوارٍ تتموَّج. أسَاطِيل من ألوان تَبْرُزُ، مواكب مِن ضَوْءٍ تُبْحِرُ، تَغْرَقُ أذرُع صَليبٍ، وثمة، في الليل، مِرآةٌ. تَنْسَخُ كُلَّ البهاء... زُجَاجٌ يَنْصَبغُ مِن هَلع، شظايا تَتَطايَرُ، مَخَالِبُ تهطلُ بغزارة، لطخات، عُقَدٌ،... أسْطحٌ، شقوق، وفضاءاتٌ تُدوِّم في خَفاءٍ. أقمارٌ من ذهَب تَسْكَر، مَلِكاتٌ يَعْرينَ مِن زنابق: شموع تتلوّى، هَذيانَاتٌ تتجعَّدُ. أصْواتٌ تتقدَّمُ... ريشاتٌ تتفوصَلُ بأصوات، حُرٌوفٌ مِن نَار وخناجر، ثمة قدَّاسات وَعَرْبَدات، إجْراءَاتٌ رئيسة، عَوْدَاتٌ، مقامات ومراسم. خُصَلٌ مجعِّدة تُصَفِّر، شِفَاهٌ مَسَّطحة تَخِزُ، ثمة أجْسَامٌ مُشبكَةٌ، (........... ..............) ثمة بَخُورُ خُطوبة، أيَادٍ بيضاءُ ومقدّسة، ثمة رسائل قديمة ممزَّقة، أشْياءُ فقيرةٌ محفوظةٌ – منديلٌ، أشرطة، كشتبانات...) ثمة نُصُب تذكاريةٌ، خٌوذاتٌ، أكفانٌ، انبعاثات هاربةٌ، تلميحات، نوستالجيّات، خرائب ألحانٍ، دُوَارَاتٌ، زَلاّتٌ، صُدُوع. ثمة عَلامات لا وُجُودٍ ضَبَابٌ يُحَفْحِفُ مُلتَبساً، آبَارٌ وَمَنَاجمُ تَغدُو المَرْكَزَ، تعرُّجاتٌ، وهَادٌ، مستنقعاتٌ لا أجْرُؤُ على تخطّيها... ثمة فراغات، فُقَاعَات مِنْ هواء، عُطورٌ مِن جُزُر بعيدةٍ، حِبَالُ مراكب، دفَّاتٌ، رافِداتٌ – أعاجيب كثيرة، شتَّى لا يمكن تخيّلها !... تضمين صَالة القصر خالية ومُغَّطاةٌ بالمرايا. بي خوفٌ مِنّي. مَن أكون؟ مِن أيْن جئت؟ هُنَا، كُلُّ شيءٍ كَان... في ظِلٍّ مُؤسْلب، اللوْنُ مات - وحَتَّى الهواء محض خراب... مِنْ زَمَن آخر يَصِلُ النُّورُ الذي يُضِيئني – صَوْتٌ كَامِدٌ يُذوِّبُني مَلِكاً... لا مسافات تتكوَّم حَوْل حواسِّي وَفيها أتهجَّسُ قُصُوراً مشيَّدةً سِرِّيَةً واقعيةً، أتزنَّر باللوْنِ وأرْحَلُ للاحتجاج الكُلُّ ذاهَبٌ في أَثَري – غُبارُ عِشْقٍ... مَنْجَمُ مَرْمَر... في البَدَرِ أتوقَّفُ... هُنَالِكَ ينتصِبُ قَصْرُ الخوف الأصْفَرُ الذي توقَّعتُ وُجودَهُ: الأبوابُ مفتوحةٌ الخَدَمُ واقفون. الأضْواءُ خالية – نوافذُ مريبةٌ، أبراج ضريحيّة ٌ... ظفَرٌ، ظفَرٌ! السِّرُّ ثَرْوةٌ – والخوفُ سِرٌّ... أوه أيتُّها القصور الواقعيّةُ المسحورةُ لحواسِّي المذهَّبة، يا مجدي! يا فتنتي! (ومَاذا لوْ كَانَ كُلُّ مُذهّب دائماً مقبرةً؟...) متبجِّحاً بي، أقوِّضُ طقوساً... أجْرُؤُ على ولوج القَصْر الذي أقمْتُه أريدُ أن أخْلعَ المَلِك لكي أتَوِّجَني فيه. لا أحَدَ يغلق الباب في وجهي، أصَعَدُ السُّلَّمَ – الكُلُّ ظِلٌّ مُجَمَّد، سكونٌ، ضَوْءٌ باردٌ... نَاريةٌ، صَالةُ العَرْش... دَكْناءَ تَرنُّ لخطواتي أحْلمُ بسَلالم العَرْش – فيَهْوي العَرْشُ متناثراً شظايا... أترك الصالون الإمبراطوريَّ، أرْكُضُ عَبْرَ الأروقة، أُطِلُّ مِن المَشْربيَّات – ولا واحدةٌ مِنْهُنَّ تَنْفَتحُ على حدائق... المَرَايا صَهَارِيجُ – كُلُّ الشَّمْعَدانات مُحطَّمةٌ... أتسكَّعُ في كلِّ جهات القصر، أصِلُ إلى آخر الصالات... أخيراً ألمَحُ أحداً! أجدُ ملكةً عجوزاً، عَرْجاء، تَحْرُسُها تِنِّينات... فَأصْحُو... أبكي لأجْلِي... كنت مَجْنُوناً... إذْ في هذا القصر الملكيِّ الذي شيَّدَتْهُ حَواسِّي تَمُوتُ وحيدةً مَلِكَةٌ، عَرْجَاءُ ضَامِرةٌ حتَّى وَهِي تحت حِرَاسة التَّنانين... ............ - الملكة العجوزُ هي روحي – نازفةً... - القصر الملكيُّ عبقريّتي... - والتنانير دَمِي... (لو كانَتْ روحي أميرةً عارية، وحسناء!...) نُشارة لقد قعَدتْ حياتي ما من أحَدَ قادر على إنهاضها، إذ أفْعمتْ ضجراً من الغرْب إلى الشّرق. أنظرُ إليها، مُلقاةً هنالك، رجْل فوق أخرى، على الأَريكة اللا نهائية لِرُوحي المُنجَّدة. أجل، هكذا هي: روحي الحالمة قديماً برُوسيات كثيرة، غُمِرتْ هَدْأةً فهي اليوم تحلم بالدمى فحسبُ تذهب إلى البارات تطلب قدح بيرة، تقرَأ «Le Matin» كَعِقابٍ، وَمَا من تَعِلّة بوسعها أن تُعيدها إلى الذَّهَب القديم: دَاخِلي عبارة عَنْ حِمْل لا يُثقِلْ، لكِنْ يُتعِب: أزيزُ قُرادةٍ، أو حِكّة لا تنتهي، حَلقة من رواية مسلسلة في.. A Capital لكاتبنا خوليو دانتاس – أو أيِّ شيء آخر من بين أشياء كثيرة منفِّرة... عَجَباً، هاهي تشرب، ولم تفعل ذلك قطُّ من قبل، وتُدخِّن سيجارةً بكل بيرُوقراطية!... أكيد أنَّها، في يوم كهذا، قادرة، إن لم أعِرْ انتباهاً، عَلى ارتكاب حماقاتٍ، لوَ وَجَدَت باباً مفتوحة... لا يمكن الاستمرار على هذا النحو؟ لكن كيف أجدُ الدّواء؟ - لكي أنْهِي هذا «الفَصْلَ» وَجَدْتُ الجُنونَ أسْهَل حَل: مُحَطِّماً أَثاث فُنْدُقي، أو مُشْهراً في الشارع قبَّعةً من وَرق. أو صَائِحاً:«تحيا ألمانيا».. لكنَّ رُوحي، للحقيقة، لا تسْتَأهل هذه المأثرة، لا تستأهل امْتحانَ الوَفاءِ هذا.... سَأتْرُكها – حَسَمْتُ الأمر – في مَغسَل أَحَد المقاهي مِثْل خَاتَم مَنْسيٍّ. التسلية ثَمَّة في روحي أرْجُوحَةٌ لا تَكفُّ عن الاهتزاز – أرجُوحة على حَافّة جُبٍّ، من الصَّعب جدّاً امتطاؤها... - وثمة طِفْلٌ برُوبٍ دائمُ اللعب فوْقها... لو تمزَّق الحَبْلُ ذات يوم (وهو على وشك ذلك الآن) لانتهتِ الفُرْجَةُ: بمَوْتِ الطفل مَخْنوقاً… أما أنا، فلنْ أبدِّل الحَبْل، سأجد في ذلك مشقّة عظيمة.... إذا مات الطفل، فاتركوه... الأَفْضلُ له أنْ يموت برُوبٍ من أن يموت بِبَدلة سهرة...اتركوه يتأَرجَحُ مادام حيّاً... - لكَمْ كان سَهْلاً استبدال الحبل... لكنّ ذَلك لم يخطر أبداً ببالي.. سِقْط المَتَاع آه، فليدِّثروني بالملاءات ولا يفعلوا بي أكثر من ذلك!... ليَبْق باب غرفتي مُغلقاً على الدوام! ولا يفتح حتى في وَجْهكِ أنتِ إذا جئت إلى هنا! صوفٌ أحمر، سَرير رَخْو، الكُلُّ مُجَلفط ٌجيِّداً... ولا كتابٌ واحد على المخدّة... لتضعوا فقط بجانبي حلويات بَيْضٍ وزجاجة ماديرا. لا. لا أريد المزيدَ: الُّلعَب أيضاً لا أريدها. ماذا أفعل بها؟ إن أعطيتمونيها لن أعرف اللعب بها... ماذا تريدون أن تصنعوا مِنِّي بهذه القيود والمخاوف؟ أنا لم أُخْلق للتمثيليات الصامتة حُلُّوا وثاقي! دعوني أستريح!... دائماً ثمة ليْلٌ في غرفتي. الستائر مرخاةٌ، وأنا، متلبَّداً، أنَام على دِفْءٍ – أيُّ طمأنينة،... أجل: أَبْغي البقاء في السَّرير. أَلاّ أتحرك بتاتاً، أنْ أصْدَأ أتعفَّن – على الأقل سأحظى بالسَّكينة الشاملة... خرافات؟ أُفضِّل الحياة على الخرافة...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©