الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوديسيوس السوري عائداً إلى خيمة حمص

أوديسيوس السوري عائداً إلى خيمة حمص
21 مايو 2014 21:16
لينا أبو بكر الفارق بين إيثاكا وحمص، أن حمص لا تنتظر المهاجر كي يعود إليها، بل تسافر إليه كي يعود بها... وهذه خاصية الشام... يا بلد... ما هَمَّ الخراب، وقد اكتحلت الندوب بالإياب... يا بلد... تعالي إليك.. الآن تخرج الشمس من أفران الفجر وهي تعجن خبز الصباح بيد الأمهات... الآن يصحو الشهداء على زغاريد الصبايا في حقول السماء... الله يا حمص... ما أروع الرب الآن..! *** لو تأملنا قليلا في ثقافة العودة عند الشعوب التي هجرت قسرياً من أراضيها، لأدركنا كم هي الرحلة مخاتلة حد الخيانة، لأن من يكرس لأدب الرحلة، لا بد أن ينسى في غفلة من سحرها أدب العودة، طالما أن المحطة الأخيرة في يقين المثقف هي محطة جامدة، رغم أن العكس هو الصحيح كما يفترض بالوعي التاريخي لكارثة التهجير أن يكون! إن الزمنين متأرجحان، على صراط واحد، هو الثبات، بمعنى أنك لن تقبل من الزمنين سوى الارتكاز على اليقين الذي يجعل من الرحلة طريقا للعودة، ومن العودة محفزا على الرحلة، بالتالي لا بد للوطن أن يكون بوصلة تحرك الزمنين باتجاهه... الوطن إذن هو اليقين! على الطرف الآخر، هناك لعبة مضمرة مع الزمن يلعبها المنتظرون، في إخاطة كفن يتم نسله كل صباح، للتحايل على الطامعين، فما أن تنكشف الحيلة حتى يحسم التحايل بالقوس نتيجة الانتظار لصالح العائد... الانتظار لا يرتبط بالرحلة قدر ارتباطه بالعودة، والمنتظرون أبطال المكان، وحراس الحنين، يتقاسمون غلة الفرح مع الوطن تماما كما يتقاسمون غلة العذاب مع الافتقاد إليه... وإنها حمص... بين تاريخين: القيامة والقيامة، أما القيامة الأولى فهي قيامة الثورة التي نكشت القبور فأحيت العظام وهي رميم، لكنها لم تدرك أنها تحيي عظام الوحوش في أوذيسة هوميروس، والقيامة الثانية، هي قيامة الصحوة من القيامة الأولى، وهذه تحيي الحجر بعد أن تحول إلى طلل، وهي قيامة ناجزة، لأنها تستدعي ذاكرة المكان عن طريق استدراك آثام المخيلة التي نصبت شباكها للوعي، فجعلته يخطئ التقدير بين البعث والفوضى.. تاريخ حمص إذن تاريخ أثر، قبل أن يكون تاريخا ميثولوجيا، لأن المكان بصفته الآركيولوجية يحدد مسارب الحكاية، بل ويشذبها حين تجنح للمبالغة، حتى القصص يصبح بناء مطعما بنفحات حجرية لما ترى قوافل العائدين يربتون على كتف الخراب بأكف الذاكرة... ويحملون فؤوسهم على ظهر القيامة، بهمة التائقين إلى عشبة العودة... حتى العودة تصبح مختبرا لتحضير قيامات نظيفة، وأرواح أليفة، فالعودة ليست نهاية الاستدراك، بل إنها البداية، مادام الإياب منوطا بزمن جديد. *** حمص التي تقف الآن أمام مرآة العودة، منهكة، ولكنها تستجمع قواها من فرحة العائدين إلى ديار مجازية، تتجاوز المجاز، وهي تمسك بزمامه كي ترتب الحياة بشجاعة من يصنعون واقعهم من لحظة الصفر: صفر الانطلاقة... حيث ينفخ العائد في صور القيامة، ويعلن بعث الفينيق ونشور المدن... حمص لن تكون أندلسا مفقودة، ولن نقف على أبوابها ونحن نرثي الأمكنة، لأن المكان لا يموت، ما دامت الذاكرة سيف الوقت الذي يقطع الشك باليقين، لأن اليقين ذاكرة.. الهاجس الأول للعائد دائما مرتبط ببؤرة يحددها الحنين ليس إلى الزمن بقدر ما هو تولع بالمحيط، بكل صوره وتجلياته، فحمص تصبح كتلة حواس، مشبعة بالرائحة، والصور، وآثار الأقدام على أديم التراب، وأثر الحيطان على ظهور المتكئين عليها، وبصمات الأبواب على مفاتيح اليدين التي كانت تلج البيوت بعينين مغمضتين إذ تستدل على الطريق بحاسة العودة... وإنها حمص... لم تعد موصدة، ولا خربة، ولا مهجورة، ولا راحلة... حمص التي تترجل عن ظهر الحدود، تحتفي الآن بمشهدية البناء في فضاء اجتماعي خصب، وتنقش مذكرتها الجغرافية على جدارية الأوبة... وحمص كأنها حمص... توقظ المنازل من سبات الرحلة، لأن الغياب آنيٌّ ما دام الإياب يتربص بما مضى كي يقبض على جمرة الآتي... *** يقول إدوارد سعيد: “وجدت الشعوب نفسها تخضع لأكثر التحولات الاجتماعية سرعة في التاريخ، أصبح عصرنا عصر بحث عن جذور؛ عصر تحاول فيه الشعوب أن تكشف في الذاكرة الجمعية لعرقها وديانتها وطائفتها وأسرها عن ماض هو ماضيهم بقضه وقضيضه، ماض في مأمن عن نهب التاريخ وفي مأمن عن حقبة عاصفة”... ألا يعني هذا أن بمقدور الشعوب أن تصادر مقص التهجير الإرهابي؟ ألا يعني أننا نقف أمام فلسفة شعبية تستطيع أن ترمم التاريخ بالإصرار على إعادة التأريخ للتاريخ؟! لن يكون بمقدور شعب مظلوم أن يتنازل عن حلمه، لأن الحلم أول خارطة حقيقية لرسم معالم الطريق إلى حمص... إن إعادة البناء بالدرجة الأولى بعد أخلاقي، يؤنسن العودة، التي تصبح نصبا تذكيريا لجندي معلوم، يعزز الهوية القومية لأصحاب الحق بالمكان: الشعب وليس من يتقاتلون على حكم الشعب! إن المكان يسرد سيرته بفؤوس من سكنوه لا بمعاول من هدموه.. وإن العائد حطاب المكان... وما الحرب الأهلية سوى نفايات وطنية، لا شهداء فيها سوى الأبرياء، ولا طرف فيها على حق سوى الضحية، كل أطرافها مهزومون، ومن ينتصر في النهاية هو الوطن.. *** فوتوغرافيا العودة أجمل من فوتوغرافيا الهجرة، رغم أنها متفتقة من رحمها، وبين الفوتوغرافيتين نيجاتيف فائض عن حاجة الصورة، لا يمكن الاستغناء عنه بطبيعة الحال، ولكن يمكن حفظه في أرشيف الزمن، واستعادته كجملة معترضة بين مكانين: ما كان وما سيكون! وإنها حمص... عائدة إلى حمص... المدينة الأنثى، لأن المدن نساء، والنساء في عرف البداوة هن من يحكن خيامهن، فما أن ترحل ربة الخيمة حتى ينكس القوم خيمتها حزنا على رحيلها... فيا الله ما أعظم الأحزان! لقد نكس الغياب خيمتهم حزنا على رحيل المدينة، والخيمة الآن تنهض من قيلولة الموت، لتبشر بصحوة الخيمة، تنصب الوتد فوق رمال طازجة، تولد من جديد من رحم صحراء غضة... كأن الخيمة جنة فوق جنة... وهنالك فارق شاسع بين خيام القيامة وخيام اللجوء! *** يا حمص... لا شتات يستطيع التهام المكان، لا لجوء يستطيع اختصار الذاكرة، لا مكان يستطيع محو المكان.. يا حمص يا ربة العائدين إلى خيام القيامة... يا ربة العاصي، وسهلة الغاب، يا إيميسا... حاضنة الآلهة وهيكل الشمس في معبد النساء، يا زنوبيا الغواية في مخادع الحوريات... يا بيدر القمح الأسمر في حقل الفتنة يستلقي على خاصرة المتوسط محفوفا بمراكب الصيادين الذين يتهافتون على خيمة الحسان بسنارة القلب... أقيمي الآن صلاة العودة يا حبيبة الصلوات... كأنك إمامة العودة وقبطانة الخيام... كأنك عودتي يا حمص.. كأنك رحلتي... كأنك الآن فلسطين!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©