الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تقويض فوكو!

تقويض فوكو!
2 أغسطس 2017 20:58
بأسلوبٍ لغويٍّ مُغْرٍ فيه مَزْجٌ أليفٌ بين بلاغة جُمْلة عَصْر الأنوار وشفافيةِ الجُملة الفرنسية الجديدة، وبجُرأةٍ فكريّةٍ جارحةٍ لجسدِ الموروث الثقافي الأوروبي ومُحرِجَة ليقينياته وثوابته الحاكمة لمجالات الجنون والحقيقة والجنسانية والعدالة والسُّلطة والنفسانيات، وبتفكيكٍ ماهرٍ للبِنْياتِ المعرفيَّةِ المُوجِّهة للسُّلوك الفردي وتبيُّنِ ما بينها من وصالٍ وانفصالٍ، اخترق الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926-1984) جُدرانَ الفكر الفلسفي من منتصف القرن العشرين إلى بداية القرن الحادي والعشرين، وحيَّرَ هَدْأةَ قِيَمه بعمقِ ما طرح من أسئلة، حتى صار اسمُه من ألمَعِ الأسماء الفكرية المُعاصِرة حركةً في الدراسات الإنسانية الراهنة، ومن أكثرها ترحُّلاً بين الجغرافيات البشريّة وبين لغاتها. غير أنّ اتساعَ هذه الشهرةِ لا يُخفِي وَلَعَ معاصِريه بنقد أطروحاته ومنهجه. عاش ميشال فوكو حياتَه محمولاً على قلقٍ كبيرٍ جعله كثيرَ الحركةِ في الأرض وفي التاريخِ باحثا فيهما عن حقيقة يَطْمئنّ إليها، بل قُلْ باحثا فيهما عن حقيقة يُطَمْئِنّ بها قلبَه، وهو ما نُلفي له صورةً في تشبيهِه عملَه الفكريَّ وحفرياتِه لتاريخ العصر الكلاسيكي الأوروبي بعمل والدِه الطبيبِ الجَرَّاح، حيث يقول: «أرسم على بياض الورقِ العلاماتِ العنيفةَ ذاتَها التي كان يرسمها والدي على أجساد الآخرين عند إجرائه عملياتٍ جراحيةً لهم. لقد حوّلتُ مِشْرَطَ الطبيبِ إلى قَلَم للكتابة». ويبدو أن قلقَ فوكو يعود إلى أمريْن: أوّلهما علاقتُه المُرّةُ بجسده وما يُعانيه من كَدَمات نفسيّة تعود أسبابها إلى «مثلية» أجبرته على القيام بمحاولتيْ انتحار، وطوّحت به في عالَم الإيدز وانتهت به إلى الموت، وثانيهما شعوره بكونه مستهدفًا بسهامِ نخبة من أعلام الفكر المجايلين له مِمّن انبروا ينقدون آراءَه وينتقدون مواقفَه الشخصيةَ المُتضاربةَ التي بدا فيها ستالينيا شيوعيا في العام 1950، ومناهضًا للشيوعية بعد أن منعته مخابرات بودابست العام  1955 من دخول البلاد والعمل فيها ملحقا ثقافيا لفرنسا، ورافضا للسياسة خلال العام 1960، ويساريًّا متشدِّدًا العام 1970، ومواليا لحكومة الملالي في طهران العام 1979، ومازوشيا خلال سنوات إقامته في أميركا، ومناضلا حقوقيا العام 1982. بنيويٌّ ضدّ البنيوية وصف جون بول سارتر في حديثه لمجلة «لارك» (L&rsquoarc, no 30) مواطنَه ميشال فوكو بكونه مفكِّرًا معاديًا للماركسيّة، وبأنه «فاقدٌ للحِسِّ التاريخي» في قراءته التاريخَ الغربيَّ، بل إنّ كتابَه «الكلمات والأشياء» ذو رهان سياسيّ «يقوم على رفض التاريخ كتجربة (براكسيس)، ومن ثَمَّ فإنّ المستهدَف منه هو الماركسية»، وأضاف سارتر بأنّ فوكو «يُفضّل البنيوية الباردة على حساب دفء التجربة البشرية» ويسعى في كتابه هذا «إلى خلق أيديولوجيا جديدة، هي بمثابة السدّ الأخير الذي تُقيمه البورجوازية ضدّ ماركس». وخصّص رائد المدرسة البنيويّة في علم النفس السويسري جان بياجيه في كتابه «البنيوية» فصلاً كاملاً لنقد منهجية فوكو البحثية قال فيه: «اعتمد فوكو الحَدْسَ والارتجال والتكهّن عوضا عن المنهجية العلمية»، ووصفه بأنه «بنيويّ مُزَيّف»، و»بنيويّ ضدّ البنيويّة». وفي الإطار ذاته، ألقى جاك دريدا محاضرة العام 1963 بعنوان «الكوجيتو وتاريخ الجنون» انصبّ فيها جهدُه على كشف سطحيّة تحليل فوكو للنصوص التاريخية في كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» على غرار تحليله نصَّ ديكارت الوارد في كتاب «تأمّلات ميتافيزيقية» حول الجنون والحُلمِ، وهو نصٌّ وجد فيه فوكو ما يؤكّد فكرته في أنّ العصر الكلاسيكي قد بالغ في عزل المجانين وإبعادهم عن الواقع إلى حَدِّ أنه أبعد الجنونَ عن أن يكون موضوعا للتفكير كما جاء في نصّ ديكارت، أيْ صار موضوعًا لا مفكًّرا فيه. وهذا ما رفضه دريدا وفسَّره بقوله إنّ فوكو لم يحفل برُوح نصّ ديكارت الفلسفية وإنّما اكتفى بظاهر لفظه، فإنْ كان ديكارت قد أبعد الجنون عن مجال تأمُّله فقد أبعده منهجيًّا فقط حتى يُلاعبَه ويُروِّضَه فيصير عندئذ موضوعًا جديرًا بالتفكير. وعلى غرار انتقادات سارتر وبياجيه ودريدا لآراء فوكو كتب جان بودريار مقالة بعنوان «اُنْسُوا فوكو» بيّن فيها تهافُتَ آراء هذا الأخير في الجنسانية والسلطة، ورأسُ الأمرِ في ذلك أن فوكو «لم يعِ بأنّ السلطة لا توجد، لأنها مجرّد وهم من مجموعة أوهام عصرنا المابعد حداثي». ولم يُخْفِ السوسيولوجي البلجيكي دانيال زامورا المشرف على الكتاب الجماعي المعنون بـ»انتقاد فوكو» نفيَه جِدَّةَ فكرةِ معارضة فوكو للطبّ النفسي، وذلك بقوله إنّ الحركة المناهضة للطب النفسي قد بدأت مع إرفنغ غوفمان ورونالد ديفيد لينغ والمحلّل النفسي الإيطالي فرانكو بازغليا قبل شيوع كتابات فوكو عن المصحّات النفسية، حيث سبقه هؤلاء إلى الدعوة إلى إلغاء مشافي الطبّ النفسي وتعويضها بمؤسّسات تضمن حقوق المرضى. ويقول الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه «سراديب الموتى الحديثة» إنّ ما يُعاب على فوكو هو أنه بالغ في استنتاجاته البحثية مبالغةً جعلته يرى أنّ كلّ بيت هو مؤسّسة إصلاحية، وكلّ مدرسة هي سجن، وكلّ معرفة هي سلطة. كاتب يستهين بعقول قُرّائه إذا كان مُجَايِلُو فوكو من الفلاسفة والمثقّفين الفرنسيّين والأوروبيّين قد وقفوا بنقدهم لآرائه عند عيوبه المنهجية على حدّ ما مرَّ معنا فإنّ باحثين أميركيين ممَن تتلمذوا عليه عندما عمل أستاذا زائرًا في جامعات أميركا أو ممَّن قرؤوا أعماله قد وضعوا تجربتَه الفكريّة موضع الشكّ، وراحوا يُدقِّقون النظرَ في وجاهة أطروحاته، وفي صدقية مراجعه التي اعتمد في كتابة بحوثه. ومن هؤلاء نذكر الأميركي أندرو سكل أستاذ علم الاجتماع في جامعة سانتياغو الذي كتب مقالة سمّاها «تخيّلات فوكو العلمية» ونشرها في الملحق الأدبي لمجلة (التايمز) العام 2007 وذلك بمناسبة صدور ترجمةٍ مختصَرةٍ بعنوان «جنون وحضارة» أنجزها الكاتبان جوناثان مورفي وجان خلفة لكتاب فوكو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» عن دار روتليدج في أميركا العام 2001.  وقد نشرت مجلة «بوكس» الأدبية (Books no 8) تحليلا لمقالة سكل بيّنت فيه أنّ هذا الباحث قد حشد كلّ جهده النقدي لتفنيدِ أطروحات فوكو حول تاريخ الجنون وذلك من جهة ما فيها من تزييفٍ لحقائقِ التاريخ، وبناءٍ لنتائج متخيَّلة وتعميمية، واعتمادٍ لمصادر تاريخية ثانوية. إنّ مِن أمثلة تَقَوُّلِ فوكو على الوقائع التاريخية ذِكرُه في تاريخ الجنون أن»دراسة استقصائية كانت قد أنجزت خلال عاميْ 1815و1816 من قِبَلِ مجلس العموم البريطاني عن وضع المصحّات العقلية تُظهِر أنّ مستشفى بيت لحم للأمراض النفسية كان يَعْرِض مرضاه، كلّ يوم أحد، على جمهورٍ من المتفرّجين مقابل فلس واحد، وقد جذب هذا المستشفى فضول 96 ألف متفرّج في السنة». والحال أنّ العودةَ إلى هذه الدراسة الاستقصائية تُفيد بأنَّ ما ذكره فوكو غير موجود فيها أصلا، وأنّ ما فيها إنما هو إشارة إلى أنّ إدارة المستشفى قد قرّرت منذ سنة 1770 إلغاء زيارات المواطنين لمرضاهم. ويُضيف فوكو في الشأن ذاته أنّ مستشفى بيت لحم قد خضع إلى تحديد في بنيته العام 1676، والواقع أن المستشفى -في هذه السنة- كان قد تمّ نقله من موقعه الأصلي في بيشوبس إلى مبناه الجديد الذي صمّمه المهندس الشهير روبرت هوك في مورفيلدز. كما أنّ حديث فوكو عن مصحّات كبيرة في انجلترا يجافي الحقيقة التاريخية، ذلك أنه خلال القرنَيْن السابع عشر والثامن عشر لم يكن يوجد بها من مستشفيات للأمراض النفسية إلا مستشفى بيت لحم، وكان عدد نزلائه في تلك الفترة -حسب ما هو مدوّن في أرشيفه- لا يتعدّى خمسين مريضا، فكيف يجوز الحديثُ عن «مصحّات كبيرة» والحال أن عدد نزلائها قليل؟ ويلاحظ أندرو سكل أن المراجع التي اعتمد عليها فوكو في بحثه إنما هي مراجع ثانوية ومشكوك فيها، ومن ثَمَّ فهي لا تُخوّل للباحثين اعتمادها باطمئنان، يُضاف إلى ذلك أنها محدودة العدد وانتقائية، وهذا أمرٌ يُحيلُ على أنّ استنتاجات فوكو الفكرية هشّة ومتخيِّلة في أغلبها ولا تنهض على دعائم علمية تسمح بتعميمها أو تمكّنها من الصمود أمام الدراسات التاريخية الجديدة. ويختم أندرو سكل نقده فوكو بقوله إنه كاتب «ساخر ووقح، ويؤمن بجهل قرّائه وسذاجتهم». وبالنظر إلى ما مرّ من انتقاداتٍ لكتابات فوكو من قِبَلِ أعلام الفكر الغربي يصير من الجائز لقرّائه  أن يتساءلوا مع مُحَرِّرِ مجلة «بوكس» الأدبية: أهل يَكون هذا الفيلسوف  قد بَنَى نظريّتَه في تاريخ الجنون على الرَّملِ؟ سراديب الموتى الحديثة يقول الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه «سراديب الموتى الحديثة»، إنّ ما يُعاب على فوكو هو أنه بالغ في استنتاجاته البحثية مبالغةً جعلته يرى أنّ كلّ  بيت هو مؤسّسة إصلاحية، وكلّ مدرسة هي سجن، وكلّ معرفة هي سلطة. ملاعَبَة الجنون يرفض جاك دريدا تحليل فوكو لنص ديكارت الوارد في كتاب «تأمّلات ميتافيزيقية» حول الجنون والحُلمِ، ويقول إنّ فوكو لم يحفل برُوح نصّ ديكارت الفلسفية وإنّما اكتفى بظاهر لفظه، فإنْ كان ديكارت قد أبعد الجنون عن مجال تأمُّله فقد أبعده منهجيًّا فقط حتى يُلاعبَه ويُروِّضَه فيصير عندئذ موضوعًا جديرًا بالتفكير. فاقدٌ للحِسِّ التاريخي وصف جون بول سارتر في حديثه لمجلة «لارك» (L&rsquoarc, no 30) مواطنَه ميشال فوكو بكونه مفكِّرًا معاديًا للماركسيّة، وبأنه «فاقدٌ للحِسِّ التاريخي» في قراءته التاريخَ الغربيَّ، بل إنّ كتابَه «الكلمات والأشياء» ذو رهان سياسيّ «يقوم على رفض التاريخ كتجربة (براكسيس)، ومن ثَمَّ فإنّ المستهدَف منه هو الماركسية»، وأضاف سارتر بأنّ فوكو «يُفضّل البنيوية الباردة على حساب دفء التجربة البشرية» ويسعى في كتابه هذا «إلى خلق أيديولوجيا جديدة، هي بمثابة السدّ الأخير الذي تُقيمه البورجوازية ضدّ ماركس». اُنْسُوا فوكو كتب جان بودريار مقالة بعنوان «اُنْسُوا فوكو» بيّن فيها تهافُتَ آراء هذا الأخير في الجنسانية والسلطة، ورأسُ  الأمرِ في ذلك أن فوكو «لم يعِ بأنّ السلطة لا توجد، لأنها مجرّد وهم من مجموعة أوهام عصرنا المابعد حداثي». بنيويّ  مُزَيّف خصّص رائد المدرسة البنيويّة في علم النفس السويسري جان بياجيه في كتابه «البنيوية» فصلاً كاملاً لنقد منهجية فوكو البحثية قال فيه: «اعتمد فوكو الحَدْسَ  والارتجال والتكهّن عوضاً عن المنهجية العلمية»، ووصفه بأنه «بنيويّ  مُزَيّف»، و«بنيويّ  ضدّ البنيويّة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©