الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذكريات وخبرات

ذكريات وخبرات
21 مايو 2014 21:20
جهاد هديب ثلاثة كتب دفعة واحدة هي مزيج من التأمل في الثقافة والفكر عبر استعادات من الذاكرة الفردية لأفكار ومطارح وأمكنة وشخصيات، بل لأفكار ومشاعر أيضا. تمثل كلها خبرات في العيش والكتابة في أزمنة صعبة وكثيفة لجهة ما حفلت به من أحداث. الكتب الثلاثة هي على التوالي: «أية ثقافة.. أي مواطن.. نريد في المستقبل – شواغل وهموم وطنية إماراتية» الصادر عن منشورات ندوة الثقافة والعلوم، و«قلق القيم– مجتمعات الخليج العربية نموذجا»، الصادر عن دار التنوير في بيروت، وأخيرا «ذاكرة الأمكنة» الصادر عن مركز الخليج للدراسات. أما المؤلف فهو الدكتور يوسف الحسن، ممارسا دوره بوصفه مثقفا يعيد النظر في أحوال الثقافة العربية ومستقبلها عبر مواقف ثقافية وفكرية واستعادات من الذاكرة لمواقف وخبرات وأسئلة ومشاغل تسكنه منذ أن كان رجل دبلوماسية وإعلام وثقافة إماراتي يتجول بين هذه الأفكار والأمكنة ليخرج بعدها بهذه الحصيلة. من هنا تأخذ هذه الكتب أهميتها الخاصة. أسئلة راهنة ما الذي يريده المثقف، إذ يكون ملتزما بالإجابة عن أسئلة راهنة وملحة، من المجتمع عندما يمارس عليه نوعا من النقد الثقافي؟ عن سؤال من هذا النوع يجيب المثقف الإماراتي ورجل الدبلوماسية الدكتور يوسف الحسن بثلاثة كتب تأتي إلى القارئ دفعة واحدة وفق عناوين مختلفة تعالج قضايا عديدة يراها من وجهة نظره أولويات تجدر بإعادة النظر دائما. من هذا الموقع، بوصفه مثقفا ومنخرطا في تأسيس الدولة والمجتمع منذ البدء وبالتالي من موقعه شريكا في البناء والتأصيل، يجيب الدكتور يوسف الحسن عن ذلك السؤال بمكاشفة وصدقية متأثرة إلى حد بعيد بالمواقع التي شغلها في دولة الإمارات العربية المتحدة من منطلقات تأخذ بعين الاعتبار كل ما عاينه من إشكاليات تمرّ بها الثقافة وتأثيراتها والفعل الثقافي ودوره في المجتمع. ما يعني أن الكتابة هنا يتطلع صاحبها منها إلى أن تحدث أثراً من نوع ما هو أكثر إدراكا له داخل الحراك الاجتماعي الإماراتي الراهن بكل التغيرات والتطورات الحادثة فيه للتو واللحظة. ما يعني أن الكتب الثلاثة تأخذ قيمتها من راهنيتها، أي من راهنية القضايا التي يعالجها والتي من الممكن تعميمها عربيا؛ تلك الاشكاليات والقضايا التي نعلمها عادة إنما قلما أن نتحدث فيها؛ أي قلما نختبرها ونضعها على محك التأمل وتقليب النظر والاجتهاد. الهوية ومكوناتها الرئيسية وتنويعاتها أو تلوناتها الثقافية وكذلك تأثيراتها في الثقافة بوصفها ممارسة يومية على الأرض وبالتالي إعادة تعريف من هو المواطن الإماراتي عندما يجري النظر إلى المستقبل إجمالا، بالإضافة إلى المكان بوصفه جزءا من المشاغل الشخصية ونابعا منها هي ما يشتغل عليه الدكتور الحسن دفعة واحدة في كتبه الثلاثة، وبالتالي في ما يقدمه من اجتهادات جديرة بالمناقشة والاهتمام، وربما تدفع بالبعض من ذوي الخبرات الموازية أو المختلفة إلى تقديم اجتهادات أخرى مختلفة في الاتجاهات جميعا، سواء مع أو ضد، خاصة أن الكتب تنطوي على أسئلة مثلما تنطوي على إجابات أو اقتراح لإجابات تشغل بال المثقفين الإماراتيين بصدد المجتمع وهويته وثقافته على نحو ينحاز إلى كل ما هو إيجابي وذي قيمة عليا يمكن من خلال تحليلها إحداث نوع من المراجعة للسياسات الراهنة من جهة مثلما إحداث نوع من التعزيز والتمكين لسياسات أخرى تقوم بها الدولة تجاه الثقافة والمجتمع والقيم الفاعلة فيهما من هذا الاتجاه أو ذاك. وظيفة المثقف بهذا المعنى فإن الدكتور يوسف الحسن يسعى إلى ممارسة دوره كمثقف يمكن وصفه بأنه مثقف «عضوي»، وفقا للمعنى ذاته الذي حدده الإيطالي أنطونيو غرامشي في أحد كتبه. أي أنه، بطريقة ما يعلن عن انخراطه في هموم وقضايا تشغل «بال» المجتمع والثقافة معا وبالتالي الدولة في لحظة راهنة. ولعل وظيفة أي مثقف يشعر بنوع من الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع والدولة أن يتأمل دائما التحولات الاجتماعية التي تحدثها أي سياسة من سياسات إجرائية وما تتركه هذه الإجراءات من آثار على كل المستويات سلبا أو إيجابا وتقديم اقتراحات وحلول هي في أصلها اجتهادات واقتراحات إجابة على الأسئلة الطافية على السطح والمرئية إنما غير المسكوت عنها في الوقت ذاته. في كتبه الثلاثة يمارس الدكتور يوسف الحسن هذا النوع من طرح الأسئلة واقتراحات الإجابة وإن بصور مختلفة ومتنوعة مستفيدا من خبراته في المجال الدبلوماسي كرجل دولة ومن ثقافته الشخصية أيضا بوصفه يشعر بالقلق إزاء التحولات التي تحدث (الآن، وهنا) في المجتمع والثقافة وتأثيراتها على القيم التي تشكل هاجسا من هواجس مستدامة للهوية وقلق لها؛ هي الهوية التي تنشغل بأسئلتها والأسئلة التي يطرحها عليها الآخر وتريد أن تكون إيجابية ومتفاعلة مع واقعها الاجتماعي مثلما مع واقعها المحيط والثري بهويات أخرى. وتحديدا من ذلك الموقع الذي يجعل الكتابة، بوصفها فعلا وممارسة ثقافية، أكثر إيجابية عبر احتكاكها بالقيم الأساسية التي تشغل المثقف ويراها شاغلة للمجتمع والدولة معا من وجهة نظره. وهنا، في عناوينه الثلاثة، فإن سؤال المستقبل هو الشاغل الأساسي في صنيع الدكتور يوسف الحسن. فإن بدا أنه مطمئن تجاه أمر ما أو سياسة ما، إلا أنه يحاول معاينة الأثر الذي قد تتركه تلك السياسة على الممارسة اليومية للمواطن بوصف ذلك سلوكا ثقافيا ينتسب إلى هوية ما ويعبر عنها بشكل من الأشكال. على سبيل المثال، ليس إلا، يجتهد الدكتور يوسف الحسن في كتابه «أية ثقافة.. أي مواطن.. نريد في المسقبل؟» على الأقل لمرتين لكي يشير إلى انطلاقه من موقع ممارسة وخبرات تشكلت منذ تأسيس الدولة ومعاينة لهذا الحراك الاجتماعي في تطوراته اللاحقة علن نحو يكاد يكون يوميا، وهو دأب يُحسب لصالح الدكتور يوسف الحسن مثلما يُحسب في صالح ما يناقشه من قضايا في كتبه. الثقافة والتنمية في أول الاجتهادين يسعى المؤلف إلى صياغة استراتيجية ثقافية تتأسس على «فصل استراتيجية الثقافة عن خطط التنمية الاقتصادية القائمة والمستقبلية» ويؤكد أن هذه النظرة تنطلق من «تعذر وجود علاقات تأثير متبادل وعضوي بينهما» أي بين استراتيجية الثقافة وخطط التنمية، لأن ذلك «لا يخدم غايات الثقافة والتخطيط التنموي في آن، فالثقافة ليست كيانا مغلقاً على ذاته، بل هي في تفاعل وتبادل وتأثير في الاجتماع والاقتصاد والهوية والقيم والحاضر والمستقبل. وهي أيضا الاقتصاد الآخر لأي شعب، وهي حصن الدفاع الأخير عن هويته وكيانه». في هذا الصدد يحدد الدكتور يوسف الحسن أحد عشر بندا هي، من وجهة نظره «المحاور الرئيسة لأية استراتيجية ناجحة التعرف إلى طبيعة التحديات المهمة التي تواجه الثقافة في الإمارات وتحليل أوجه القصور فيها»، منطلقا في ذلك من «واقع قراءاتي وخبرتي العملية المباشرة». واللفت للانتباه ها هنا هو السعي إلى توصيف الثقافة لجهة تعريفها وتحديدها بوصفها سلوكا يوميا تمارسه الدولة مثلما أنها سلوك يومي يمارسه الفرد المواطن أيضا، وفي سبيل جعل هاتين المارستين متناغمتين أو تسيران جنبا إلى جنب يطرح المؤلف العديد من الملاحظات بوصفها تحديات تواجه التنمية الاستراتيجية الثقافية في الدولة والمجتمع وكذلك بوصفها تحديات يمكن من خلالها «لأية استراتيجية ناجحة التعرف إلى طبيعة التحديات المهمة التي تواجه الثقافة في الإمارات، وتحليل أوجه القصور فيها». من بين تلك البنود، فإن من اللافت جدا ها هنا هو التشخيص الذي يتضمنه البند الثامن من مقترحات الدكتور يوسف الحسن الأحد عشر والذي هو على نحو ما ورد في النص: “تحديات تكوين رأسمال بشري ثقافي كركيزة أساسية في بناء الغد، وهي تحديات لا تواجه بالنشاطات الثقافية الموسمية ولا بـ”الوجاهة الثقافية”، وإنما من خلال انخراط المواطن والمواطنة في الفعل الثقافي إبداعا وإسهاما واستمتاعا، وبتضافر جهود التعليم والإعلام والاقتصاد والمجتمع وتوفير المزيد من حريات التعبير والإبداع الثقافي واحترام المعايير النوعية للثقافة وتكثيف الإشعاع الثقافي الذي يحفز الناس على الارتقاء الفكري والسمو الابداعي والانفتاح على العصر والتسامح الثقافي”. إلا أن ما يلاحظه القارئ في هذا المجال هو أن الدكتور يوسف الحسن يتكئ في مجمل طروحاته على قيم الانفتاح السياسي والثقافي، وقبل ذلك الإنساني، التي رافقت تأسيس الدولة والتي أسس لها الراحل المغفور له بإذن الله الشيخ زايد. وذلك في مسعى لإيجاد نوع من الاستمرارية بين الماضي والراهن بكل ما يطرحه هذا الراهن من “قلق” في الهوية من جراء “قلق” تجاه القيم وفقا لعنوان الكتاب الصادر أيضا ضمن هذه الكتب الثلاثة. أما في صدد الإجابة عن التساؤل الأساسي الذي يطرحه هذا الكتاب، أي “أي مواطن نريد في المستقبل؟” فيقول المؤلف في اجتهاده الثاني: “إننا نسعى لإعداد مواطن منتم بولائه إلى وطنه واتحاده، واع بتراثه وتاريخه وبحقوقه وواجباته، ومعتز بلغته وهويته العربية الإسلامية. كما نسعى إلى إعداد مواطن منتج، باعتبار أن محك «المواطنة» هو الإنجاز والإداع والجدارة، والمواطن العصري (هو مواطن) منفتح ومشارك في التنمية، وحامل لقيم العمل والعدل والحرية، وباحث عن المعرفة والحكمة من أي وعاء خرجت، وغير ذلك من السمات والقيم”. قلق القيم أما في “قلق القيم” فإن دائرة انشغال الدكتور يوسف الحسن تتسع لتصبح ذات شمولية عربية إجمالا مع أنها تتخذ من هذا القلق نموذجا لها تجاه ما يحدث في المجتمعات الخليجية. وهدفه من دراسته هذه يحدده منذ البدء بأنه الدعوة لإدراك القيم الفاعلة في هذه المجتمعات وضرورة الوعي بـ”أهميتها ونسقها وبنائها، بهدف تطوير الإيجابي منها، بما يحقق تماسك هذه المجتمعات وتقدمها وخلق بنية شعورية واحدة، ومنظومة قيم مشتركة وهوية جامعة منفتحة” بحسب تعبير المؤلف في تقديمه الكتاب. هنا يعترف المؤلف، إذ يتساءل ما العمل؟، بأن “جميع المجتمعات الخليج العربي قد عصفت بها تحولات جذرية، أحدثت هزة في المنظومات القيمية”، ليتساءل أيضا “كيف تتحول المدرسة ساحة لتنمية أخلاق ومبادئ وقيم المواطنة واحترام الغير ومعرفة الحقوق والواجبات وإدراك قيم القدوة، خاصة في احترام الوقت والعمل المثابر والقانون وضبط النفس والصدق والإيثار والمشاركة والإبداع وروح الفريق والتماسك الأسري والمسئولية الأخلاقية والاجتماعية وغيرها من القيم البنّاءة؟”. كما يؤكد على أن المطلوب، نظرا للإحساس بمسؤولية أخلاقية تجاه الدولة والمجتمع بوصفهما كيانا واحدا، يتمثل في “التوافق على منظومة قيم متوازنة تبني هوية معافاة وتعزز الثقة بالنفس وتضمن المستقبل الآمن والنافع والسعيد”. لكنه ـ أي الكتاب ـ قد لا يستدر كثيرا من الكلام الذي يجري حوله، نظرا لأن جملة ما هو مطروح فيه يعبر عن وجهة نظر شخصية هي مزيج من الثقافة الشخصية والأفكار والخبرات والقراءات، وربما أيضا تلك المشاعر التي تقف الغيرة الإيجابية الناجمة عن الإحساس بالمسؤولية لدى أي مثقف حقيقي، باستثناء ضرورة أن يجري حوار حول ما المقصود ببناء ؛هوية معافاة”. لقد بات محسوما ربما أن الهوية بكل ما تنطوي عليه من قيم واعتبارات ثقافية غير ثقافية مادية وغير مادية هي دوما مطرح جدل واتفاق واختلاف بل وأخذ وردّ، إذ لا يمكن لحسم أمر أن تكون هناك “هوية معافاة”، إلا إذا كانت محسومة سلفا وهو الأمر الذي لا يتفق مع “هوية” دولة ومجتمع يتحددان بمرجعيات تخص “كيان” دولة وجغرافيا ثابتة تاريخيا، وينظر إليها “الغير”، أيا كان، على أنها كذلك، وفي الوقت نفسه تسعى هذه الدولة، برافعة اجتماعية، إلى أن تحيا عصرها الراهن وظرفها التاريخي بكل ما ينطوي عليه ذلك من إلحاح لأسئلة الهوية من جهة وموقع الدولة من العالم من جهة أخرى. الأرجح أن مفهوم أو مصطلح سياسي – اجتماعي من نوع “هوية معافاة” يجدر به المزيد من الجدل والنقاش حوله خاصة في مجتمعات حديثة ليست خليجية فقط بل وعربية إجمالا وتمرّ بمخاضات قد تؤدي في المستقبل إلى تحولات عنيفة يصعب التنبؤ بها. ذاكرة وتجارب في أية حال. إلى الكتاب الأخير “ذاكرة الأمكنة” الذي هو كتاب تذكّر وخبرات انتقال من مكان إلى آخر؛ أو بالأحرى هو عن ما يبقى في الذاكرة الفردية ويتحول إلى إلى أفكار من الممكن التعبير عنها بحميمية وسلاسة ناتجة بدورها عن ثراء في التجربة الشخصية والإنسانية المكتسبة عن التنقل بين تلك الأمكنة بوصفها معرفة جديدة تنضاف إلى الأفكار والمعارف والخبرات الحسية التي تتراكم يوميا ربما إلى خبرة المؤلف في الكتابة أيضا. غير أن الكتاب ليس “نبشا” في الأوراق أو الذاكرة فقط بل هو “نبش” في المشاعر والأفكار أيضا، إنما التي لا تروم من الكتابة سوى الكتابة في حد ذاتها بوصفها فعلا ابداعيا، مع أن “ذاكرة الأمكنة” هو كتاب شخصيات لا تأخذ مكانتها من موقعها السياسي أو الدبلوماسي فقط، بل من مواقفها الإنسانية أيضا. في هذا الكتاب كذلك يمارس الدكتور يوسف الحسن استعادة للشخصيات والأمكنة من الذاكرة وفقا لما تركته في الذاكرة إلى حد أنه نوع من الكتابة التي هي في الأساس “تمرين” في التذكر للمشاعر والأحاسيس وإعادة التقاطها في طزاجتها الأولى وحميميتها الأولى أيضا. يكشف الكتاب عن ثراء في التجربة الإنسانية ومعاينة تلك التأثيرات على “شخصية” الكاتب التي تركتها أمكنة وشخصيات ومدن وعواصم أثناء أداء عمله الدبلوماسي الذي بدا مؤثرا جداً في الكتابة. بهذا المعنى ليس الكتاب محايدا، بل هو رحلة من نوع آخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©