الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قسطنطين كافافي.. النائي الداني

قسطنطين كافافي.. النائي الداني
21 مايو 2014 21:16
في المقدّمة التي خصّصتها لأعماله الشعريّة الكاملة، الصّادرة عن دار «غاليمار» الفرنسيّة المرموقة، كتبت الروائية الكبيرة مارغريت يورنسنار تقول: «كافافي هو الشاعر الأكثر شهرة في اليونان المعاصرة، وهو أيضاً الأكبر، والأكثر براعة على أيّة حال، وربّما الأكثر ابتكارا وحداثة. مع ذلك هو أكثر من تغذّى من زبدة الماضي التي لا تنضب أبدا». وفي السياق نفسه، كتب الفرنسي جورج كاتوي يقول: «التاريخ بالنسبة لكافافي هو ذلك التفاعل بين الماضي والحاضر، حيث الماضي يعمل في الحاضر، الذي هو نفسه يعمل على المستقبل (...). وهو يعيش التاريخ كما لو أنه امتداده الشخصيّ ضمن زمن أكثر اتساعاً، وهذا الماضي «الحيّ» هو أيضاً مؤسس على دوام به يمكن أن يتواصل بطريقة قابلة للانعكاس مع الماضي والمستقبل». حسّونة المصباحي هاتان الفقرتان البليغتان تعكسان تجربة واحد من أعظم شعراء القرن العشرين، وأعني بذلك قسطنطين كافافي (1863 ـ 1933) الذي أمضى مسيرته الأدبيّة من بدايتها إلى نهايتها في كتابة، وإعادة كتابة، القصائد التي تضمنها ديوانه الشعري اليتيم، تماما مثلما كان حال الشاعر الأميركي والت ويتمان صاحب ديوان «أوراق العشب»، وبودلير صاحب ديوان «أزهار الشر». وفي أغلب القصائد التي كتبها، كان كافافي يعيد تشكيل العالم الهيليني القديم بطريقة بديعة وآسرة لم يسبق لها مثيل. غير أن ذلك لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنه كان منفصلاً عن عصره. ففي قصيدة من تلك القصائد التي تتحدث عن الماضي البعيد، يمكن أن نستشفّ ما يحيلنا إلى العالم الداخلي للشاعر، واستكشاف هواجسه، وأحلامه، وأفكاره، سواء في أوقات الطمأنينة أو في أوقات الاضطراب. وفي واحدة من قصائده، عرّف كافافي نفسه على النحو التالي: إذا أنت لم تصنع حياتك كما أنت تريد فحاول على الأقل ألاّ تجعلها رخيصة بعلاقات كثيرة مع العالم كل ما هو عظيم يحدث بعيدا عن الساحة العامة، وبعيدا عن الساحة العامة، وعن المجد يمكث في كلّ العصور مكتشفو القيم الجديدة وفعلاً حرص كافافي من البداية إلى النهاية على أن ينأى بنفسه عن العالم الخارجي، وعن العلاقات التي قد تفصله عن عالمه الداخلي الثري والفسيح. لذا لم يحتكّ بالناس إلاّ قليلا. ولم ينتم إلى أيّ مدرسة من المدارس الشعرية السائدة في زمنه. ولم يسع إلى الشهرة. وفي مدينة الإسكندرية التي عشقها، وفيها أقام الشطر الأكبر من حياته، عاش حياة كانت في ظاهرها رتيبة، ومملة، غير أنها كانت في الحقيقة عميقة وثرية، ومتّصلة اتصالاً وثيقاً بالشعر في معناه العميق. وقد عبّر كافافي عن عالمه الداخلي في قصيدة، بعنوان: «أصوات»، وفيها يقول: أصوات خياليّة، أصوات حبيبة لأولئك الذين رحلوا عن الدنيا أو لأولئك الذين ضاعوا فأصبحوا كالأموات بالنسبة لي أحيانا تتحدث إلينا تلك الأصوات في أحلامنا أحياناً أخرى تفعل ذلك من أعماق قلوبنا، فيسمعنا فكرنا. وفي لحظة ما تأتي إلينا بصدى الشعر تتلاشى مثل موسيقى بعيدة... من الإسكندرية ولد قسطنطين كافافي في مدينة الاسكندرية عام 1863، أي بعد مرور أربعة أعوام على رحيل «بالماس» الذي كان اليونانيّون يعتبرونه «أب الشعر الحديث» في بلادهم، والذي كان غزير الإنتاج. غير أن كافافي لم يتأثر به، ولم يعره اهتماما، بل لعله لم يكن يرى في أعماله ما يمكن أن يستحقّ الانتباه والتقدير. وصحيح أنه لم يكن مثله غزير الإنتاج، إلاّ أنه كان مكتفيا بعالمه، وواثقا من نفسه، ومن فنّه وثوقا كبيرا، معتقدا أن على الشاعر أن يظلّ شاعرا أولاً وأخيرا. وهذا ما سوف يعبر عنه حين كتب يقول: «أغلب الشعراء هم شعراء حصريّاً، وهذا ما لم يكنه بالماس البتة. فقد كتب قصصا. أنا شاعر مؤرخ، وأنا عاجز عن كتابة روايات، أو مسرحيّات، غير أن هناك أصواتا داخليّة تقول لي إن عمل المؤرخ يمكن أن يكون في متناولي، إلاّ أن الوقت لم يعد يسمح بذلك». على هذا الكلام، تعلّق مارغريت يورسنار قائلة: «كان كافافي يحتقر عمدا التوجّهات الكبيرة، وحركات جموح التاريخ الهائلة. وهو لا يسعى أن يتملّك ثانية كائنا في أعماق تجربته، وفي تغيّراته، وفي دوامه. وهو لا يصوّر القيصر، ولا يعيد الحياة لكومة المادة، والأهواء التي تجسد مارك أنطوان. هو يبرز لنا لحظة من لحظات القيصر، وهو يتأمل في منعرج من منعرجات مصير أنطوان، وطريقته التاريخية تتماثل مع طريقة مونتاني. وهو يأخذ من هيرودوتس، ومن بوليبيوس، ومن بلوتاركه، ومن مؤرخين مغمورين من الامبراطورية الرومانية، أو من بيزنطة أمثلة، ونصائح، وأحيانا مهيّجات جنسيّة دقيقة. وهو أخلاقي غالب الأحيان، وإنساني بالخصوص. وهو يقتصر إراديّا أو غير إرادي على اللمحة السريعة، وعلى الظاهرة الواضحة والعارية». وكان مولد كافافي في بيت متواضع بشارع «شريف»، وهو أحد الشوارع التجارية في الحيّ الأوروبي بالاسكندرية. وثمة من بين أفراد هذه العائلة اليونانية العريقة من كان معروفا ومشهورا. فجان كافافي المولود عام 1701 والمتوفى عام 1762، والذي هو جدّ الشاعر، كان قد قضى سنوات طويلة في فيينا، وحصل على أوسمة من الأمبراطور النمساوي. أما الجدّ الآخر جورج ـ جان كافافي (1806 ـ 1891) فقد تزوج من حفيدة بارتينيوس، البطريرك الأورثوذكسي للإسكندرية من عام 1788 الى عام 1805. وقد استقر قسم من العائلة في العاصمة البريطانية لندن خلال القرن التاسع عشر. وبين 1850 و1870، حصلت عائلة كافافي على الثروة في مصر بعد أن أنشأت واحدة من أهمّ المؤسسات التجارية في البلاد، وكانت لهذه المؤسسة فروع في كلّ من لندن، وليفربول، ومانشستر، ومرسيليا، والقسطنطينية. وكانت والدة كافافي من أصول بيزنطيّة، وهو ما يفسّر ميل الشاعر إلى الفضاء الشرقي للحضارة الإغريقيّة، أي الفضاء البيزنطي، وحضوره القوي في أشعاره.. فلم تكن اليونان تعني لكافافي أثينا وديمقراطيتها، وفلاسفتها، وهوميروس صاحب «الأوذيسة»، و«الألياذة»، وإنما هي بيزنطة بالخصوص، ونساؤها، اللاتي لعبن أدوارا سياسية، مثل ايرين دوكاس، وايرين أسانا، وكليوبترا، وآن كومنان التي كتب عنها قصيدة فيها يقول فيها: «في مقدمة كتابها Alexiade تتذمّر آن كومنان من عنوستها، ويبدو رأسها كأنه يدور: «أغرق عيني في سيل من الدموع... آه العواصف...»، وعن مصيرها: «واأسفاه... كم من تقلبات». والألم يحرق «حتى العظام، حتى النخاع الشوكيّ، وحتى أعماق الروح». غير أنه يبدو أن هذه المرأة المتعطشة للسّلطة لم تعرف غير مرارة واحدة شديدة: هذه اليونانية المتكبرة كانت تتألم من الهزيمة من دون أن تعترف بذلك. ورغم مهارتها في تولّي العرش، لكن واأسفاه جان في صفاقته، اقتلعه من يدها». حضور بيزنطي وتحضر بيزنطة في العديد من القصائد الأخرى، مثل قصيدة «نبيل بيزنطي في المنفى يكتب الأشعار»، وفيها يقول: «ليصفني أصحاب العقول الخفيفة بالخفيف! أمّا انأ فقد كنت دائما جادّاً في كلّ الأعمال الجديّة، وأنا أعتقد أنه ليس هناك من هو عارف مثلي بالكتب المقدسة، وبالآباء، والكهّان. وأمام كلّ شيء مريب، ومثير للشك، وأمام كلّ مسألة معقّدة تتصل بشؤون الكنيسة، أنا الأول الذي يستشيرني «بوتانياتيس». لكن هنا، منفيّا، وضحيّة لضجر ينهشني، حتى الموت، (يا لها من سعادة بالنسبة إلى ايرين دوكاس الشرسة!)، لي الحق في أن أنظّم قصيدة هجائيّة، ولكي أسلّي نفسي، أكتب أشعارا عن مغامرات «هرمس»، و«أبولون»، و«ديونيزوس»، أو عن شجاعة أبطال «ثيسالينس، أو«شبيلوبونيزين»، وأن أبدع في الوزن الأيامبي، واسمحوا لي أن أقول لكم إن كلّ هذا هو ما يعجز أدباء القسطنطينية عن القيام به، وهذه الفضيلة هي التي يستنكرونها فيّ». ويتجلّى حضور بيزنطة في قصيدة «ايثاكا»، وفيها يقول: «حين تزمع الرحيل الى ايثاكا فتمنى أن تكون الطريق طويلة، وغنيّة بالتجارب والمفاجآت، ولا تخشى لا «الليستريغونيين»، ولا «السيكلوبات»، ولا غضب «بوزيديان» الشرس إلاّ إذا ما أنت حملتهم في داخلك، وإذا لم يبرزهم قلبك أمامك. تمنى أن تكون الطريق طويلة، وأن تكون الصباحات الصيفيّة كثيرة، حيث (كم سيكون مبهجا ذلك) ستدخل موانئ لم تكن قد رأيتها من قبل. توقّف عند مراكز التجارة الفينيقية، واقتن سلعا جيّدة.. أصداف ومرجان وعنبر وأبنوس وعطور شذيّة شتّى قدْر ما تستطيع، زر العديد من المدن المصريّة، وتعلم بشغف من حكمائها. لتحتفظ دوما بايثاكا في ذاكرتك. هدفك النهائي هو أن تصل إليها، لكن لا تختصر رحلتك: فالأفضل أن يستمر ذلك سنوات طويلة حتى تبلغ جزيرتك في أيّام شيخوختك، وأنت غنيّ بكلّ ما قد كسبت في طريقك من دون أن تنتظر أن تثريك ايثاكا. ايثاكا منحتك السفرة الجميلة. من دونها لن تخطو خطوة واحدة في الطريق. لم يعد عندها ما تهبه لك. وحتى وإن وجدتها فقيرة، فإن ايثاكا لن تخدعك. وحكيما أصبحت بعد كلّ التجارب، أنت أدركت أخيرا معنى «الإيثاكيّات». بعد ولادته بقليل، انتقلت عائلة كافافي للإقامة في لندن بسبب أعمالها التجارية. وعلى مدى سنوات، عاش الطفل على ضفاف نهر «التايمز» في كنف أمه التي ترمّلت مبكّرا، ومعه أخوته السبعة. وستحضر صورة الأم بطريقة مبطّنة في بعض القصائد مثل قصيدة «صلاة» التي تصف أوجاع أمّ فجعت بوفاة ابنها في البحر: «الأمواج أغرقت بحّارا في الأعماق والأمّ التي لم تعلم بذلك، تشعل شمعة أمام صورة مريم العذراء، مبتهلة الى الله أن يعود ابنها سالما، وأن يكون الطقس جميلا. ومتوجّسة، تمدّ سمعها للريح، غير أن الأيقونة الحزينة والوقورة تنصت إلى صلاتها عالمة أن الابن الذي تنتظره لن يعود»... بعد لندن، سافر كافافي الى القسطنطينية، ثم الى فرنسا، والى بعض البلدان الأوروبية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. ومن المؤكد أنه تأثر بالشعراء الفرنسيين، خصوصا فيكتور هوغو، وبودلير، وفرلين. وكان شديد الإعجاب بقصيدة صاحب رواية «البؤساء» التي يقول فيها: «أوه! عندما ذلك الماضي اللطيف، وعندما العصر من دون شوائب بثوبه الأبيض الذي كان يتعلّق به حبّنا، يعود الى ثنايانا، نحن نتشبّث به ثم كم من دموع مرّة تسفح على البقايا الذّابلة لأوهامكم الشابة المتبقية في أيديكم! لننس! لننس! عندما يموت الشباب لندع الريح تحملنا الى الأفق المعتم لا شيء يتبقّى منّا. عملنا مشكلة الإنسان،شبح ضائع، يمرّ من دون أن يترك حتى ظلّه على الجدار!». حزن إنساني ويقول الناقد الفرنسي جورج كانوي بأن سبب إعجاب كافافي بقصيدة هوغو المذكورة هو أنه وجد فيها حزن الإنسان الناضج الذي يتذكر سنوات شبابه السعيدة، وبراءته المفقودة، وعبثيّة الحياة، وخسارة الإنسان على الأرض رغم الجهود المضنية التي يبذلها لتحقيق ذاته. وفي سنوات شبابه الأخيرة، استقرّ كافافي في الاسكندريّة، ولم يغادرها بعد ذلك الاّ قبل وفاته بقليل حيث سافر الى أثينا لتلقّي العلاج إثر اصابته بسرطان في الحنجرة. وقد عمل كافافي موظّفا في مصلحة الريّ التّابعة للحكومة المصرية ناذرا أوقات فراغه للقراءة، وكتابة الشعر. ونحن لا نلاحظ أيّ تأثير لمصر القديمة، ومصر الحديثة على عالمه الشعري. وإذا ما كانت الثانية تظهر باحتشام في البعض من القصائد، المتصلة اتصالا وثيقا بحياته الخاصّة، فإنّ الأولى غائبة تماما.. ولا قصيدة واحدة تحمل اسما من أسماء الفراعنة، أو تشير اليهم من قريب، أو من بعيد. وما يحضر هو الجانب الهيليني الذي وسم الإسكندرية في الأزمنة القديمة. وهو هنا مختلف تماما عن الشاعر الإيطالي الشهير أونغاراتي الذي كان يصغره بعشرين عاما، والذي مثله ولد، وعاش في الإسكندرية، والذي قال بأنه أصبح شاعرا، بعد أن سمع أغنية عربيّة خلال طفولته. وكان أونغاراتي قد تعرّف على كافافي خلال حفل أقامه في شارع «الرملة» بالإسكندرية، كتاب يونانيون شبان احتفاء بصدور مجلّة أدبيّة. وكان كافافي يجلس بين أولئك الشبان صامتا، صارما، ودودا من حين إلى حين. وعندما يتكلم ـ وهو نادرا ما يفعل ذلك ـ كان المعجبون به يلتقطون الكلمات التي يتفوّه بها وكأنها حكم ومأثورات. وقد تعرف الكاتب البريطاني فورستر، صاحب رواية «الطريق الى الهند» على كافافي هو أيضا. وقد وصفه بأنه كان يتجوّل في شوارع الإسكندرية بقبعة من القشّ، وأنه كان يسأل مواطنيه، وأصدقاءه عن بعض الكلمات اليونانيّة القديمة قبل أن يستعملها في قصائده. كما أنه ـ أي كافافي ـ كان واسع الثقافة، وأنه كان يتقن اللغتين الانجليزية، والفرنسيّة. ويذكر الفرنسي جورج كاتاوي أنه التقى كافافي، إمّا عام 1918، أو عام 1920. وكان يبدو عجوزا رغم أنه كان في السابعة والخمسين من عمره. وكان آنذاك يسكن شقّة متواضعة في شارع «ابسيوس» كان أثاثها كلّه شرقيّا، وليس فيه ما يمكن أن يذكّر باليونان غير شمعة تضيء أمام أيقونة. وخلال اللقاء الأوّل، قرأ كافافي قصيدة من قصائده البيزنطيّة، وعلّق حولها طويلا. كما تحدث عن المعارك المضنية التي خاضها ضدّ بالماس، وأتباعه، ومريديه لإقناع أحباء الشعر بتجربته. وفي لقاء آخر، اشتكى كافافي لجورج كاتوي من «الوحدة الثقافيّة» التي كان يعيشها في الاسكندرية حيث الآداب والفنون «لا تثير اهتمام الناس» بحسب تعبيره. ويقول جورج كاتوي إن كافافي لم يكن على حقّ في ما ذهب إليه. ففي تلك الفترة، مطلع العشرينيات، كان يعيش في الاسكندرية شعراء وأدباء، البعض منهم كانوا يكتبون بالفرنسية، والبعض الآخر بالعربية مثل الشاعر خليل مطران، اللبناني الماروني. وذات يوم جمع جورج كاتوي بين كافافي وخليل مطران. وقد تمّ اللقاء بين الشاعرين في مقهى: «أتينيوس». وكان الحوار بينهما قصيرا، ولم يتكرر بعد ذلك أبدا. مع ذلك تحضر الاسكندرية، والبعض من مناخاتها، وأجوائها في أشعار كافافي. يحضر الميناء، وتحضر الأحياء الشعبية بمقاهيها، والأماكن المشبوهة، وباعة السجائر، والمطاعم الصغيرة، واللصوص، والبحّارة، والباحثون عن اللذة الجنسية في ظلمة الليل. ولعلّ الفرنسي روبير لوفاسك على حق عندما رسم صورة لكافافي في الاسكندرية قائلا: «متّسما بطبيعة شهوانيّة، وساخرة، جوّالا عاشقا للأبطال الذين رحلوا، والذين كان يلاحقهم في الاسكندرية العصريّة، تمكّن كافافي من أن ينحت لغة مخالفة للمألوف، مقلدة للقديم، وصفائيّة، متبّلة بالكلمات البذيئة التي جمعها من الأماكن المشبوهة». وفي واحدة من قصائده، يصف كافافي بحر الاسكندرية على النحو التالي: »عليّ أن أتوقّف هنا، وبدوري عليّ أن أتأمّل الطبيعة قليلا ألوان جميلة زرقاء، ألوان البحر الصباحي والسماء الخالية من السحب رمال صفراء... كلّ هذا مضاء بعظمة وجلال نعم أن أتوقف هنا، وأن أتخيّل نفسي أشاهد هذا المشهد (في الحقيقة أنا كنت قد رأيته من قبل عندما وصلت) وفي رمشة عين، وليس فقط أوهامي، وذكرياتي، ورغباتي الشهوانية«. نأي بالنفس وخلال مسيرته الشعرية، لم يهتم كافافي بالأحداث العالميّة الكبيرة. ونحن لا نجد في أشعاره أيّة إشارة الى حروب البلقان التي اندلعت عام 1912، ولا الى الحرب الكونية الأولى، ولا الى الفواجع التي عرفتها آسيا الصغرى خلال عام 1923، والتي دفعت أعدادا كبيرة من اليونانيين الى مغادرة تركيا بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، وقيام الجمهورية التركية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك. لكأنما عاش هذا الشاعر المتوحد بنفسه «خارج عصره». فما كان يشغله حقّا هو العالم الهيليني، والبيزنطي القديم. أما الحاضر فهو لا ينظر إليه إلاّ من خلال أحاسيسه وأحلامه والرغبات التي تنتابه في حياته اليومية، أو ما يلتقطه من المشاهد الصغيرة التي لا يعبأ بها الناس. وهذا ما تعكسه قصيدة: «رجل عجوز» التي يقول فيها: «رجل عجوز يجلس في القاعة الخلفية للمقهى الصاخب منحنيا على الطاولة، وأمامه جريدة، رفيقته الوحيدة من أعماق شيخوخته الحزينة، والمنفرة، يفكر أنه تمتع قليلا بالسنوات التي كان فيها شابا قويا وكان جميلا وبليغا في الكلام. وهو يعلم أنه شاخ كثيرا، وهو يحسّ بذلك ويراه.غير أنه يبدو له أنه بالأمس كان لا يزال شابا قويا لكم هو قصير ذلك الفاصل الزمني وهو يقول بأنه كان ساذجا للغاية (يا له من جنون!) وهو استمع أكثر مما ينبغي الى الحكمة الكاذبة التي كانت تهمس له: «غدا سيدون عندك ما يكفي من الوقت!».. وهو يتذكر اندفاعات مكبوحة ومباهج عديدة ضحّى بها والآن كلّ فرصة ضائعة تزدري بحذره الأحمق غير أن أفكارا وذكريات كثيرة تدوّخ الرجل العجوز عندئذ ينام مسندا رأسه الى طاولة المقهى». واصفا العالم الشعري لكافافي، كتب جورج كاتوي يقول: «مثل شكسبير في رباعيّاته، ومثل بودلير، وجيل لافورغ في قصائدهما، يستعمل كافافي المونولوج الدرامي أو الحوار. وهكذا يمكن القول بأن أشعاره محدثة من تحسّرات تمّ التقاطها بعناية. وعنده فكرة القصيدة، والشخصيّة المذكورة ليستا إلاّ واحدا. والوضع التاريخي المحدّد يساعده على التعبير عن إحساس خاص. وأحيانا يتكلم الشاعر باسمه الخاص، وينقل إلينا ذكراه كواقع تمّ الإحساس به مباشرة. وعندئذ لا يكون بالنسبة له موضع نبيل. فـ«البدلة القرفية اللون، ويد حدّاد ملطخة بالشحم والصدأ يمكن أن تثير شعورا معيّنا. ففيهما يجد الشاعر الجمال. وهذا الجمال لن يكون أقلّ من جمال السماء، أو مشهد طبيعي، أو معلم تاريخي. وباستطاعته أن يجد في أيّ مكان الجمال العابر، الزائل للحياة الحاضرة التي كان بودلير أول مكتشف لها». في السنوات الأخيرة من حياته، أصيب كافافي بسرطان في الحنجرة، ومات عام 1933. ولم تصدر أعماله الشعرية إلاّ عقب وفاته بسنتين، أي في عام 1935.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©