الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ميسون صقر: لا أكتب رواية تاريخية لكنني أستخدم التاريخ

ميسون صقر: لا أكتب رواية تاريخية لكنني أستخدم التاريخ
21 سبتمبر 2016 15:10
يقول ابن عربي إن «كل فناء لا يعطي بقاء لا يعول عليه»، ويبدو أن مشروع ميسون صقر الإبداعي هو ذاته الفناء الذي يعطي البقاء ويفسره ويشتبك معه، ويشتغل عليه بانحيازات الواقع والتخييل. تجربتها الممتدة والممزوجة بين الشعر الذي مازال وسيظل البطل الرئيس في مشروعها الإبداعي، وبين الرواية التي تعد نموذجاً وثيق الصلة بإنتاجها الشعر، وتصير درة التاج لما أنجزته في مشروع مازال ممتداً، أنجزت منه إلى الآن 12 ديواناً شعرياً، وروايتين: «ريحانة»، و«في فمي لؤلؤة»، والعديد من المعارض التشكيلية. تعود «ميسون صقر» بعد اثنتي عشرة سنة من الغياب عن النشر الروائي الذي قدمت خلالها كتابة مغايرة، فيها الكثير من العمق والغرائبية، والدهشة المسكونة بواقعنا وتاريخنا المتشظي بالحروب والدمار، تفك اللغز وتكتب تاريخاً آخر يوازي تاريخ البحر والوطن وناسه. ثمة عزف يولد من وتر مختلف، لا يمكن لك إلا أن تجد نفسك طريداً للدهشة، طريداً لصفاء اللغة والأسلوب والعمق والجمال. وفي هذا الحوار مع (الاتحاد الثقافي) تفتح ميسون صقر نوافذ عدة على تجاربها الإبداعية، ومغامراتها ما بين الحروف والظلال. * يبدو أن ثمة دلالات وتأويلات لاختيارك صورة مارلين مونرو لتكون غلاف روايتك الأخيرة (في فمي لؤلوة)؟ ** قد يغير الغلاف من إحالة النص من موضع إلى آخر. أحببت ألا أحيل روايتي إلى الماضي وأقف هناك فقط، بل أربطها برباط قوي مع الآخر. الآخر الذي يضيف إلى فكرتك فكرة أخرى، أو يدفعك لأن تحول فكرتك من فكرة تقليدية عن الغوص والاستبداد، إلى فكرة اللؤلؤ وصراعات التجارة والشعر والغواية، فهكذا وتلقائياً يتم التوسع من فكرته (الآخر) إلى فكرة تبتلع أفكاراً وأفكاراً، كي تصيغ فكرتها هي، فتتحول من رواية لها بداية ونهاية وسرد إلى حالة من التشظي الكامل للحكايات والرؤى والأشخاص، حتى لا تنتهي بنهاية مكتملة لكن بنهايات دائماً مفتوحة، لا تنتهي إلا لتبدأ كل مرة بشكل مختلف، وبمعرفة وإحساس مختلفين. لم أرد أن أكتب رواية تصبح نواحاً على الماضي، أو تحسراً عليه أو حتى محاسبته، لذلك كانت مارلين مونرو إحدى تلك الصيغ التي استخدمتها في شكل الغلاف، والذي يحيل لأكثر من حكاية داخل الرواية، من المعرض المفترض الذي يشمل أشكال وأنواع اللؤلؤ، وفيه كانت صورة مارلين مونرو بارزة في صدارة الصور لممثلات لبسن اللؤلؤ، لكن ما لبسته مارلين كان من اللؤلؤ المزروع. يمتد الخيط نفسه إلى نهاية الرواية، حيث إن فكرة رسالة البطلة «شمسة» إلى أستاذها، والتي تبدو كأنها تستخدم غواية مارلين مونرو، أو كليوباترا لإقناع أستاذها بأهمية الكتابة عن اللؤلؤ، بينما تبحث من خلال كل هذا عن الحب والشغف والغواية. مع انتهاء النص أمسكت نهايته وجعلتها، هي بذاتها، بداية الرواية في الغلاف الذي وضعت فيه صورتها وهي ترتدي عقداً من اللؤلؤ المزروع والذي أهداه لها زوجها، وكانت أيقونة بيت «ميكيموتو»، الذي اكتشف هذا اللؤلؤ المزروع، والذي اشترى العقد مرة أخرى بعد وفاتها ليظل في متحفه إشارة إلى لحظة انهيار عصر اللؤلؤ الطبيعي المستخرج من مياه الخليج لتتوجه أنظار الاستعمار لفكرة أخرى. لهذا وضعت غلالة على وجهها لخريطة تشمل بعض أماكن الغوص في الخليج، لأضيف غواية أخرى، يمكن أن أسميها «غواية توثيق الصورة»، وذلك من خلال تلك الغلالة التي تشبه البرقع، جذباً للفكرة، والتي تتحول بدورها من فكرة البكاء على الماضي.. إلى صورة من الحزن الشفيف، ومن الإجلال له.. إلى استخدامه في أشكال جديدة. لهذا يمكنني القول إنني لا أكتب رواية تاريخية، لكنني أستخدم التاريخ للدلالة على الحاضر، أستخدم التاريخ لفتح مغلوقاته من وجهة نظر الفن والإبداع. التصوف والثورة * ثمة خلفية فلسفية أقرب إلى النزعة الصوفية تشغل كتاباتك. ظهر ذلك واضحاً في ديوانك «جمالي في الصور»، حيث كانت الثورة والعمق الصوفي حاضرين، وفي رواية «في فمي لؤلؤة» ظهر هذا واضحاً.. كيف ترين هذا؟ ** بعد انتهائي من عمل ما أبدأ بالقراءة الحرة، وكل مرة تستهويني فكرة ما أو توجهاً ما. مرة بدأت أشحذ نفسي حول البنيوية ونسيتها، ومرة حول الثورة والسياسة ونسيتها، ومرة حول التصوف وهو مسرد مهم له خصوصيته، خاصة وأنا ابنة الثقافة الدينية الحنبلية التي لا تعترف بالتصوف ولا تقترب منه، لكن في مواصلة حياتي بالقاهرة رأيت كيف أن هذا التصوف مسلك عام وقريب من الحياة اليومية، بدأت أترك يدي وهي تقترب وتقرأ، بدأت بالمتصوفة وانتهيت إلى الأقطاب والشيع وأنا ممسكة بحذر ما، ثم اقتربت من المقولات التصوفية لابن عربي والرومي وغيرهما، وذهبت إلى البوذية وعدت إلى المسيحية، ثم اقتربت مرة أخرى من التصوف الذي يشتمل الأديان وغيرها، ويشمل البقع القريبة من فارس والهند وغيرهما، ما شكل جماليات أخرى خاصة بالشغف، وجماليات اللغة والوعي وإدراكه. لذا حين بدأت أكتب كانت حاضرة وواضحة في كتاباتي، رغم أنني لا أدعي أنني أحد المقربين منها، إلا على المستوى النظري القرائي. ومن ثم، ظهرت بما تحمله من دلالات قريبة لما أود الكتابة عنه أو مفسرة أو مدللة عليه، وربما في لحظات كَحِلْيَة مثلها مثل المفتتحات من الحكايات والشعر والمسميات التي تنعجن كلها في خلطة واحدة، تشمل هذه المسارب العديدة للرواية، وتفتح طرقات صغيرة محاذية للتاريخ العام فيها وسرده. دعني أخبرك أنه ربما مع الثورة (25 يناير في مصر) وفكرة الاستقرار لفترات طويلة، دون أن ترى الشوارع والأصدقاء كان الصديق الوحيد هو الكمبيوتر ووسائل الاتصالات والإنترنت، إن توافرت، فكانت الروح أخف قليلًا لكنها في توتر دائم. كنت بحاجة لما يستقر في الروح من شعر وكتابات قريبة وكانت الروح تبحث عما يقربها لحالتها في ظل خارج يزلزل الواقع ويغيره، هل بإمكاننا أن نتمسك بيقينية الكتابة؟ كلا، كان التغيير هو الحدث، وكنت أبحث ولا أقترب، وكانت الحالة الصوفية تلمسني كل يوم من الآخرين ولا أقترب. ولا تزال بؤر كثيرة زلزلت بل دمرت بما يغلي داخلها، الحمد لله أُنقذت مصر مثلاً من مصير لو دخلته لاستمرت مئات السنوات تصارع الاضطرابات، وذلك لكبر حجمها وتنوعها وللكثرة البشرية، والواقع يشي بدول في الجوار تزلزلت ولم تستطع أن تنهض، النهوض يعتمد على الحشد والاحتشاد والرغبة الجمعية في التغيير، لا هذا التشتيت في الجهد وخلق تفجيرات محسوبة في كل فصيل، حتى تظل حالة الانقسام والتفتت والانشطار والتشظي هي الحالة الواقعية. فما حدث في العالم العربي كبير وكثير، ووصل إلى نهايات درامية كثيرة، قد تفقدنا يقيننا بأن كل طريق له نهايته المحتمة، بل أصبح كل طريق له نهايات ومنها الكارثي أيضاً. فما قبل موت صدام مثلاً يختلف حتمياً عما بعد ذلك، ولنختلف فيه هو، لكن أتحدث عن تغييرات مهولة لن أستطيع أن أكتبها كما يكتب أحد الكتاب في سوريا أو العراق أو ليبيا، وقد عاصرت ما حدث لدولهم من انهيار كامل وهجرات جماعية لجنس عربي بكميات مهولة، هناك تفاصيل وحكايات، كل حكاية مأساة من أكبر المآسي. لهذا فإن ما حدث ليس في ذاته إنما فيما فتحه من وعي وخراب وتدمير وحضور في الوقت نفسه كرغبة حقيقية في عقل وضمير الكثيرين، وما انهار من أفكار بسببها، أفكار الدوام والاستمرار والاستقرار وغيرها من أفكار لم تحز في ذلك الوقت على مساحة في تفكير الإنسان العادي، لذا كان الشباب سعداء وإن اقترب منهم الموت، كانوا يغنون ويلعبون، فمن قال إن الغناء واللعب والحب لا يتفجر إلا في الوقت المريح الساكن؟. لكل ذلك حضرت الفلسفة والثورة والتصوف، لأن الإبداع فيه التعدد، يمكنك أن تصل بمصير أحد أبطالك لعدة مصائر متباينة، أنت تختار أحدها ولا تنفي الباقي، يظل في طبقة أخرى داخل محتوى الشخصية وبين طيات بنائها. هذا ما حدث لي ولم أستطع أن أكون الكاتبة نفسها، والشخص نفسه بعد مرور تلك التجارب التي تخص الآخرين، وربما تفتح لنا المستقبل أو تغلقه، لا يهم كتابة ذلك، لكنه يهمنا نحن كبشر ومواطنين، والذين في لحظة ما رأينا بعضنا تحت الضوء وانكشف الستر الذي غطى قلوبنا وبدأ الخوف لأننا لا نملك ولم نفكر إلا في إطار ما نحن فيه فقط. إشكاليات أشكال * ما الذي يدعو ميسون صقر إلى الاشتغال بكتابة الرواية وهي الشاعرة المتحققة التي قدمت ما يزيد على اثني عشر ديواناً للمكتبة العربية، كان آخرها «جمالي في الصور».. هل ترين في هذا تمرداً على الشعر أو انقلاباً عليه؟، أو بمعنى أدق: هل هو قتل لفكر الإخلاص لجنس فني بعينه؟ ** ليس بالمعنى الحرفي بالطبع، لكن إلى بداية أو منتصف الثمانينيات كانت الحقول الإبداعية المختلفة مثل الكتابة والفن التشكيلي أو الموسيقى لا تختلط ببعضها، فإن تحدثت مع شاعر عن الفن ينفي معرفته أو الاهتمام به إلا القليل منهم. بدأت فكرة أن الآداب والفنون كالأواني المستطرقة كل منها يصب في الآخر، وكانت هناك محاولات كثيرة، تغامر بالجمع بين أكثر من فرع من فروع الإبداع، ولا تقتصر على فرع أو آخر، وإلى الآن لا نجد من يحاول أن يتنقل بخفة من حقل إلى حقل آخر من الفن أو الآدب إلا بمنظور عدم المهنية أو عدم الاعتراف به، لذا خاف أكثرهم من التحول الذي قد يقلل من قيمة عمله بالكامل. بالنسبة لي أزلت الخطوط الفاصلة بين الإبداع والفنون، لم أزلها فقط بل حاولت محوها بقوة إرادة ورغبة في التماهي مع كل الأشياء، واختلاطها كما يختلط اللون مع بعضه. وما لم أمارسه من الجرأة في الحياة مارسته في التحول من مكان إلى آخر داخل الورقة بخفة وحرية وحب. لذا كنت أرى المنتوج كطفل لابد له من الحضانة والتغذية حتى يستطيع التكوين. لذلك حرصت دائماً أن يكون لدي فرحة في المنتوج النهائي، فهكذا أنا كطفلة أو كنحلة تتنقل من زهرة إلى أخرى، تمتص الرحيق وتفرز العسل أينما كان. في الذاكرة لدي ما أقوله بأشكال عدة، تتفجر منها إشكاليات أشكال، لذا لم أدع الإصرار على فن واحد وفرع وحيد، إن كنت أستطيع التعبير والمحاولة في فروع أخرى.. لماذا لا يحاكم مثلاً الشاعر أو الروائي الذي يعمل بالنقد أو الصحافة، كما يحاكم من يذهب إلى الفن التشكيلي أو السينما لأنهما ليسا أقارب، لأنهما ليسا من الطبقة الطينية نفسها في الفعل الثقافي. إذن نحن ننظر بشكل تقليدي عشائري أيضاً، لا يخرج الشاعر من أسرته الشعرية وإن ذهب للرواية فهو في قبيلته، وإن عرج على الصحافة فهي كتابة، لكنه لو ذهب إلى اللون فقد جنح إلى التغيير واستخدم أداة أخرى ولغة ثانية. ما معنى الإخلاص الإبداعي إذن لو كبحني عن إرادتي ورغبتي؟، لابد أن يكون الإخلاص عميقاً في القلب كي يتحقق، وإن أخلصت هل الكتابة والرسم والاختلاف خيانة، إنها معانٍ تقليدية مرتبطة بالواقع ولا تنطبق على مفهوم الإبداع الذي يتحرر من المفاهيم المرتبطة بهذا الواقع، فله مفاهيمه الخاصة وإلا ستحاسب الأعمال الأدبية والفنية بالمنطق نفسه. لقد عشت، حتى في الحياة، حيوات متناقضة ومختلفة لا تعاش بجانب بعضها بعضاً، ما عساي أن أفعل أو أقول، هل أرى فيها عدم الإخلاص لنموذج وحيد، وكنت قد رأيت وعشت غيره أيضاً. لقد وضعت في وضع كانت فيه كل الحيوات بجانب بعضها بعضاً، لا يتقدم أحدها على الآخر، وعلى العكس كنت أستعين ببعضها على الآخر، أو أحرضه عليه، أو أفيد من منجز هنا، ومن موقف هناك.. إذن هل هي خيانة وعدم إخلاص؟ كلنا لا نخلص لحيواتنا ولا إلى الإبداع إلا بمقدار، كل الأشياء غير مكتملة بالأساس. كما لو رأينا الواقع فإن كل القيم التي نشأنا في حضنها، خاصة السياسية والفكرية، ألا تراها تنهار الآن، تمهيدا لآراء سوف تنشأ، أين الأفكار العظمى والاتجاهات المختلفة، هل بإمكانها أن تفسر نموذجاً سياسياً في مثل ما نراه من تشظي، أو تفكيك النموذج الواحد من التيارات الأسلاموية والسياسية، وتفتيت الشعوب وتقسيمها وتهجيرها بالآلاف؟ لو تمعن الواحد منا فقط في فكرة قوارب الموت التي يهرب عن طريقها الآلاف بحثاً عن موت آخر أو مجهول قد ينقذه، إنها فكرة سياسية وفلسفية ودينية، وللأسف إبداعية، وهي أيضاً في كل ذلك فكرة قاتلة للأرواح الحرة، مخزية للأفكار التقدمية والوطنية، لأنك تتحدث هنا عن مجموعة بشر، عن أرواح، عن ضحايا الجوع والعنف والتهجير والانسلاخ. * لم تتخل ميسون صقر عن لغتها كشاعرة وصار للشعر حظه في الرواية بدءاً من اختيار مقدمات الفصول، وصولًا لاختيار الأغاني التى يرددها الغواصون، وبموت الشعر تنقل بالأحداث، فيموت الغناء وتصير الأحداث في إطار أكثر قسوة، أحداث لغضب البحر ومزيد من القتلى، وكأنك تقولين إن بموت الشاعر يموت الجمال؟ ** فكرة لم أنتبه لها لكنها جديرة بالاستحسان والتفكر، إذ أنني لم أنكر وجودي كشاعرة تكتب حال أكثر شاعرية من التخييل، حيث تصبح وكأنها أساطير. ما الذي يجعل مركب صيد يستعين بشاعر في الرحلة إلا أن يخفف عنهم وطأة السفر والغياب والقسوة؟ ما الذي يجعلهم يدعون ويغنون في الوقت ذاته؟ لأنهم يستعينون بما يشغل الفؤاد ويلهيه، وهم بحاجة للأمل والفرح لوداعة الحياة رغم قسوتها. يختفي الفرح ومسبباته ومنها الشاعر والغناء، ويظل الدعاء حامياً لهم من الانجراف الغاضب أو فقدان الأمل، خاصة أن هناك فترة صامتة يفلقون فيها المحار ويخرجون اللؤلؤ، وهي فترة تحتاج إلى صبر وجلد لأنها مكررة وطويلة من دون حركة في مكان ضيق على السفينة، ولا بد أن يلهيهم شيء وإلا أصيبوا بالملل والتعب السريع، لم يكن هناك مذياع بل يعتمدون على الحفظ وترديد الشعر والحكايات مع الرحلات. * «في فمي لؤلؤة».. البعض يراها إعادة لكتابة تاريخ منطقة الخليج في ثوب إبداعي، كيف تنظرين إلى هذا الرأي؟ ** التاريخ في كتب التاريخ والوثائق وفي السير والحكايات التاريخية، أما الروايات فهي تقترب مما يمكن أن نقول عنه إعادة لا كتابة التاريخ، لكن قراءة التاريخ من وجهة نظر أخرى قد تصيب، وقد تختلف، وقد لا تكون ذاتها، لأنك وأنت تكتب تترك يديك حرتين، وهذه الحرية لا يمكن أن تجعلك سائراً على الطريق الصحيح، تجعلك منتبهاً لا حالماً متيقظاً، لا متداعياً، وهذا يختلف عن الإبداع، وأنا في كل رواية لي آخذ البطلة وأهربها إلى عالم آخر لترى ما لم تره في مجتمعها. أترك لها القوة في الهجر، والرغبة في الخلوص، والجرأة في اتخاذ القرار، والرغبة في الهروب، والقدرة على الحل. لا بد وأن نستفيد من التاريخ، ولا بد أن تضع أبطالك في زمن، وهذا الزمن له معطياته وأشخاصه، قد تستفيد من ذلك وقد لا تستفيد، لكن في النهاية لا تكتب مسطراً تاريخاً موازياً إلا بقدر أحكامه. أكتب أيضاً من خلال التفكير الحقيقي لتجاوز لحظة المكتوب عنه، بمعنى لا بد أن تسرب لحظات توق وحرية واختلاف لا تحاكي فيه الواقع وإلا لماذا تكتب، ثم وإن كتبت الواقع لا بد أن تشطره وتشظيه حتى يصبح كنتف مبعثرة، كما هو في قراءتنا له، في هذه الحال وهذا الزمن. لا أراهن على شيء * إلى أي مدى نجحت ميسون صقر في تخطي وتجاوز فخ الإغراق في اللهجة الخليجية؟ ** كان أسهل عليّ أن أكتب باللغة الفصحى، وهي أسهل وأمتع، لكنني كنت أود أن أتداخل مع هذا العالم وأدواته وحياته، لذا ذهبت إلى مركز التراث كي أنهل من اللهجة الخليجية وأغوص فيها، وقرأت كثيراً من الشعر الشعبي، وجلست مع كثير من الحكائين والغواصين القدامى، وقررت أن أكتب بعض الحوارات باللهجة الخليجية، كما كتبت حوار شمسة مع مروة باللهجة المصرية، وهو جزء صغير في الرواية. الرواية تشمل عوالم أكبر من الوقوف على تلك اللهجة في بعض الحوارات، وهي لهجة مخففة، لكن بعض أدوات الصيد كانت هي ما استغلق أمام البعض، وأظن لو تركوها واستمروا لما تغير الكثير، ولا أظن أنني وقعت في ذلك الفخ لأن الرواية تعتمد على أحداث وشخصيات ورسائل وبنى أعمق وأكبر من كل ذلك، وهذا ما فعله الطيب صالح من قبلي، والكثير من الروايات المهمة لدينا أو لدى غيرنا ويصلنا مترجماً باللغة العربية، فلا نعرف إن كانت أصلًا بالعامية لديهم أم لا. * الإقدام على كتابة عمل روائي طويل يشغل 600 صفحة أمر يدعو للرهان على شيء ما، خاصة أننا في زمن القراءة السريعة، على أي شيء كنت تراهنين؟ ** أراهن على كل شيء ولا أراهن على شيء محدد بعينه.. أكتب ما أستطيعه وما أعرفه. نحن لا نراهن على النجاح أو نصطنع الكتابة التي تجذب، إنما نحاول ونحاول، وعلى قدر إمكانياتنا أن نضيف شيئاً ذا بال. أما طول أو قصر الرواية فليس تميزاً وإن كنت أتمنى أن أستطيع الاختصار فيها، لكنها كانت كطرقات ملتوية، يشدني طريق ليفتح لي أكثر من طريق، لذلك كل ما تمنيته خذلتني فيه الرواية، كان لها خطها الخاص وجذبتني نحوه. وما أتمناه الآن أن تكون الرواية قادرة على جذب قارئها الخاص الذي يراهن عليها، أما أنا فلا حيلة لدي، لكن ربما أراهن على قارئ يحبها ويستمر في القراءة للمتعة أو الاكتشاف، أو الأهمية، أو تجذبه شخصية أو مشهد ولا يمل. * من «ريحانة» إلى «في فمي لؤلؤة» فترة زمنية كبيرة وبعيدة عن إنتاج عمل روائي، هل هذه الفترة كانت كافية لتقديم تمايز بين العملين، خاصة أن ثمة وشائج وثيمات قد تكون مشتركة بينهما، منها «التاريخانية»، والفكرة المنشغلة بها ميسون عن الحرية واضحة في العملين، ثمة شخصية تم استحضار اسمها من رواية ريحانة إلى«في فمي لؤلؤة» هي «شمسة»؟ ** لست ممن يبحثون عن الكتابة اليومية، والإنتاج الكبير، بقدر قيمة ما أقوم به، ومع ذلك لا أقوم إلى الشيء إلا إذا حضر وظل يلح عليّ ويشغلني. قد تتصور أنني كنت أعمل منذ 2007 على هذه الرواية، وكنت أظنني لن أكتب رواية بعد «ريحانة» وأظنها جاءت مصادفة، وها هي «في فمي لؤلؤة» تخيب ذلك الظن، وبما أنني أكتب عن الفترة نفسها، والمكان نفسه، كانت الثيمات تقترب من بعضها بعضاً بالتأكيد، وربما هي تكملة لروايتي السابقة التي كان يحدثني الدكتور شاكر عبد الحميد دوماً أنها لا بد لها من تكملة، وكنت لا أثق في قدرتي على ذلك، لكنني وجدت فكرة تكمل النص ولا تكمله في الوقت نفسه، تكتب من زاوية أخرى عن حالة أخرى وتستبقي شخصاً أو آخر من الرواية الأولى، هذا ما فعلته، فهي متصلة منفصلة عن روايتي السابقة، لهذا استبقيت شمسة من دون الأبطال الآخرين، لكن فكرة التمايز والاختلاف قد نحسها في صياغة العبارة وكتابة الشخصيات والمشهدية الأكثر وضوحاً والموضوع، ولهذا أنت في منافسة كبيرة مع كتابة الآخرين عن البحر وعن الخليج وعن اللؤلؤ. روح محبة للآخر * المشهد الإبداعي الراهن لا يدعو إلى خلق إبداع نقدي على مستوى النظرية والتطبيق.. إلى أي مدى تتفق ميسون صقر مع صحة هذه العبارة؟ ** لا أتفق معك إطلاقاً، أنا ابنة الحاضر والمستقبل، لا أتباكى فقط على الماضي، لكنني أثق في القادم وأحترم الحاضر، وأظن أنه مثلما هناك إبداع ضعيف فهناك إبداع مبهر ابن لحظته وزمانه كما النقد، فلا نتعالى عليه ولا نقلل من قيمته أبداً، الدليل كم الكتابات الجميلة التي نشرت في الآونة الأخيرة وإن كانت ليست ضمن ذائقتك، فليكن، حاول أن تغير منها قليلًا، وحاول أن تقرأ بروح أخرى، روح محبة للآخر ومتعاطفة معه ومستكشفة إياه.. لماذا نحب فقط الذي يشبهنا رغم أن الذي لا يشبهنا يعلمنا ويفتح لنا أشكالاً وآراء ورؤية مختلفة، إنه يمسك بأيدينا ويذهب بنا إلى طاقة نور أخرى لم نكتشفها بعد. الاحتشاد بالشعر والحكايات * ماذا عن الاحتشاد بالشعر والحكايات الموجودة في المقدمات بالرواية؟ ** كان النص كموج يذهب ويعود، كدفقة تلو أخرى في مد وجزر، كل فصل من الفصول فيه دفقتان، كل دفقة ذهاب وعودة، سرد بين الماضي والحاضر، يتمدد فيه سرد الماضي ثم ينحسر ليترك بعض آثاره على اليابسة التي هي سرد الحاضر، وهو ما يؤسس لما أراه من أن التاريخ في الماضي يترك بعض أثر لكن لا يسيطر على الحاضر ولا يغيره. كل حكاية من الماضي تترك آثارها في البحث وفي رؤية «شمسة» الشخصية الباحثة في الرواية. كل مد امتداد في المعرفة واكتشاف من الماضي يترك أثره البسيط على الحاضر. هذه الدفقات تؤثر على المعرفة والاكتشاف في الرواية ككل، والتي هي رمال الشاطئ، ولا أثر على المياه، لا أثر إلا في الحكاية، أما المياه ذاتها، مياه الحاضر يندغم فيه الماضي ويذوب بلا أثر فاعل، لهذا كان رتم الذهاب والعودة والدخول والخروج والماضي والحاضر ليس رتماً صامتاً بل محتشد بالمقدمات والمفتتحات والشعر والعناوين والأحداث، كي يتم الاحتفاء بهذه الحركة المهتزة كالموسيقى، وكأنه تقديم في الحياة، وكأنه فرقة موسيقية كاملة تواكب الحدث، وكأن الحدث في ذاته ترنيمة للموت أو للحياة، أيمنا كانت كان ما يرافقها من الاحتفاء بها. خيط الحياة الرفيع بالنسبة لي، كانت حياتي مجموعة كتل زمنية تسلم بعضها بعضاً، ما قبل الخروج الأول، ثم الوعي بالضرورة والدخول إلى مكان آخر بتاريخه المحتشد في لحظة زمنية فارقة، وبدء الوعي المختلف والانتباه بالضرورة إلى الآخر في لحظات قوته وضعفه، ثم الوعي بالذات والآخر الذي معها والذي خارجها، ثم العودة للجذر بشكل آخر، والوعي بتغيّره وتغيّري، ثم العودة وانفتاح معالم أخرى للمختلف والمتجذر وما بينهما، ثم الوعي بالكمون والانفجار كحشد جماعي عشت لحظاته الفردية والجماعية في خروجنا، ثم في لحظات مثل لحظات هزيمة 67 ومعنى الحرب والانتكاسة، وموت الأيقونة واتفاقيات السلام وبدايات ظهور الجماعات الإسلامية في الحرم الجامعي والتغيرات الحادثة في المجتمعين، ثم الركود وبعده الانفجار العارم. ما أصعب أن تنظر في عين إنسان فقد وطنه وعائلته، أعرف ذلك بشكل بسيط الآن، أعرفه بشكل مخز ومؤلم، أنه يخص غيري لكنه يخزّني في عمق الروح. إذ كان التوق هنا يرمي إلى الخلوص والإمعان والوصول إلى درجة أعلى من الصفاء الذهني والتفكري له علاقته بالماضي «الحاضر في كل لحظة»، وله علاقته باللحظة الراهنة في الكتابة، وله أيضاً خيط رفيع ممتد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©