الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

الهند والإمارات.. نموذج عالمي في التعدّدية

الهند والإمارات.. نموذج عالمي في التعدّدية
23 يناير 2017 12:30
أحمد فرحات (الاتحاد) يرى الكاتب الهندي كومار سينج كوجرال أن العلاقات الهندية &ndash الإماراتية تتخطّى أبعاد المصالح التجارية والاقتصادية الاعتيادية التي تقوم بين بلدين أو شعبين، فيصفها بالعلاقات الإنسانية الحقيقية التي عمّر ثقتها تاريخاً بأكمله بين البلدين، حتى قبل استقلالهما. فهو يتذكر دارة جده، ومن ثم والده، في بومباي، وكيف كانت تعجّ بالتجار الإماراتيين الذين كانوا يفدون إلى الهند أيام تجارة اللؤلؤ والذهب، وكيف كانت عائلته تُحسن وفادة هؤلاء التجار وتطمئن إلى التعامل معهم، حتى من دون أوراق تجارية رسمية.. والعكس صحيح. وأن هذه الثقة بين الجانبين نشأت وتطورت بالتراكم، بناء على اختبار إنساني متبادل ومستدام، انتقل بدوره إلى قطاع كبير من الناس في البلدين، خارج ميادين التجارة والمال والأعمال. ولما أنعم الله على دولة الإمارات بالنفط ودورة استخراجه واستثماره، انتقلت شرائح لا يستهان بها من مختلف الطبقات الهندية العاملة للعمل في دولة الإمارات، واستمرت بالتالي العلاقة بين الجانبين على أسس قوية وثابتة، إنما ممنهجة هذه المرة، بين بلدين صديقين يقعان على خطوط التجارة العالمية الواحدة في آسيا. ثم إن دولة الإمارات أضحت في مقدمة كبار المستثمرين في الهند اليوم، وذلك عندما أقدمت أبوظبي، ومن ضمن توجّهاتها للاستثمار في مجالات غير نفطية، على الاستثمار في حقل الموانئ الرئيسة والشحن والبنى التحتية الكبرى، وذلك بحجم مالي يتخطى الـ75 مليار دولار، حسب تقارير اقتصادية بريطانية وأميركية. ولا نبالغ البتة إذا ما اعتبرنا أن العلاقات الإماراتية &ndash الهندية اليوم هي الأقوى من غيرها على مستوى علاقات الهند بدول المنطقة، يؤكد ذلك وجود جالية هندية كبرى في الإمارات يتجاوز تعدادها الـ2,7 مليون هندي، حسب إحصاءات السفارة الهندية في أبوظبي، والتي تعود إلى ثلاثة أعوام خلت. وجاءت الزيارة التي قام بها رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي للدولة قبل أقل من سنتين وتوقيعه اتفاقية أمنية شاملة، لتؤكد قوة العلاقات بين البلدين الصديقين. وقام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بزيارة رسمية للهند في الفترة من 10 إلى 12 فبراير الفائت بدعوة كريمة من رئيس الوزراء الهندي مودي. وصدر بيان مشترك في ختام الزيارة ركّز على دفع العلاقات الثنائية بين البلدين لبلورة اتفاقية شراكة شاملة بينهما، تؤسّس لمبادئ تقوم على رسم خريطة طريق من شأنها تعزيز هذا التعاون المشترك وتعميقه لأبعد مدى، خصوصاً على المستويات الأمنية والعسكرية والثقافية، فضلاً عن الاقتصادية والتجارية، حيث أكد الجانبان، ضرورة خلق فرص كثيرة لزيادة النمو وتفعيل التجارة والاستفادة من النتائج البناءة التي خرج بها اجتماع اللجنة الإماراتية &ndash الهندية المشتركة الذي عُقد سنة 2015، واجتماعات فريق العمل الإماراتي &ndash الهندي رفيع المستوى في الاستثمار التي عُقدت في أكتوبر 2015 وفبراير 2016. ورحّب البلدان في البيان المشترك بإطلاق مجلس الأعمال الإماراتي &ndash الهندي، واتفقا على دعم هذا المجلس ليصبح منصّة صلبة وفعّالة لتعزيز التعاون بين البلدين. الهند والإمارات.. فرادة التعدّدية تقدم الهند والإمارات أنموذجين استثنائيين للمجتمعات التعدّدية الناجحة في العالم، ومن شأنهما في ذلك أن يكونا بالفعل قدوة، حتى للدول المتقدمة الكبرى في الغرب، والتي تواجه اليوم معضلات اجتماعية واقتصادية وعنصرية متفجرة ومهدّدة بالمزيد من التفجر. فشبه القارة الهندية، وقبل تشكّل دولة الهند الحديثة القائمة اليوم في العام 1947، كانت أرضاً للتعدّد العرقي والديني والمذهبي واللغوي والثقافي بامتياز. والهندوسية كانت، وما زالت، هي دين الغالبية. ومع دخول العرب والمسلمين إلى تلك البلاد، وما حشده الإسلام الحنيف من ثقافة دينية تراكمية عميقة، دامت ثمانية قرون حكم خلالها الملوك المسلمون أرض الهند والسند، ظلت العلاقة بين المسلمين والهندوس على وئام تام وتجاور سلمي فاعل ومتفاعل في محيطهما، وكذلك مع دخول المسيحية إلى شبه القارة الهندية، لم تحصل أي صدامات بين الأديان الثلاثة، ولا بين هذه الأديان وسائر المعتقدات الدينية الأخرى كالسيخية والبوذية والبهائية والزرادشتية والجايانية.. إلخ. وهناك في الهند 23 لغة رسمية معترَف بها في الدستور الهندي، إلى جانب ما يزيد على 1161 لغة خاصة بالسكان الأصليين. غير أن اللغة الإنجليزية هي لغة التعاملات الرسمية التي يلجأ إليها الجميع منعاً للتشويش. وتبقى اللغة الهندية، أو الهندوستانية، هي لغة التخاطب والتفاهم اليومي إلى حدود قصوى، خصوصاً في المدن والحواضر الكبرى الهندية. واللغة الهندوستانية هي مزيج من الأردية والهندية مع رذاذ من كلمات بالعربية. يقول د. مجيب الرحمن، رئيس دائرة اللغة العربية سابقاً في جامعة «جواهر لال نهرو» في العاصمة الهندية: «الشعب الهندي بطبعه وسليقته ميّال لحب الآخر كما هو، سواء أكان ابن بلده أم الوافد إليه من الخارج. شعبنا شعب متسامح، بل عريق في تسامحه». المعبد الهندوسي من جهة أخرى، وعلى مستوى الإمارات، صبّ الجانب الإماراتي اهتمامه الأساس على لحظة العقل السياسي العربي الحديث والمتطور، فأبدع نموذجاً لدولة حديثة تعددية متسامحة قلّ نظيرها في جهات العالم الأربع، حاضرها يعيش مستقبلها، ومستقبلها هو نسق من تحدّيات مقبلة تترجمها آلياً الدولة على الأرض بثقة واقتدار. ومن آيات إبداع التعددية في الإمارات، أنها تستضيف على أرضها جنسيات تنتمي إلى ما يزيد على 206 دول في العالم، والكل يعمل ويعيش ويحلم ويأمل بتناغم سلس، آمناً على رزقه وماله وكرامته وحرية معتقده الديني والسياسي والأيديولوجي بشكل عام. تتجاور الثقافات على أرض الإمارات وتتفاعل على نحو يُشكّل غنى ودافعيّة للحياة الإنسانية المشتركة، نقرأه دوماً في هذا الازدهار أو التألق، حيث تُسابِق فيه الإمارات نفسها قبل غيرها من الدول السائرة في ركب التطور. وصار النسيج البشري التعدّدي الواحد العامل على أرض الإمارات، تبعاً لذلك، ضرورة لنفسه وللدولة في آن معاً. هناك 8.3 مليون مقيم على أرض الإمارات اليوم، حسب «الفايننشيال تايمز» ومجلة «ميد» الدولية، ولا تنوء الدولة الفتيّة بهم البتة، بل على العكس، نراها تخطط لمزيد من الاستثمار على مستوى الداخل الإماراتي وخارجه. التقاء بين الحضارات هكذا اعتادت الإمارات الاختلاط بالثقافات الأخرى على أرضها، وصارت دورة هذا الاختلاط من دورة البلد اقتصادياً وثقافياً. ويثمّن عالياً الكاتب الفرنسي جيروم فيراري، المقيم في أبوظبي والذي يعمل مدرساً لمادة التنوّع الثقافي والحضاري الذي تُبلوره مئات الجنسيات على أرض الدولة. يثمّن جيروم عالياً هذه الظاهرة بالقول «إن التمازج الواضح بين الثقافتين العربية والعالمية والمرونة التي تطغى على التعامل بين مختلف الجنسيات، ربما يتخطّى سائر الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي لإحداث التقاء أكبر بين الحضارات». وعلى الرغم من أن دولة الإمارات دولة مسلمة فإن الدستور الإماراتي كَفل للأجانب والمقيمين على أرض الدولة حرياتهم المعتقدية وممارسة شعائرهم الدينية كما لو كانوا في بلدانهم. ولعل أكبر دليل على ذلك وأسطعه، هو تخصيص الإمارات أرضاً مساحتها 20 ألف متر مربع في منطقة الوثبة في أبوظبي (تبعد 30 كم عن العاصمة) لبناء أكبر معبد هندوسي في الدولة، وسيكون هذا المعبد جاهزاً للمصلين قبل نهاية العام الجاري 2017. وكانت الحكومة الإماراتية قد أعلنت عن غايتها في تخصيص أرض لهذا المشروع خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي ناريندار مودي الذي أعرب عن شكره البالغ للحكومة الإماراتية قائلاً: «أتقدم ببالغ الشكر للحكومة الإماراتية لتخصيصها قطعة أرض لبناء معبد هندوسي عليها في أبوظبي». تجدر الإشارة إلى أن هذا المعبد الهندوسي هو الثالث في دولة الإمارات بعد معبد دبي للهندوس، الكائن في أحد مباني السوق القديم في دبي. وهو معبد قديم نسبياً يعود تاريخ إنشائه إلى العام 1958 حين منح المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي وقتها، إذناً ببنائه، فأقيم المعبد في الطابق الأول في أحد المباني التي أشرنا إليها. وكان معبداً مشتركاً للهندوس والسيخ معاً، غير أن السيخ قرروا الانفصال التعبّدي عن الهندوس في ما بعد، وبناء معبد خاص بهم، وكان لهم ما أرادوا، حيث أنشؤوا معبداً لهم في منطقة جبل علي في العام 2012. غير أن المعبد الهندوسي في أبوظبي، والذي كان قد أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عن تخصيصه قطعة الأرض الذي سيُشيد عليها منذ عام 2015، سيكون هو أكبر مساحة وحجماً من سابقيه، ورمزيته ستكون أيضاً بالغة الدلالة في هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها المنطقة العربية والإسلامية، حيث تثبت دولة الإمارات العربية المتحدة من خلالها، أنها دولة تسامح ديني من طراز رفيع ونادر في المنطقة، خصوصاً مع قوم يعيشون في كنف الدولة «منذ أكثر من قرن» على حد تعبير نارين ساولاني، أحد الهندوسيين بالدولة، «ولطالما كانوا جزءاً من تطور البلاد، التي تقدّر جهودهم وعطاءاتهم على درب النهضة المستدامة فيها». رافعة ذهبية ما أقدمت عليه أبوظبي يسجَّل، في الحقيقة، رافعةً ذهبيةً بالغة الأهمية لبلد عربي مسلم في هذا الزمن الذي يُشوّه فيه الإرهابُ الإسلامَ باسم الإسلام. إنه (أي هذا البلد العربي) يسهم في تصحيح صورة الدين الحنيف المختطفة على أيدي شراذم من شذاذ الآفاق . وهذه المواجهة الإنسانية والحضارية التي تخوضها أبوظبي على طريقتها، من شأنها أن تعيد تشكيل كينونة حيّة جديدة للإنسان العربي والمسلم، تظهره على حقيقته بأنه إنسان منفتح على الآخر، ديناً ومعتقداً، وهو يمثل بالتالي قيم دينه الإسلامي وجوهر هذا الدين الناصع، عندما ينبذ التميّز والكراهية والتعصّب ويتمسك من جهة أخرى، بقيم التسامح والوسطية. ما أقدمت عليه أبوظبي من بناء معبد هندوسي كبير، ومن قبل دبي، هو الذي يُسهم في حماية الإسلام وإظهار مرونته، وسلام اعتداله، ويُعلي من صورته، ويزيده احتراماً في عقول ونفوس وأفئدة الكثيرين من غير المسلمين في المنطقة والعالم. التنوير مسألة مطروحة باستمرار لدى أبوظبي والإمارات ككل، وسيظل هذا البلد العربي الفتيّ حاملاً الأنوار.. أنواره الخصوصية في وسط عالم من الاضطراب الأمني وصناعة الحرائق وتوليد العنف الغرائزي بلونيه الأحمر والأسود. أنوار الإمارات، ستظل تسير هكذا غير هيّابة مما حولها، وتفاجئ الجميع -وبخاصة منهم الذين لا يتفاجؤون- بمستقبل عربي هو مصدر فخر لكل عربي حقيقي.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©