الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصور الرقميّة.. توظيف العذاب

الصور الرقميّة.. توظيف العذاب
21 سبتمبر 2016 15:14
قبل ما يقارب التسعين عاماً، وتحديداً في العام 1928 صدر كتاب «التزييف في زمن الحرب: أكاذيب الإعلام في الحرب العالمية الأولى»، الذي ألّفه السياسي البريطاني المناهض للعنف، اللورد آرثر بونسومبي، ووضع فيه عشر قواعد للإعلام الحربي، أو للدعاية التي استنبطها من أحداث الحرب العالمية الأولى، بيّن فيه أن قادة الدول المعتدية تعلموا أن يكذبوا، ليس فقط على أعدائهم، بل أيضاً على شعوبهم، لتبرير أسباب اندلاع الحرب، وانخراطهم فيها. كما يقومون بنشر أخبار الفظائع والتقدم نحو الأهداف الاقتصادية والسياسية، تحت غطاء المحرضات الإنسانية. وهذا ما ترمي المقالة للانطلاق منه، للحديث عن الصورة والمشهد في عصر الإعلام الجديد والثورة الرقمية، اللذين استخدما كوسيلة إشهارية بطرق ممنهجة حيناً واعتباطية حيناً آخر، بشكل مؤسساتي حيناً، وبشكل فردي حيناً آخر من قبل كل الأطراف المتورطة في النزاع السوري مدفوعين بسياسات وأجندات مختلفة. مما لا شك فيه أن أدوات الإعلام، وأساليبه الإشهارية، لم تكن متطورة حين وضع اللورد البريطاني قواعده تلك، كما هي اليوم في لحظتنا الراهنة التي تمر بالكوارث البشرية والحروب، وفي عصر الثورة الرقمية الفائقة التطور. يعيش العالم اليوم في قلب العاصفة الرقمية التي لا تهدأ زوابعها وأعاصيرها، بعد أن شبكت أطراف الأرض بعضها ببعض، ويتربع الإعلام الجديد على قمة هرم التحكم في هذه الثورة الرقمية الهائلة بتقنياته وأدواته، ووسائله وساحاته المتعددة، فهذا الإعلام الجديد، بما أتاحت له الشبكة العنكبوتية من فسح المجال أمام الجميع، بلا استثناء، وبمطلق الحرية والمبادرة اللاّمشروطة، وبلا أي قيد، كي يساهموا بما يخطر ببالهم على صفحات الإنترنت، ويكون متاحاً للجميع رؤيته، أصبح سلطة نافذة قوية، تتحكم بالعالم في كل الميادين. منذ بداية الحراك السوري كان الإعلام حاضراً، بقوة وزخم، بشكليه التقليدي والجديد، وبما أننا نعيش في عصر الصورة، فقد كانت الصور والمشاهد إحدى الأدوات الرئيسة في صناعة الخبر ونشره. نسف المنظومات لئن كانت الصحافة المصورة قد مرّت بمراحل تطورية عديدة ومتنوعة، منذ بداياتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنها خلال مراحل تطورها تلك، كانت تكوّن لوائحها الناظمة، ومنظوماتها القيمية والقانونية، لكن الصورة الرقمية، وعصر الإنترنت والتواصل الجماهيري والتفاعلي، نسف المنظومات كلها، فحتى المؤسسات الإعلامية، اختلفت فيما بينها لناحية القوانين الناظمة، خاصة المعايير الأخلاقية، بالنسبة إلى الصورة، أو المشهد البصري، فهناك منابر لا تنشر صور الضحايا، أو التمثيل بالجثث، أو التعذيب، ومنابر أخرى لا تمانع في نشرها، لكن، بما أن الإعلام الجديد يقوم على تدفق المعلومات عبر شبكة الإنترنت والهاتف الجوال، وأن هذه الشبكة متاحة للجميع، بلا استثناء، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، فإن الصورة الإعلامية والمشهد البصري يمكن بثهما بلا أي ضوابط قانونية، أو أخلاقية، ويمكن توظيفهما لخدمة أجندات، أو بث أفكار، أو الترويج لعقائد وأيديولوجيات، وبالتالي يمكن أن تكون الصورة أحد الأسلحة المهمة التي تدور بواسطتها حرب إعلامية، بخطورة الحرب الميدانية، إن لم تكن تفوقها، كما يمكن للصورة أن تُبث على الشبكة لغاية نبيلة، لكن التفاعل التواصلي يتلقفها، وتصبح من جديد أداة لتغذية الصراع، وإضرام نيران الحرب من جديد. استخدمت الصورة على الشبكة كأداة إشهارية، تحمل رسالة كثيفة المعنى، فائقة العنف، حرص ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية، أو ما عرف باسم داعش، على أن تكون علامة فارقة في التعبير عن أسلوبه في السيطرة على المجال العام وإدارته، وفي إيصال هويته إلى العالم أجمع، كما عرضت مشاهد الذبح وقطع الرؤوس والرجم والجلد، بطريقة مسرحية متقنة، وبُثت على الشبكة، فكان لها تأثيرها وسطوتها الشديدة على الرأي العام، وعلى المشاعر العامة في العالم أجمع. المحرضات الإنسانية أما الصور التي تكلم عنها اللورد بونسومبي، التي بُثت تحت عنوان (المحرضات الإنسانية) فقد زخرت بها الشبكة على مدى سنوات خمس من العنف السوري، عندما كان الخبر السوري المسنود بالصورة هو الخبر الأول في نشرات الأخبار حول العالم، وكانت صور الأجساد المقطعة والمحترقة، وصور الأطفال المحمولين بأجسادهم النازفة والمعفرة، أو المفارقة للحياة، تشكل نسبة كبيرة من هذه الصور، ومع هذا بقيت الحرب السورية تزداد شراسة، ويزداد فيها العنف وقنص حياة الأطفال. لكن هناك صوراً ربما التقطت بعفوية، وفي لحظة فطرية، حققت حضوراً طاغياً، وصارت مادة إعلامية شغلت العالم بأسره، مثل صورة الطفل السوري أيلان، الذي لفظه البحر جثة هامدة على أحد الشواطئ التي كانت تنطلق منها رحلات الموت، تهريباً وهروباً من الجحيم السوري. وقد أثارت هذه الصورة تعاطف الرأي العام العالمي، مثلما أثارته الصورة الأخيرة للطفل عمران، الذي يقاربه في العمر، وقد انتشله فريق الدفاع المدني في حلب الشرقية من تحت ركام دمار أحدثته غارة على الحي الذي يقطنه مع أسرته، فصورة أيلان وصورة عمران هما نموذجان للصورة الصحفية العفوية في الإعلام الجديد، أو الإعلام الرقمي، وحققتا نسبة مشاهدة عالية، وأحدثتا ضجة إعلامية ونقاشات كثيرة في المنابر الإعلامية الأخرى، بمختلف الوسائط. تغوّل السوريالية لكن السؤال يبقى قائماً، هل الأثر الإيجابي المرجو من صور من هذا النوع يمكن أن يصل إلى مستوى أن يكون فاعلاً ومؤثراً في الرأي العام، وأن يُضاهي شدة تأثير صور القتل والعنف التي تدفقت بغزارة ليس لها مثيل على الإنترنت، من قبل العديد من أطراف النزاع، خاصة تلك التي كان يبثها داعش، والتي لا يمكن نكران أثرها في المجتمعات والشعوب في كل أنحاء العالم؟ وهل يمكن القول إن الاتجاه العام في العالم يميل إلى تلقف جماليات العنف والتأثر بها، أكثر من محرضات المشاعر الإنسانية؟ هل السوريالية التي تتغوّل في العالم، تغترب عن نفسها وتتوه عن كينونتها الإنسانية، رغم انفتاح العالم على بعضه، مثل محيطات تختلط مياهها، وأمواجها وتياراتها، بما تحمل من أنواع الأحياء والكائنات، التي جعلت من العالم مجموعة بشرية هائلة؟ لماذا لم يكن لصورة أيلان وصورة عمران، وكل الصور التي سبقتهما، مقدمةً مشاهد الطفولة المنتهكة المعذبة المحرومة المستباحة، أثر دائم يبقى حاضراً، يتحرش في ضمير البشرية في كل أنحاء العالم، على الرغم من اقتحامها المدوّي لكل المواقع والمنابر، ومواقع التواصل والميديا المختلفة؟ رتابة الضمير العالي تطرح هذه التأثيرات المتباينة للصور في عصر العولمة والانفتاح، العديد من الأسئلة، فعلى الرغم من الخصائص الكثيرة المميزة لهذا الإعلام، وقدرته على اختراق الحواجز، والوصول إلى كل الشرائح البشرية، وتجاوزه كل حرّاس البوابات والحدود الثقافية، يبقى التغيير المرجو الذي تطمح إليه الشعوب، من أجل الوصول إلى مستقبلها المنشود، هدفاً ليس فقط بعيد المنال، بل إنه يبتعد أكثر. فهذا الكم من الصور التي تدفقت خلال سنوات الحرب في سوريا، معالجة وغير معالجة، عنيفة بشكل واضح أو موارب، رمزية أو صادمة في واقعيتها، صور الدمار والتشريد والنزوح والهروب في زوارق الموت والجثث الطافية على سطوح البحار، كلها لم تغير شيئاً في واقع الحرب وواقع الشعب، بل بقيت الحرب هي الغول الذي لا يكف عن التغوّل، وبقيت الأنظمة المتحكمة بمصير الشعوب التي تشبهنا هي سيدة العالم، وبقي ضمير الشعوب التي يفترض أنها تنتمي إلى الإنسانية في حالة صحوة طارئة، تبكيه صورة الطفل إيلان ليوم، أو ربما لساعات أو دقائق، أو صورة عمران الذاهل، الذي لا يدرك أن ما مسّت يده على خده المعفر هو دمه الدافئ، فيمسح يده المبللة بمقعد يجلس عليه، من دون أن يدرك لحظته الزمانية المكانية، ثم يعود هذا الضمير العالمي إلى رتابة حياته، وإيقاعها المضبوط على مفاتيح عالم تديره وتتحكم فيه حيتان المال ووحوشه المتخفية في أدغال العالم، تدير حياتنا الرقمية وتصنع ثوراتنا، وترسم أحلامنا على مقاس عجزنا، وتبقينا تائهين في فضاءات الإنترنت والأجهزة الذكية، بينما تدفع بثوراتنا إلى منطق الحروب ومناطقها، وتدفعنا إلى التقاط الصور، والمزيد من الصور، لنرفد هذا الفضاء الذي تديره وتتحكم به، على وعد أن تكون هناك ضمائر تصحو، ورأي عام يضغط في اتجاه رفع الموت عن أرواح أطفالنا، وهذه هي لعبة الصور الرقمية والحيل الذكية. أثر الصورة منذ بداية الحراك السوري كان الإعلام حاضراً، بقوة وزخم، بشكليه التقليدي والجديد، وبما أننا نعيش في عصر الصورة، فقد كانت الصور والمشاهد إحدى الأدوات الرئيسة في صناعة الخبر ونشره، فحاسة الإبصار تقوم بأدوار رئيسة في عمليات الإدراك عند الإنسان، والرسالة المنقولة عبر الصورة لها القدرة على خلق الانطباعات المركبة والعنيفة، وتؤدي بكفاءة الدور الرئيس، وهو الارتباط بين الرمز الاتصالي وبين مضمونه، أي المعنى، الذي يعتبر أهم موضوعات علم الدلالة. سلاح الصورة بما أن الإعلام الجديد يقوم على تدفق المعلومات عبر شبكة الانترنت والهاتف الجوال، وهي متاحة للجميع، فإن الصورة الإعلامية والمشهد البصري يمكن بثهما بلا أي ضوابط قانونية أو أخلاقية، ويمكن توظيفهما لخدمة أجندات، أو بث أفكار، أو الترويج لعقائد وأيديولوجيات، وبالتالي يمكن أن تكون الصورة أحد الأسلحة المهمة التي تدور بواسطتها حرب إعلامية بخطورة الحرب الميدانية إن لم تكن تفوقها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©